حديث الصراع بين الجهات الدينية (1)
لا أخفي عليك عزيزي القارئ حيرتي الكبيرة وترددي الشديد وأنا أبدأ الكتابة في هذا الموضوع، الذي لا يريحني كثيراً بل يستوقفني عن المضي في كل مفرداته وجمله، إنني أجد الكابح عن المواصلة قوياً في نفسي، كما أجد الدافع كذلك، بيد أن التثبيط هنا أقوى من المشجعات التي كنت أدفئ بها نفسي إذا ما بردت وتوانت عن المواصلة.
ما كنت أسمعه منذ صغري أن سبب الصراع بين هذا الطرف المتدين أو ذاك هو الواجب الشرعي الذي ينطلق منه أحدهما أو كلاهما ضد الآخر، لكن يبدو لي أنه ستار لأسباب بعضها وسخة وقدرة في صراع المتدينين مع بعضهم، فهل من المناسب أن تبحث تلك الأسباب؟ أم أن السكوت عنها أجدى وأسلم؟
إنني أرى نفسي بين خيارين لا ثالث لهما:
الأول هو خيار الصمت والتستر وإبقاء المسكوت عنه في طي الكتمان، والثاني هو خيار الجهر والإعلان وإظهار المسكوت عنه إلى السطح كي يبحث ويأخذ حقه من البحث والإنضاج.
إن ما يساعد ويؤكد الحيرة في نفسي، هو توجسي من المجتمع كأفراد سيماهم الصلاح والتقوى، والتدين والورع كيف سيتعاطون مع صراحة ونقد يمس الصميم والأعماق والمسلمات التي أنسها العرف الاجتماعي، أما الأمر الآخر الذي ما استتر عن الملاحظة فهو القوى العاملة والنشطة في الساحة، من كيانات وكتل وتجمعات متمايزة - وإن لم يكن لها مسميات تشير إليها - وشخصيات متنفذة ومحترمة في الوسط الاجتماعي، ألا ترى هذه القوى أن الحديث في شأن المتدينين فيه بعض الجرأة والخدش والمساس بأمور محظورة؟
بيد أن ما كان يسليني ويخفف حيرتي هو أن الأمر مهما كبر في نفوس المؤمنين، فلن يتعدى قول الإمام علي «ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يقلبك عنه، ولا تظننَّ بكلمة خرجت من أخيك سوء وأنت تجد لها في الخير سبيلاً».
وحتى تشاركني التفكير في حيرتي وما عزمت عليه، أحببت أن أعرض لك الخيارين السابقين ببعض التفصيل غير الممل والذي أرجو أن تكون فيه بعض الفائدة، والغرض من ذلك أن تشد على يدي إن كنت توافقني الرأي، وأن لا تبخل بإرشادي ونصحي إن كنت جانبت الصواب أو أضعت الجادة.
ولهذا الخيار بعض المزايا التي يجب أن تكون نصب العين لأهميتها:
(1) إبقاء حالة القداسة على المتدينين، فأمام الإعلام المنظم والمكثف للنيل من مكانة المتدينين وتشويههم، وتحويلهم إلى قتلة ومجرمين وإرهابيين في نظر المجتمع، وهو ما دأبت عليه وسائل كافة، ستكون الكتابة في هذا الموضوع والإجابات الصريحة على التساؤلات التي يكتنفها، مساهمة مجانية يقدمها المتدينون للإضرار بسمعتهم ومكانتهم.
(2) إن الحديث عن حالات الصراع بين المتدينين، يزيد من تضخيم هذه الحالة، وتسليط الضوء عليها، الأمر الذي ربما يعكس رد فعل اجتماعي تجاه المتدينين، ويتسبب في نفور المجتمع عن كل ما يمتّ لهم بصلة من عمل أو نشاط أو مساهمة، مما يزيد في عزلة المتدينين الاجتماعية، وهذه خسارة للمجتمع، وضياع لأجياله.
(3) إشاعة الفاحشة، فإذا كان الصراع بين المتدينين خطأ وزلة، فإن الحديث العلني عنه لربما كان من إشاعة الفاحشة في المجتمع المتدين وهو أمر مبغوض ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ﴾.
-عن هذا الخيار-
(1) إن التصور الآنف الذكر قد يزيد من الأنس في نفوسنا، ويريح شد الأعصاب الذي يعيشه المجتمع جراء صراعاته، ويهدئ من الروع قليلاً باعتباره يحمل اعترافاً ضمنياً مبطناً أن المجتمع لايزال بخير وأخلاق عالية وورع شديد.
(2) الانسياق مع رغبة المجتمع، وعدم جرح كبريائه وشموخه.
(3) يبعد المجيب أو الكاتب عن أغلب ردود الفعل المحتملة، جراء ما ربما يتصور أنه نيل من كرامة المجتمع أو تجرؤ على مقدساته.
وسيأتي الحديث عن الخيار الآخر.