في مقابلة مع سماحته حول مختلف شؤون الفكر والهموم الإسلاميَّة:
الشَّيخ الصفَّار لقناة الإيمان الفضائية: الوحدة مبدأ ديني وليس تكتيكاً سياسياً
مقابلة أجراها الإعلاميّ غانم اللّولاسي، على محطَّة الإيمان الفضائيَّة، مع سماحة الشَّيخ حسن الصّفّار، أثناء تواجده في لبنان، وبثتها القناة مباشرة مساء الثلاثاء 3/7/2012م الموافق 13 شعبان 1433هـ.
نبدأ الحوار بآخر نتاجاتكم الفكريّة، ولعلّ المطّلع على تراثكم ومشروعكم الفكريّ، قد يجد أنّكم تسلّطون الضّوء على مجموعة من المفاهيم، من بينها مثلاً مفهوم التّعايش، ثقافة الاختلاف، التّسامح الدّيني، المواطنة... فهل تركيزكم على هذه المفاهيم لأنّها تشكّل أولويّةً اليوم في الأمّة الإسلاميّة؟
أعتقد أنّ أيّ مهتمّ بنشر الإسلام وبالحديث عن الإسلام، لا بدّ وأن يأخذ بعين الاعتبار حاجة العصر والمجتمع الّذي يعيش فيه، ونحن رأينا كيف كان كلّ نبيّ من أنبياء الله يركّز على القضايا الّتي كان يحتاجها مجتمعه وعصره، مع أنّ هناك وحدة جامعة لرسالات كلّ الأنبياء ودعواتهم، ولكنّ اختلاف العصور والمجتمعات كانت تستدعي اختلاف الأولويّات والقضايا الّتي يركّز عليها كلّ نبيّ من الأنبياء.
في هذا العصر، تعاني مجتمعاتنا الإسلاميّة معاناةً كبيرة في ما يرتبط بقدرتها على التّعايش واستيعاب حالة التنوّع والتعدّد الّتي هي حالة طبيعيّة في كلّ المجتمعات البشريّة. وطوال تاريخ الأمّة، كان هناك تنوّع في الآراء والمدارس والمذاهب، إلا أنّ السّاحة ولا سيّما في القرون المتأخّرة، بدأت تضيق ذرعاً بالرأي الآخر وبالاتجاه الآخر، فأصبحت هناك معاناة سبّبت حالات من الإقصاء والتّغييب والتّهميش، وأدّى ذلك إلى النزاعات والصّراعات فيما بين المذاهب والطّوائف. هذه المعاناة دفعتني لكي أهتمّ بدراسة ثقافة الفكر الإسلاميّ من خلال مصادره الرّئيسة من الكتاب والسنّة، وسيرة رسول الله، وسيرة الأئمّة الطاهرين، وسيرة الأولياء الّذين كانوا يمثّلون حالةً من الالتزام بالقيم والمبادئ الدينيّة، ورأيت أنّ ما تعانيه الأمّة من حالات الإقصاء والتّهميش والقمع والإرهاب الفكريّ، لا تنسجم مع المبادئ الدينيّة الّتي تصدح بها آيات القرآن الكريم، والّتي تتحدّث عنها أحاديث السنّة الشّريفة وروايات أهل البيت، وبدأت أتساءل: لماذا نحن نعيش هذا الواقع، مع أنّنا ننتمي إلى دين يتحدث عن حرية الفكر والتّعبير عن الرأي، ويتحدّث عن كرامة الإنسان وحقوق الإنسان، بغضّ النّظر عن دينه ومذهبه ورأيه الفكريّ والسياسيّ. هذا ما دفعني للاهتمام بهذه الأفكار وبهذه القضايا.
إذا تأمّلنا في حركة الرّسالات تاريخيّاً، نجد أنّ طبيعة هذه الرّسالات تحمل مضامين عالية، وتحمل مجموعةً من القيم الهادفة، والّتي تدعو إلى السّلم والتّعايش والألفة، ولكنّ الّذي يراقب ويلاحظ الحالة الإسلاميّة، يجد هنالك تبايناً ومفارقةً بين النظريّة والواقع. ما السّبب في ذلك، هل الأمر يعود إلى الدّعاة والسّاسة وعلماء الأمّة، أم إلى المجتمع؟
أنا أعتقد أنّ المسألة تنبثق من سوء فهم لمفاهيم الدّين أوّلاً، وثانياً من وجود قوّة مصلحيّة تستفيد من طرح هذه الأفكار الاستبداديّة والقمعيّة.
