هربوا فتبعهم أبناؤهم
لا نستطيع دائما أن نقف ضد الأبناء ونكيل لهم أصناف التهم في كل صغيرة وكبيرة، ثم نخرج أنفسنا من دائرة المسؤولية، فليس الولد دائما هو من نفر عن والديه وأسرته، وليس هو من مزق الشمل وفكك الجمع، لكن تشكّي الآباء وصراخهم ورغبتهم في أن يبقى الأولاد حولهم وحول أسرتهم هو الذي يحركنا بشكل تلقائي لتبرئة الأب واتهام الأبناء، ويغفلنا عن الواقع الذي يقول ان الكثير من الآباء يساهمون من حيث يشعرون أو لا يشعرون بتمزيق عوائلهم.
يحصل في الكثير من الأحيان أن الوالد هو من يتسبب في تمزيق العائلة ونفور الأبناء عن مشاركتها برامجها المختلفة، فبالاضافة إلى ساعات العمل التي يقضيها الآباء بحثا عن قوت أبنائهم - وهي ضرورة وواجب لا بد أن ينبروا له - هناك السفرات التي يلتذ بها بعض الآباء برفقة أصدقائهم - بعيدا عن أسرهم - في أوقات يكون فيها الأولاد في فسحة وتهيئة تامة لمشاركة آبائهم مشوار سفرهم.
هناك أيضا سهرات الأصدقاء التي تستهلك ما تبقى من النشاط والحيوية عند الآباء وهم في جو بعيد عن أولادهم وأسرهم.
هذه الأسباب الثلاثة العمل والسفرات والسهرات مسؤولة عن التفكك العائلي، وإذا كان العمل ضرورة فإن ممارسة الأمرين الأخيرين دائما ودون مراعاة الأسرة والأولاد يعد خطيئة كبيرة بحقهم وبحق الكيان الأسري كله.
لن نقول ان المفروض هو أن يعوض الأب أبناءه عن أوقات عمله بالسفر والرحلات والتسامر والسهرات معهم، بل نقول ان مسؤولية التربية وما تستوجبه من إنشاء روابط الصداقة والحفاظ على الأسرة تحتم قرب الأب من أبنائه وسعادته بهم أكبر من أي سعادة أخرى.
الأولاد عادة هم أبناء المنزل لسنوات مديدة، منذ صغرهم حتى يتمكنوا من الخروج بمفردهم، وتعلقهم بالمنزل راسخ وشديد، لكنهم حين يرون آباءهم ينتعشون بالخروج بعيدا عنهم، يتعزز في أذهانهم أن الأسرة والمنزل هما للنوم والأكل فقط، وأن الأنس يطلب خارح المنزل.
تتمدد حالة النفور عند الأولاد فلا يشاركون آباءهم الطعام، وقد رأيت بعض الآباء يتألمون لأنهم يتناولون وجباتهم دون مشاركة أولادهم، فكل ولد يتناول غذاءه متى شاء دون أن تجتمع العائلة على مائدة واحدة لتتجاذب الحديث فيما بينها.
وفي الحين الذي يستمتع الأب بسفرات العزاب - حسب المصطلح - فإن الابن يتعود الأنس برحلات الشباب وسفراتهم، ويسقط من حسابه مشاركة أهله خروجهم وتنزههم، فسلوك الأب يشكل مبررا كافيا لتصرفات الولد.
إن اعتذار الآباء بحاجتهم إلى الهدوء والراحة والاستجمام بعيدا عن ضوضاء وتعب الأبناء والاستمرار الدائم على هذا النهج، لن يمنع من ترتب النتيجة الطبيعية وهي الانفكاك التدريجي بين الأبناء وأسرهم، ومع هذا الاستمرار من الطرفين تستأنس النفس بما تكرره مرارا، ولا تجد دافعا قويا يشدها للاسرة، وحينها يصدق على المنزل الأسري أنه مجرد فندق يسكنه مجموعة من البشر لا جامع بينهم في الوجهة، ولا في الهدف ولا في الهم، وكل تلاق يحصل بينهم فهو وليد الاتفاق والصدفة.