نعم ننقد تاريخنا.. ولكن لا ننقد ديننا
نشرت جريدة الشق الأوسط مناقشةً لسماحة الشيخ حسن موسى الصفار مع الاستاذ حامد الرفاعي، حول مقالته (العالم الاسلامي والديموقراطية .. ومن قال انها قصة لا تنتهي) تعقيبا على مقالة الشيخ الصفار (العالم الاسلامي والديموقراطية ..قصة لا تنتهي). جاء ذلك في العدد 9397 الجمعة 4 رجب 1425هـ (20 أغسطس 2004م). ويخلص الشيخ الصفار في مناقشته بقوله: إننا بحاجة إلى شجاعة ادبية وجرأة موضوعية لتشخيص مواقع الخطأ، كما نشيد بمواقع القوة ونفخر بها في تاريخنا المجيد. ولا يعني ذلك أن نستغرق في مشاكل التاريخ الماضي، ولا أن ننشغل بالخلاف حول احداثها، ولا ان نمعن في جلد الذات، ولكن تقديس الذات وتبرئتها وتمجيد كل ما سلف وسبق هو حالة سلبية خاطئة.
وهذا نص ما نشرته الجريدة:
التحسس من نقد الذات، حالة مرضية سلبية، تنتج عن غرور زائف، أو شعور بالضعف يجري التستر عليه، وتؤدي هذه الحالة إلى تكريس الأخطاء والثغرات، وتفويت فرص معالجتها وتجاوزها.
وقد حذر القرآن الكريم من هذا المرض الخطير ونهى عن تبرئة الذات وتزكيتها. يقول تعالى: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي﴾. ويقول تعالى: ﴿فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ﴾، ويقول تعالى:
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلْ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ﴾.
وكما يصيب هذا المرض الذات الفردية فإنه يصيب الذات الجماعية، بأن تتحسس الأمة من نقد ذاتها وأوضاعها الراهنة أو على مستوى التاريخ.
إن الأصالة والحرص على هويّة الأمة وتقدير تاريخها وإنجازاتها الحضارية لا يعني تجاهل الأخطاء والثغرات ونقاط الضعف، فإن القرآن الكريم الذي ينص على الخيريّة المشروطة لهذه الأمة، ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ﴾ هو ذاته يسجل النقد اللاذع لطليعة هذه الأمة أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، في مواقع الضعف والخطأ كقوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ﴾ وقوله تعالى: ﴿إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ﴾.
من هذا المنطلق، تكون مناقشتي هنا مع الاخ الكريم الاستاذ حامد الرفاعي، الأمين العام المساعد لمؤتمر العالم الإسلامي، ورئيس المنتدى الإسلامي العالمي للحوار، حول مقالته (العالم الاسلامي والديموقراطية .. ومن قال انها قصة لا تنتهي) والتي نشرت في صحيفة «الشرق الاوسط» (5 اغسطس 2004) تعقيبا على مقالي السابق (العالم الاسلامي والديموقراطية ..قصة لا تنتهي). وقد نشر في «الشرق الاوسط» ايضا (31 يوليو 2004).
واقول مواصلة وإثراء لهذا النقاش، إن تاريخ الأمة لا يتلخص في تاريخ سلطاتها السياسية حتى يكون النقد لتلك السلطات اتهاما جماعيا بحق الأمة، ففي تاريخ الأمة أئمة هدى وعلماء وفقهاء ومفكرون وأدباء، قدموا للبشرية إنجازات حضارية عظيمة. أما على صعيد الممارسة السياسية فلا يسع المنصف إلا أن يعترف بأن في تاريخ الأمة مساحة واسعة من الاستبداد.
وكما يقول المفكر البحريني الدكتور محمد جابر الأنصاري في كتابه (العرب والسياسة أين الخلل؟): «على الرغم من التألق الروحي والعقلي والعمراني للحضارة العربية الإسلامية فإن تاريخها السياسي ظل أضعف عناصرها على الإطلاق وأشدها عتمة. فهي حضارة جميلة ورائعة لكنها تعاني من «فقر دم سياسي» ومن «أنيميا سياسية» من حيث الواقع العملي على صعيد التطبيق والنظم والممارسة... وإلى يومنا هذا تبدو الأمة العربية، بملايينها البشرية والمادية، وبامتدادها القاري، وبكل طاقاتها الهائلة المعطلة، جسماً عملاقاً برأس سياسي ضئيل في منتهى الصفر».
وينقل الدكتور الانصاري في بحثه شهادات كثيرة قديمة جديدة لأعلام من علماء الامة ومفكريها تشير إلى بؤس السياسة في الوجدان العربي، بسبب الواقع السياسي الاليم الذي عاشته الامة في أكثر عهود تاريخها.