الأمّة الإسلاميّة ابتليت منذ وقت مبكر بالحكم الاستبداديّ وبالسّلطات الاستبداديّة الّتي سيطرت على الأمّة، من دون أخذ رضا الأمّة بعين الاعتبار.
هذا الحكم الاستبداديّ كان يحتاج إلى إنتاج ثقافةٍ تعطي المشروعيّة لاستبداده ولتسلّطه على النّاس، ولذلك شجّع هذه الثّقافة المنحرفة عن الدّين، فأصبح هناك مدارس وفقهاء ينتجون ثقافةً وفكراً وفقهاً يتناسب مع السّلطة الاستبداديّة الّتي كانت تحكم الأمّة. مثلاً، في فترة من الفترات، كانت تطرح مسألة خلق القرآن، وهل القرآن حادث أم قديم؟ وكان هذا الموضوع سبباً في احتراب النّاس مع بعضهم البعض، والتّضييق على العلماء، حيث كان يأتي حاكم يتبنّى هذا الرّأي، فيضيّق على من يتبنّى الرّأي الآخر، ثم يأتي حاكم آخر ويأخذ الرّأي الآخر. هذا ما رأيناه أيّام الدّولة العباسيّة مثلاً فيما عرف بفتنة خلق القرآن.
الحاكم نفسه لم يكن مخلصاً في توجّهه إلى الله تعالى، ولم يكن صادقاً في التزامه، بدليل الظّلم الّذي كان يمارسه في عباد الله، لكن كانت مثل هذه الأمور يستفيد منها كغطاء حتّى يبرز نفسه وكأنّه مدافع عن القيم ومدافع عن المقدّسات.
سوء الفهم من ناحية، ووجود سلطات استبداديّة من ناحية أخرى، هي الّتي عمّقت هذه التوجّهات الاستبداديّة في واقع الأمّة، وفي ثقافتها.
نفهم من ذلك، أنّ أسباب التخلّف والانحطاط دائماً تعزى إلى السّلطات، ولكن، أليست الأمّة شريكةً في هذا الرّكود الحضاريّ؟
قبول الأمّة بسلطات ظالمة فاسدة تستمرّ في الحكم؛ يعني المشاركة الرئيسة لها في ذلك.
كان يفترض في علماء الأمّة وفقهائها، أن لا يقبلوا السّير في ركب هذه السّلطات الاستبداديّة، لكن مع الأسف الشديد، حصل هذا من قبل كثير منهم، وإن كان تاريخنا يزخر ببعض المواقف المتألّقة والمشرقة لفقهاء وعلماء قاوموا الاستبداد والظّلم، وأصرّوا على أن يكشفوا للأمّة حقيقة دينها وثقافتها. وكذلك دور المثقّفين الّذين كانوا في تلك العصور يتمثّلون بالشّعراء والأدباء، إذ كان يفترض في الشّعراء والأدباء، وهم مثقّفو الأمّة في ذلك العصر، أن يأخذوا منحى حريّة الفكر وحريّة الرّأي، وأن يواجهوا الظّلم والاستبداد، لكنّنا ـ مع الأسف الشّديد ـ حينما نبحث في ديوان الشّعر العربيّ، نرى كثيراً من الشعراء كانوا من جوقة السّلطة.
أمّا من رفض أن يكون ضمن هذه الجوقة، فدفع حياته ثمناً، وأصبح شهيداً ومطارداً أو سجيناً، لكنّ غالب النّخبة العلميّة والمثقّفة في الأمّة ـ مع الأسف الشّديد ـ لم تأخذ الموقف المطلوب منها. ولذلك طالت حقبات الاستبداد في تاريخ الأمّة.
