من العسكري إلى جورج
نعم من الإمام الحسن العسكري الذي تنقل بين أربعة سجون في عهد ثلاثة من الخلفاء العباسيين إلى جورج عبدالله الذي يعتصم اللبنانيون مطالبين بإطلاق سراحه من السجون الفرنسية.
لا فرق في الحرية كقيمة سواء ارتبط موضوعها بإنسان مسلم أو مسيحي أو لا ديني، فحجز حرية الإنسان – بما هو إنسان - وسجنه أمر يستهجنه الإنسان، وتستقبحه أخلاقه وفطرته.
ولا فرق بين كون السجّان فرنسياً لا يمت للإسلام بصلة، وبين كونه خليفةً للمسلمين، يشع اسمه جمالاً، ويمتلئ بالإيحاءات الروحية، كالمعتز بالله والمهتدي بالله والمعتمد بالله، الذين عايش الإمام العسكري سجونهم وذاق فيها المحن والويلات.
كان هذا مختصراً لحديثي ليلة الأحد الماضية التي توافق ذكرى وفاة الإمام العسكري ، وكان لهذا الموضوع تشعباته وتفاصيله. ويبدو لي أن الإنسانية اليوم أصبحت شديدة الحساسية من شيء اسمه السجون، وبدأت تعتبرها موتاً حقيقياً، وليست مجرد حجز للحرية، وحينها لا يستغرب الإنسان إضراب الآلاف من الفلسطينيين عن الطعام في السجون الإسرائيلية، ولو أدى ببعضهم إلى الموت أو الإعياء الشديد، كما حصل قبل عام من الآن.
في الأحكام الدينية، السجون مضيق على موضوعها، وقد وضع الفقهاء لها ضوابط تحد من ابتلاعها للناس وتغييبها لهم، ولعل المراجع لهذا الباب يمكنه ببساطة أن يكتشف ذلك الضيق وتلك المحدودية.
هل معنى ذلك أن تغلق السجون في كل مكان؟ لا يبدو أن أحداً يستطيع الوصول والقطع بهذه القناعة الآن، فهناك من يكون السجن أمناً للناس من جرائمه وسطوته وعنفه، لكن هذا القول لا يجب أن يحوّر ويُدحرج حتى يشمل المسالم الذي يجاهر بآرائه وتصوراته ونظرته للأمور، وهو ما كان من طبيعة النظام المصري السابق، ولا يشمل من لم تقم الأدلة الواضحة على إدانته، فحرية الناس مضمونة في الدين وفي العديد من القوانين الدولية المقاربة للإنسانية.
أن يعود الناس من السجون إلى منازلهم وأهليهم هو خطوة علاجية مهمة، لأنها تولد حالة من الاسترخاء والقابلية للتعاطي بنفس منفتح وحيوية، وأعتقد أن الأوان قد آن للتفكير الجاد في خيارات أقرب للإنسانية في التعامل مع البشر مهما كان الاختلاف والتباين.
لعل التجارب البشرية القريبة تقول إن سجون الشاه في إيران لم توقف الناس عن متابعة مطالبهم، كما أنها عجزت في فلسطين أن تثني الفلسطينيين عن حقهم، وأثبتت فشلها في مصر، وفي كل مكان من العالم.
الأكثر من ذلك أنها تحوّلت إلى وقود يحرّك الساحات ويفجّر الأوضاع ويغذّي التطرف في كل مكان، وكأن العالم يقول: كفى هذا الأسلوب الذي يحجز حرية الإنسان ويمنعه من الإعلان عن آرائه، ويحرمه حق الحركة والعيش الطبيعيين.
آن الأوان ليبعد العالم هذا القلق، وهذا الشبح، وهذه السجون من التداول مهما كانت شدة التنافر فيه، ومهما كان عمق الاختلاف، لأنها تعود بالضرر وتنزع الثقة، والخوف والخشية أن تتربّى فيها نفسيات تكفر بكل شيء فتنحدر إلى العنف والقطيعة مع المجتمع قبل الدولة.
بين يدي أصحاب القرار خيارات عدة يمكنها المعالجة وتذويب الجليد المتراكم، لكن السجون كما أظن ليست خياراً مفيداً.