فالدولة الأموية التي استمرت حوالي قرن من الزمن، والدولة العباسية التي دامت أكثر من خمسة قرون، ثم الدولة العثمانية التي دامت أكثر من أربعة قرون، هذه الدول، مثلا، لو قرأنا سيرها في التعامل الداخلي مع الأمة ، لرأينا بوضوح وبما لا يقبل الدفاع والتبرير أن المساحة الأوسع من تاريخ هذه الدول تتسم بالاستبداد والظلم. وهناك بعض الفرج الزمنية المحدودة، التي تختلف بطبيعة الحال عن هذا الوصف ، كالسنتين اللتين حكم فيهما عمر بن عبد العزيز، أو بسبب وجود ظروف سياسية تلجئ الحاكم للتخفيف من ضغطه وقمعه، لكنها حالات مؤقتة على كل حال.
لقد عانى فقهاء الأمة ومفكروها وعلماؤها كثيرا من سياسات الاستبداد ، التي صادرت حرياتهم حتى في المجال العلمي والفكري، فضلا عن الجانب السياسي. وما محنة القول بقدم القرآن أو حدوثه، أو ما عرف بـ«محنة خلق القرآن» إلا نموذج من تلك النماذج.
وقد جمع أحد المؤلفين المتأخرين «عبود الشالجي» بعض ما نقله التاريخ من ألوان التنكيل والقمع وانتهاكات حقوق الإنسان التي مورست تاريخيا ضد الانسان المسلم، ضمن موسوعة أطلق عليها «موسوعة العذاب» تقع في سبعة مجلدات تقشعر الأبدان من هول ما تحمله بعض صفحاتها من قصص واحداث.
ففيه فصل عن العذاب بالتغطيس في مستودعات القذر كالبالوعة والكنيف وفصل عن الوطء بالاقدام على الشخص حتى يموت، وفصل عن التعذيب بالتعليق من يد واحدة، والتعليق من يدين، والتعليق من الساق، والتعليق من الابط، والتعليق من الثدي، والتعليق منكساً، وفصل عن التعذيب بسقي الدواء المسهل، وعن التعذيب بالملح، وعن التعذيب بالخصاء، وعن سمل الاعين، وسلّ اللسان، وجذع الانف والاذن، وقلع الاضراس، وسل الاظافر، وارسال السباع والحشرات على السجين، وشق لحم البدن بالقصب، وفصل عن قتل الاسير ووضع رأسه في حجر أقرب الناس إليه كزوجته أو ابنته أو والدته، ومجلد كامل عن الوان القتل للمعارضين كالقتل بالشدخ بالعمود، والقتل رشقاً بالسهام، والقتل قعصاً بالرماح، والقتل بالبارود والرصاص، والقتل بآلات غير معدة للقتل، والقتل بالخنق، والقتل بالشنق، والقتل بالتغريق، ودفن الانسان حياً، والبناء على المعذب، وهدم البناء على المعذب، والاحراق بالنار والماء المغلي، والسلق بالماء المغلي، والحقن بالماء المغلي... واتوقف هنا عن ذكر عناوين بعض الفصول الاخرى لفظاعتها.
والكتاب مطبوع أكثر من مرة بمجلداته السبعة التي تزيد صفحاتها على 2700 صفحة ويتحدث عن مختلف الدول السابقة الماضية، وينقل معلوماته عن المصادر التاريخية المتداولة، فهل يمكن مع كل ذلك غض الطرف وتبرئة تاريخنا من وجود الاستبداد ؟
وقد يمكن التشكيك في بعض المعلومات والحوادث لكن ما لا يمكن التشكيك فيه هو حصول مساوئ كثيرة في التاريخ السياسي للأمة.
إننا بحاجة إلى شجاعة ادبية وجرأة موضوعية لتشخيص مواقع الخطأ، كما نشيد بمواقع القوة ونفخر بها في تاريخنا المجيد. ولا يعني ذلك أن نستغرق في مشاكل التاريخ الماضي، ولا أن ننشغل بالخلاف حول احداثها، ولا ان نمعن في جلد الذات، ولكن تقديس الذات وتبرئتها وتمجيد كل ما سلف وسبق هو حالة سلبية خاطئة.
إننا نفصل بين واقع الاستبداد في تاريخ الأمة وطبيعة تعاليم الإسلام وإنسانية قيمه وتشريعاته، كما ندرك أن أعلام الأمة الصالحين من الفقهاء والمفكرين كانوا مخالفين لمسيرة الظلم بل كانوا ضحايا لها في غالب الأحيان، وبالتالي فلا ندين كل تاريخ الأمة وإنما ندين ما يستحق الإدانة قصرت مساحته أو غلبت. والتقديس المطلق والتنـزيه التبريري العاطفي هو نوع مرفوض من خداع الذات.