اليوم، نجد العالم الإسلاميّ يعيش الكثير من الأزمات، لعلّ أبرزها خطر العولمة، والغزو الثّقافيّ القادم من الغرب، إضافةً إلى المشاكل الاقتصاديّة، والتدنّي في مستوى التّعليم، والبطالة، وخطر المخدّرات الّتي هاجمت بعض شبابنا. في المقابل، نجد الخطاب الإسلاميّ قد أصبح في واد آخر، ولم يرتق إلى مستوى التحدّيات. فما الحلّ هنا، في رأيكم؟
الحلّ هو العودة إلى المصادر والجذور الإسلاميَّة. في العصور المتأخِّرة، أصبح المهتمّون في حوزاتنا العلميّة ومنابرنا الدينيَّة في الغالب، يأخذون آراء من سبقهم من العلماء والفقهاء، ولا شكَّ في أنَّ هؤلاء العلماء والفقهاء بذلوا جهدهم، ولكنَّهم كانوا نتاج بيئتهم، نتاج عصورهم، كانت آراؤهم ثمرة اجتهاداتهم هم.
ويفترض في علماء هذا العصر وفقهائه وخطبائه ودعاته، أن يجتهدوا ويرتقوا إلى مستوى التحدّيات الّتي في عصرهم، وبالتَّالي أن ينتجوا خطاباً يتناسب مع التحدّيات المعاصرة، ويرتقي إلى مستوى التطوّر العلميّ والتّكنولوجيّ الّذي يعيشه إنسان هذا العصر.
أي أنّه كلَّما تقدَّم وضع المجتمع، استطاع الإنسان أن يفهم من آيات القرآن الكريم معاني جديدة تتناسب مع التطوّر والتقدّم الّذي يعيشه الإنسان.
لكن في الغالب، فإنَّ آراء المفسِّرين القدامى تكون حاجباً وحاجزاً بيننا وبين فهم آيات القرآن الكريم، وهكذا على مستوى فهم النّصوص والأحاديث الواردة عن رسول الله وأهل البيت، وعلى مستوى فهم أحداث التّاريخ وتحليلها.
هم كان لهم الحقّ في أن يجتهدوا وأن يبيّنوا الآراء، ويفترض بمن يمتلك كفاءة الاجتهاد، أن يكون له حقّ الاجتهاد وأن يبيِّن رأيه.
على الصّعيد الفقهيّ، نحن نعاني كثيراً من سقف رأي المشهور. مشهور الفقهاء عندهم رأي، فلماذا يكون مشهور الفقهاء في العصور الماضية ملزماً للفقيه الّذي يعيش في هذا العصر؟
السيّد الخوئي كان جريئاً حينما تحدّث في هذا المجال، ولم يعط اعتباراً كثيراً لمشهور الفقهاء، وإنما أعطى نفسه الحقّ لكي يجتهد ولكي يواجه النّصّ بشكل مباشر.
لعلّكم هنا تتحدّثون عن الجرأة العلميّة، بأن يكون الفقيه أو الّذي يستنبط الأحكام جريئاً في بحثه العلميّ؟
ذلك من أجل أن يواجه التحدّيات الّتي يعيشها في عصره، لعلّ علماءنا وفقهاءنا السّابقين لو كانوا موجودين في هذا العصر، لأنتجوا ثقافةً أقدر على مواجهة تحدّيات هذا العصر. هم كانوا يعيشون في تلك العصور، فأنتجوا ثقافتهم وآراءهم من وحي اجتهادهم، ومن وحي حاجات بيئتهم وعصرهم. فنحن في حاجة إلى التّجديد والتّطوير في كلّ عصر، وفي كلّ جديد، حتّى يكون خطابنا قادراً على مواجهة التحدّيات، وعلى استيعاب المجتمعات البشريّة.
المسألة ليست مسألة أبناء الأمّة الإسلاميّة فقط، نحن مطالبون بأن ننتج خطاباً يخاطب أبناء البشر في كلّ مكان.
