من أجل خطاب ديني يحتضن الإنسان
رأينا كيف تفاعلت المجتمعات الغربية مع كارثة (السونامي) التي أصابت دول جنوب آسيا مطلع هذا العام الميلادي 2005 وذهب ضحيتها مئات الألوف من البشر، وملايين المشردين، ودمرت آلاف القرى والمدن، فهرع أبناء المجتمعات الغربية لتقديم العون والمساعدة، مبادرين للاتصال بالمنظمات الخيرية والإغاثية، وكان معدل التبرعات في بريطانيا مثلاً وصل إلى 15 ألف جنيه إسترليني في الدقيقة الواحدة، حسب نقل (البي بي سي)، وحسب تقرير صحفي كان معدل التبرعات بواقع مليون جنيه في الساعة، عدا التبرعات العينية كالملابس والأغذية والأدوية، وجميع قنوات التلفزة خصصت خطوطاً وحسابات للتبرعات، وظهرت مئات المواقع على الإنترنت للتبرع بالمعلومات عن المفقودين من كل الجنسيات.
بينما كان التفاعل في مجتمعاتنا الإسلامية خافتاً، والأسوأ من ذلك صدور تصريحات وخطابات من بعض الجهات، جارحة لمشاعر تلك الشعوب المنكوبة، بالقول ان ما حصل هو عقوبة من الله تعالى لانحراف تلك المجتمعات وفسادها.
وذلك يكشف عن تبلّد في المشاعر والاحاسيس الإنسانية لا بد من مواجهته بتعاليم الإسلام الأصيلة التي توقظ الوجدان وتبعث دوافع الخير والحب في نفس المسلم تجاه كل إنسان بل كل كائن حي كما ورد في الحديث: «في كل ذات كبد حرّى أجر».
لتوثيق صلة الإنسان بربه وتأكيد عبوديته له، ولتفعيل وإثراء البعد الروحي في شخصية الإنسان، شرّع الإسلام برامج عبادية كالصلاة والصيام والحج والعمرة، وسائر الشعائر الدينية، كتلاوة القرآن، والدعاء والذكر والتسبيح.
في ذات الوقت وجهت تعاليم الإسلام إلى الاهتمام بخدمة الإنسان، ونفع الناس، بإطعام الجائعين، وكفالة الأيتام، وعون الفقراء ومساعدة الضعفاء، وقضاء حوائج المحتاجين، وعيادة المرضى، وإغاثة الملهوفين، وكل ألوان الإحسان إلى الآخرين، وتقديم الخدمات لهم.
وحين نقرأ النصوص الدينية نجد اهتماماً متوازياً بالجانبين معاً، بل نجد إشارات في الكثير من النصوص إلى أن البرامج العبادية كالصلاة والصيام وأمثالها، تستبطن وتستهدف تنمية دوافع الخير تجاه الناس في نفس الإنسان.
كما أن قسماً من فرائض العبادات هي عطاء للآخرين كالزكاة والخمس والكفارات والأضحية.
إن القرآن الكريم يجعل الحدّ الفاصل بين التدين الصادق والتدين الزائف، هو مدى اهتمام الإنسان بمساعدة الناس الضعفاء كاليتامى والمساكين، ويعتبر أداء عبادة الصلاة من دون عون الأيتام والفقراء تديناً كاذباً ورياء مفضوحا. يقول تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾.
وفي الحديث عن فريضة الحج يشير القرآن الكريم إلى أن مناسك هذه الفريضة تتضمن منافع فعلية للناس يقول تعالى: ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ﴾.
وهناك روايات تشير إلى البعد الإنساني في فريضة الصيام، وأنه للتذكير بمعاناة الجائعين والمحتاجين. سئل الإمام الحسين: لم افترض الله عز وجل على عبده الصوم؟ فأجاب: «ليجد الغني مس الجوع فيعود بالفضل على المساكين».
ويرفض القرآن الكريم أن يكون مقياس البر والصلاح هو الممارسات الشعائرية العبادية فقط، مؤكداً على أن البر يتجلى في الإيمان والعطاء للآخرين إضافة إلى البرامج العبادية. يقول تعالى: ﴿لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ﴾.
إن الصلاة يجب قطعها لإنقاذ حياة إنسان من الخطر، وإن الصوم يجب قطعه إذا كان يسبب ضرراً لجنين المرأة الحامل، أو ضرراً للطفل الرضيع بتأثيره على لبن من ترضعه. ولا يجب الحج إذا كان في ذمة الإنسان حقوق مالية للآخرين، بل لا يعتبر مجزياً عن حجة الإسلام لو قدم الحج على أداء الدين.
ويشير عدد من الأحاديث والروايات إلى أهمية وأولوية خدمة الناس ونفعهم، كما ورد عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): «الخلق عيال الله فأحب الخلق إلى الله من نفع عيال الله».
وقال له رجل: أحب أن أكون خير الناس. فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): «خير الناس من ينفع الناس فكن نافعاً لهم».
وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم): «خصلتان ليس فوقهما من البر شيء الإيمان بالله والنفع لعباد الله».
وروي عن الإمام محمد الباقر: «لأن أعول أهل بيت من المسلمين: أسد جوعتهم، وأكسو عورتهم، وأكف وجوههم عن الناس أحب إليّ من أن أحج حجة وحجة وحجة ومثلها ومثلها حتى بلغ عشراً ومثلها ومثلها حتى بلغ السبعين».
هذا الدفع والاهتمام الذي نجده في النصوص الدينية بخدمة الناس ونفعهم لا نراه منعكساً بنفس المستوى على الخطاب الديني، الذي غالباً ما يركز على الجانب العبادي، ولعل من نتائج ذلك ضعف التفاعل والإقبال على العمل الخيري الإنساني في مجتمعاتنا الإسلامية لدى المقارنة بتقدم هذا الجانب عند المجتمعات الأخرى، وكذلك بالنظر لعمق الحاجات الملحة في مجتمعاتنا.
ففي المجتمعات الأخرى تتكون مؤسسات للعمل التطوعي الإنساني تتحرك على مستوى العالم، كمنظمات حقوق الإنسان، وحماية البيئة، وأطباء بلا حدود، وحملات الإغاثة للبلدان المنكوبة، ومؤسسات رعاية المعوقين، والاهتمام بالأمراض الخطيرة كالايدز والسرطان.
إن خطابنا الديني يحتاج إلى اهتمام أكبر بالقضايا الإنسانية، لحشد الجهود لمعالجة كثير من الحاجات ومتطلبات الحياة في مجتمعاتنا التي تعاني من انتشار الأمية والفقر ونقص الخدمات.
إن إقبال الناس في مجتمعاتنا على بناء المساجد لا يوازيه إقبال على بناء الجامعات والمكتبات، ومواظبة البعض على تكرار الحج والعمرة لا يزاحمه توجه لكفالة الأيتام ومساعدة المعاقين. وحرص البعض على السعي لصلاة الجماعة لا يماثله حرص على السعي للاهتمام بالشأن العام.