اختلاف الآراء والتوجهات
الصراعات الداخلية بين توجهات المذهب الواحد والخط الواحد والنهج الواحد والفكر الواحد، ليست دينية بحتة - حسب تصوري - فقد يضيع فيها المقدس، وتختلط القيم والمبادئ بالمواقف والمصالح، فكل طرف يدعي أن موقفه من الآخر هو دين وتدين، وهو يمارس - عن غفلة منه - سلوكيات يخالفها الدين وينهى عنها.
إن اختلاف الآراء وتباين وجهات النظر في الأمور ومجريات القضايا قد تكون سبباً رئيسياً في نشوب حالات الحرب والعداء، لكنها لا تستطيع بمفردها أن تؤجج الصراع؛ لأنها بحاجة إلى عوامل أخرى مساعدة لتؤدي هذا المفعول السيئ، ولعل أهم الأسباب المساعدة هي التالي:
1 - ظهور الآراء ووجهات النظر المتباينة في مناخ ثقافي أو ديني لا يقبل التعدد والاختلاف، ولا يسمح بالتباين، ولا يفسح المجال للرأي الآخر.
ربما يتخيل للقارئ الكريم أن زماننا هذا قد تجاوز هذا النوع من التحجر والانغلاق، لكن الواقع يقول إننا مازلنا أمام جيوب وكيانات مغلقة في كل مجتمع وتجمع، ومازالت هذه الجيوب تبذل جهدها كي لا تتطبع حالة القبول بالتعدد والرأي المختلف.
2 - ظهورها في وسط جديد على التعدد والقبول بالآخر، فلا يعرف الطريقة السليمة لإدارة الاختلاف في الفكر أو التوجّه، ولا يمتلك الأطر المناسبة لاستيعاب هذا النتاج المتنوع في سياقات مفيدة وطيبة، ولذلك تنفلت الكثير من الأمور لتصل إلى حافة صراعات الوجود.
وهذا يكشف أن بين وجود فكرة القبول بالآخر وتباينه وبين الإيمان العملي بهذه الفكرة على أرض الواقع مسافة طويلة يحتاج اجتيازها إلى زمن طويل وإلى أطر حقيقية تسمح للأفكار والرؤى المختلفة بالسباحة في فلكها دون تصادم.
3 - بروزها في مجتمع تقوم حياته على الأشخاص والأفراد، وليس على حالات المأسسة والتجمعات، وحتى في الحالات التي تظهر فيها الأطر والمؤسسات كحالة قائمة، فإن القرارات الكبرى والقضايا الرئيسية، والأمور المصيرية فيها قائمة على الشخصانية والفردية، فمازالت مجتمعاتنا مشخصنة مهما تعددت أسماء الأطر المؤسساتية التي ينبئ ظاهرها عن روح جمعية في القرارات والأعمال.
والحالة الفردية ترافقها - في أغلب الأحيان - حالات الحساسية والتأثر وفرض الذات، مما يمهد الأرضية لبروز واستمرار الصراعات.
ارتكزت بفعل تصرفات الناس ومرور الزمن تصورات خاطئة في العقول كقاعدة (إن لم تكن معي فأنت ضدي) هذه القاعدة التي انعكست (في زمن مضى) حتى على قضايانا الفقهية، كمسألة الأعلم التي تحولت من مسألة فقهية يحرزها المكلف بالطرق المعتبرة شرعاً إلى قميص عثمان في زيادة الشحناء، وإثارة النزاعات، وتأجيج الصراعات، بين أتباع الأعلم وأتباع غيره.
أحياناً يتوافق الجميع على عدم جواز تقليد غير الأعلم، ويختلفون في التشخيص الخارجي أهو زيد أم عمرو، فلا يتحمل الناس بعضهم حتى في اختلاف التشخيص، بل يتنازعون ليطالب كل منهم الآخر بتبني تشخيصه ورأيه، وإلا فالحرب ضروس والسنان جاهزة.
أعود لأقول إني لست كثير الاقتناع بأن تعدد وجهات النظر يدفع للنزاع والتشابك، بل إن تلك العوامل هي التي حولت وجهات النظر إلى نقاط تماس وصراعات طاحنة.
الذي يعود لمذكرات العلماء وما كتب عنهم وعن الحقب التي عاشوها بحلوها ومرها، سيكتشف أن الصراعات شديدة جداً، وأنها كانت تحصل تحت مسميات دينية مقبولة في ذلك الزمان، وإن كنّا الآن نعدها خسارة للأمة بكاملها، وننظر لمنطلقاتها بمنظور آخر.
وربما تكون تلك الشواهد في المذكرات والتراجم لعلماء مضوا (قدس الله أسرارهم) لكن واقعنا لا يخلو من شبهها، وإن كان أغلبنا سيكابر ويقول: هناك فرق بين ما ذكر من صراعات وبينما نحن فيه.