الملاحظ في مسألة الاختلاف الفقهيّ، أنّ هذه الحركة كانت تاريخيّاً تحدث بشكل طبيعيّ، ولكن ما نشاهده اليوم، أنّ هذا الاختلاف أصبح يتّجه إلى الصّدام. في رأيكم، ما السّبيل لإعادة هذه الحركة ـ حركة الاختلاف الفقهيّ ـ إلى مسارها الطبيعيّ؟
من أهمّ المبرّرات لفتح باب الاجتهاد واستمراره في مدرسة أهل البيت، وهو ميزة كبيرة، أنّ فتح باب الاجتهاد هو الّذي يبقي حركة العلم نشطةً، وهو الّذي يمكّن العالم من الوصول إلى الحقائق، بينما إغلاق باب الاجتهاد يميت الحالة العلميّة ويخمدها، وأيضاً يجعل العالم غير متأكّد من أنّ ما يراه وما يذهب إليه مطابق للحقّ والبرهان وللدّليل الدّينيّ الّذي يجب أن يدين الله تعالى به.
ولهذا اتّفق المسلمون على نقل الحديث الّذي يقول إنّ المجتهد إذا اجتهد فأصاب فله أجران، وإذا أخطأ فله أجر واحد، وهذا يعني شرعيّة حركة الاجتهاد.
إذا كانت حركة الاجتهاد حركةً شرعيّةً، ومطلوب من العالم المؤهّل أن يمارس اجتهاده، فهذا يعني أن يعترف له بحقّ إبداء الرّأي وحقّ التّعبير عن الرّأي الّذي أدّى إليه اجتهاده.. وإذا كان هناك من يعترض على هذا الرّأي، فمن حقّه أن يعترض ويبيّن أدلّته.
القرآن الكريم أرسى هذه القاعدة، أنّه حينما يكون هناك اختلاف في الآراء وفي الدّعوات، فالمقياس هو الدّليل والبرهان ﴿قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ﴾[البقرة: 111] ﴿قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا﴾[الأنعام: 148].
فحركة الاجتهاد قائمة على أساس الاعتماد على الدّليل والبرهان، فأيّ عالم، أيّ فقيه، لديه وجهة نظر في أيّ مجال من المجالات، من حقه أن يعبّر عن رأيه.
وفي السّاحة الإسلاميّة والوسط العلميّ، يجب أن تؤمّن حريّة الاجتهاد، وأن يفسح المجال أمام حركة الاجتهاد. حينما يكون هناك قمع وتضييق على حريّة الرّأي وعلى حركة الاجتهاد، فهذا يعني إيقاف هذا المسار الّذي نعتقد أنّ الإسلام أمر به وأراده لكي تكون الشريعة صالحةً لكلّ عصر ولكلّ جيل ولكلّ زمن.
إنّ ما يحصل من وجود حالة من التّجييش والنزاع عند اختلاف الرّأي، هو أمر طارئ، بسبب سيادة الأفكار التعصّبيّة الّتي تدمج بين الشّخص والفكرة، أي أنَّه قد يكون هناك فكرة قابلة للنّقاش، لكن حينما يكون هناك شخص يريد أن يفرض نفسه، ولا يريد أن يكون هناك من ينافسه ويزاحمه، هنا تحصل حالة التعصّب.
علينا أن نعود إلى أخلاقيّات الدّين؛ إلى أئمّتنا وآرائهم الّتي كانوا يتحدّثون عنها، والّتي نعتقد أنّها تمثّل الحقّ والصّواب. الإمام الصّادق حينما يتحدّث عن مسألة فكريّة أو فقهيّة، لا يشكّ في أنّ رأيه هو الحقّ وهو الصّواب، لكن كيف كان يتعامل مع الرّأي الآخر؟ كان يحترم الرّأي الآخر، وكان يعرض الرّأي الآخر ويتحاور معه.
لعلَّ ما ذكرتموه عن الرّحابة العلميّة الّتي جسّدها الإمام الصّادق، كانت موجودةً أيضاً تاريخيّاً، فمن الشّيخ الطّوسي، إلى العلاّمة الحلّي، كان هناك اختلافات في الفقه وغيره، لكن كانت هناك رحابة في النّقاش العلميّ، وهو ما نشهده بين الشّيخ المفيد والشّيخ الصّدوق، حتّى العلامة الحلّي في كتابه "تذكرة الفقهاء"، كان يذكر آراء الشافعيّة والحنفيّة وما شابه ذلك؟
وهو ما لا يزال موجوداً اليوم في حوزاتنا العلميّة، في مجال الفقه والأصول، فقد يكون هناك تلميذ لمرجع، ولكنّه حينما يصبح في مقام بحث الخارج؛ يبدأ بمناقشة آراء أستاذه، وقد يكون أستاذه موجوداً. الشّهيد محمد باقر الصّدر هو تلميذ السيّد الخوئي، لكن حينما بدأ بحثه الخارج، صار يناقش آراء السيّد الخوئي في الفقه والأصول ويشكل عليها ويردّها ويتحدّث عن رأيه وعن أدلّته.
في مجال الفقه والأصول، هذا مألوف في حوزاتنا العلميّة وفي مجال البحث الخارج، لكن الكلام هو: هل هذا محدود في حدود الفقه والأصول، أم أنّه يتّسع لمختلف المجالات؟ وهل إنّ هذا محدود في إطار الحوزة العلميّة وبحوث الخارج، أم أنّه ينبغي أن يكون هو المسار وهو النّهج الّذي نسير عليه في مختلف المجالات؟
هذه الأخلاقيّات الموجودة عندنا في الحوزة العلميّة وفي إطار علمي الفقه والأصول والبحث الخارج، ينبغي أن تكون هي النّهج العام الّذي نسير عليه في نقاشنا لمختلف القضايا العقديّة والتاريخيّة والفكريّة والسياسيّة، وفي مختلف الميادين في تعبيرنا عن هذه الآراء، وليس فقط في إطار البحث الخارج، وفي حدود مواضيع معيّنة في الفقه والأصول.
لقد ذكّرتني مولانا بالعلامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله في هذا السّياق، فقد كان يتحدَّث كثيراً في كتبه وفي حواراته عن مسألة الرَّحابة الفقهيَّة. في هذا السّياق، كيف تقرأؤن مشروع سماحة المرجع السيّد فضل الله في ضمن هذه النّقطة؟
من أهمّ الميزات الّتي تجلّت فيما طرحه العلامة المرجع السيّد فضل الله، كان هذا نهج الانفتاح والحوار. حينما نقرأ عن النّدوات ونسمع الحوارات الّتي كان يجريها، وحتّى في البحوث الفقهيّة الّتي أصدرها، نراهاً أفقاً واسعاً للحوار، يتحدّث عن الرأي الآخر ويناقشه بموضوعيّة، ويطرح رأيه في مقابل هذا الرّأي، ويتحدّث عن أدلّته عن الرّأي الّذي ذهب إليه.
السيّد فضل الله مدرسة متميّزة في الانفتاح وفي الحوار، وأمثالي من أبناء هذا الجيل، ندين لمدرسته ولمنهجه الّذي سار عليه. فقد فتح أمامنا وأمام هذا الجيل أفقا واسعاً؛ وكتاباته الّتي كتبها، ككتابه حول (خطوات على طريق الإسلام)، أو كتابه المهمّ (الإسلام منطق القوّة)، وكذلك سائر الكتب (أسلوب الدّعوة في القرآن الكريم)... هذه الكتب تعتبر من الكتب التأصيليّة والتأسيسيّة في فكرنا الإسلاميّ المعاصر.
وقد تناول سماحته هذه الأمور بكلّ عمق، وأصّل لها من القرآن، ومن السنّة، ومن سيرة أهل البيت، وعانى من حالات الإرهاب الفكريّ معاناةً شديدةً، فاستقبل ذلك برحابة صدر. ولعلّ هذه المعاناة كانت مفيدةً، لأنّها دفعت بالسيّد ليتأمّل أكثر في أرجاء هذه القضيّة وهذه المعاناة، فأنتج لنا تراثاً مهمّاً ستستضيء به أجيال الأمّة، وسيكون مناراً يستضيء به السّائرون في طريق العمل للدّين والذين يعملون من أجل تبليغ رسالات الله سبحانه وتعالى.
مدرسة المرجع السيّد فضل الله هي مدرسة متكاملة، لها أبعاد كثيرة، ولعلّ البعد الأبرز في هذه المدرسة، هو طبيعة الحوار الإسلامي ـ الإسلامي، فتنظير سماحته لمبدأ الوحدة الإسلاميّة، كانت له نتائج في هذا المستوى انعكس على واقع الأمّة الإسلاميّة، ولا سيّما في المملكة العربيّة السّعوديّة وفي العراق والبحرين وما شابه ذلك.
كيف تقرأؤن فكر سماحة السيّد فيما يتعلّق بمسألة الوحدة الإسلاميّة؟
العلامة المرجع السيّد يعتبر متميّزاً في مصداقيّته في طرحه للوحدة الإسلاميّة، هناك كثيرون تحدّثوا عن موضوع الوحدة الإسلاميّة، ولكن السيّد فضل الله امتاز بأنّ حديثه الفكريّ والنظريّ عن الوحدة الإسلاميّة جسّده في سلوكه وحياته ومواقفه، وفي ممارساته العلميّة والفكريّة والاجتماعيّة، ولذلك اكتسب احترام الجميع من السنّة والشّيعة، ومن المسلمين والمسيحيّين واللّيبراليّين والعلمانيّين، وأصبحت له مصداقيّة في النّفوس، لأنّه تحدّث عن الوحدة، ومارس أخلاقيّات الوحدة، ولم يسئ إلى أيّ طرف من الأطراف.
حينما يتحدّث عن الحوار الإسلامي المسيحي، نراه يتحدّث عنه في المجال الفكريّ، وفي المجال التنظيريّ، ثم يمارسه في علاقاته وسلوكه ومواقفه.
لذلك رأينا كثيراً من الشخصيّات المسيحيّة تشيد به وتثني عليه، وليس لديهم أيّ مؤاخذة على مواقفه أو آرائه، لم يصدر عنه أيّ كلام يعتبره المسيحيّون تعبويّاً ضدّهم أو مسيئاً إليهم، وكذلك في إطار الحوار الإسلامي ـ الإسلامي، فقد تحدّث عن الوحدة الإسلاميّة وعن الحوار الإسلاميّ، وكان صريحاً وواضحاً، لم يكن يتحدّث عن الوحدة كمسألة مجاملة أو مراعاة لطرف آخر.
تشعر من حديثه ومن سيرته أنّه مؤمن في أعماقه بالوحدة الإسلاميّة، ولذلك، فإنَّه يعتبر في كتبه الكثيرة وفي خطاباته، من أكثر العلماء كتابةً وخطابةً وحديثاً، مع ذلك، ففي كلّ خطاباته وكلّ كتاباته، لم يجد أحد عليه ثغرةً فيما يرتبط بالوحدة الإسلاميّة يسيء فيه إلى أهل هذا المذهب، أو ينال فيه من هذه الطّائفة، أو يعزّز فيه توجّهاً تعبويّاً تحريضيّاً على جهة أو أخرى، لذلك اكتسب مصداقيّة، لأنَّ أفكاره الّتي تحدَّث عنها، مارسها في حياته وفي سلوكه.
ولذلك، ينطلق السيّد فضل الله والمصلحون الّذين تحدّثوا عن الوحدة، من مبدأ دينيّ وليس من مبدأ تكتيكيّ أو مصلحيّ أو سياسيّ.
لذا من أجل مصلحة الأمّة، ومن أجل مجتمعات هذه الأمّة، لا بدّ من أن يكون هناك تأكيد لوحدة هذه الأمّة ووحدة مجتمعاتنا الإسلاميّة.
تحدّثتم قبل قليل عن أنّ الأمّة اليوم تعاني أزمات كبيرة، فهناك الفوضى، وسقوط أنظمة، وتغيّر أنظمة، وثمّة من يقول إنّ الدّماء الّتي تسفك اليوم في الأمّة الإسلاميّة، هي أضعاف مضاعفة من الّتي تسفك في العالم الغربيّ. كيف السّبيل إلى حلول تعالج هذه الخلافات الحاصلة اليوم في جسد الأمّة الإسلاميّة؟
نحن بحاجةٍ إلى أمرين: نشر ثقافة التّسامح والوحدة في أوساط الأمَّة، ومع الأسف الشّديد، نجد أنّ هناك منابر تبثّ في الأمّة ثقافة تحريض الأمّة على بعضها البعض تحت عناوين مذهبيّة، ولا سيّما الآن، ونحن نعيش في زمن هذه القنوات الفضائيّة ووسائل التّواصل التكنولوجيّة المتطوّرة، نجد مواقع على الإنترنت وعلى الفيسبوك وفضائيّات، تشغل الأمّة بالخلافات المذهبيّة، وتحرّض النّاس على بعضهم بعضاً، وتنشر حالة التشنّج بين المسلمين.
هذه الثّقافة التحريضيّة التعبويّة، يجب أن تواجهها ثقافة تبثّ التّسامح، وتجعل أبناء الأمّة يقبلون بعضهم بعضاً، ويتّجهون نحو التعايش والانسجام فيما بينهم.
هذا أوّلاً. الأمر الثّاني هو أنّنا نحتاج إلى النّماذج الوحدويّة وشخصيّات من القيادات الدّينيّة ومن المؤسّسات الدّينيّة ومن الجماعات الدّينيّة، لتقوم بمبادرات تتبنّى قضيّة الوحدة، وتتبنَّى ثقافة التَّسامح؛ كما أنّ المبادرات الفعليّة العمليّة لها دور كبير، فلا يكفي أن نتحدّث عن الوحدة دون أن نصنع مؤسّسات، ودون أن نصنع تجمّعات ومبادرات تجعل من الوحدة واقعاً على الأرض تعيشه الأمّة وتشاهده جماهيرها؟
ترك سماحة السيّد تركةً هائلة على المستوى الفكريّ والعقائديّ والاجتماعيّ، وحتّى على المستوى المؤسّساتيّ. هل من كلمة لديكم بمناسبة الذّكرى السنويّة الثّانية لرحيله، وبما يتّصل بمسيرة سماحته؟
أعتقد أنّ الإرث الّذي تركه سماحة السيّد، يمكنه أن يكون دافعاً كبيراً لكلّ المنفتحين على أصالة الإسلام وعلى أهدافه وقيمه.
ترك لنا السيّد تراثاً عظيماً زاخراً، من خلال تفسير القرآن الكريم الّذي قدّمه، ومن خلال عطائه الفكريّ، ومن خلال الكتابات الفكريّة المتعدّدة الأبعاد والجوانب، هذه مدرسة ينبغي أن نستفيد منها ونراكمها بالمزيد من النّشاط والفاعليّة.
النّاحية الثّانية هي التّجربة الّتي قدّمها سماحته، فكلّ من يتحرّك في طريق الإصلاح، يواجه عقبات ومشاكل وتحدّيات. ولعلَّ البعض ممن يتراجع عن السَّير في طريق الإصلاح، إنّما يكون بسبب ضخامة ما يواجهه من تحدّيات ومن مشاكل. السيّد فضل الله قدّم لنا تجربة رائعة في الثّبات والاستقامة والصّمود أمام مختلف التحدّيات، وأكّد لنا إمكانيّة النّجاح.
لقد نجح واستطاع أن يحقّق الأشياء الكثيرة، وهناك من يحاول أن يوحي إلى البعض من النّاس أن لا يسيروا في طريق الإصلاح، أنّكم إذا سرتم في هذا الطريق، ستواجهون مشاكل كالمشاكل الّتي واجهها السيّد فضل الله في حياته. وفي الواقع، فإنّ حياة السيّد فضل الله وسيرة حياته، يجب أن تكون المثال لكلّ المصلحين والواعين، أنّكم إذا سرتم في هذا الطّريق فستحقّقون نجاحات.
السيّد حقّق نجاحات كبيرة، وهنا أطلب من كلّ أتباع مدرسة هذا الرّجل وتلاميذه، أن يركّزوا على النّجاحات وعلى المكاسب الّتي صنعها؛ لقد استطاع أن يشقّ تيّاراً كبيراً في وسط الأمّة، استطاع أن يقدِّم أنموذجاً للمرجعيّة المؤسّسة والأنشطة المختلفة، وقد حقَّق نجاحات كبيرة، وعلينا أن نبرز هذه النَّجاحات وهذه المكاسب، حتَّى تكون دافعاً وتشجيعاً لمن يسير في طريق الإصلاح، ولمن يسير في طريق التّجديد.
لمشاهدة المقابلة على اليوتيوب:
http://www.youtube.com/watch?v=oIBtTz_JnTA