الحالة الدينية ومدى مسؤوليتها عن واقع الأمة
كلما ازداد وضع الأمة سوءًا في هذا العصر، ارتفعت حدّة النقد للحالة الدينية فيها، فكرًا ومؤسّساتٍ ورموزًا، بتحميلها المسؤولية أو الجزء الأكبر منها، عمّا وصلت إليه الأمة من تخلّف وانحدار.
ففي المجتمعات الأخرى ـ خارج الأمة ـ تتصاعد موجات الاتّهام للإسلام بأنه دين تخلف وإرهاب، ويُنظر إلى مظاهر التديّن الإسلامي كمؤشرات سلبية مريبة، وإلى المراكز والمؤسّسات الإسلامية كمبعث قلق وخطر على الأمن الوطني.
وداخل الأمة تتعامل السلطات السياسية في معظم البلدان الإسلامية، مع التوجهات والجماعات الدينية بحذر وقلق بالغ، وتخوض المواجهة العنيفة مع بعض أجنحتها وأطرافها.
وقد تحدث مسؤولون بارزون في عدد من الحكومات الإسلامية، عن دور سلبي معيق للتنمية والاستقرار تشكله الجهات الدينية.
وأذكر بالمناسبة كلامًا سمعته من رئيس إحدى دول المنطقة، في لقاء لي معه قال: إنّه كان مرة في ضيافة زعيم دولة أخرى، وكان في مجلسه كبار علماء الدين في بلده، فالتفت الزعيم المضيّف لضيفه، وهو يشير إلى العلماء قائلًا: إنّ هؤلاء أخّرونا مئتي سنة!!
أما التيارات الليبرالية والعلمانية في الأمة، فإنّها لا تتوقف عن تسجيل الإدانة والنقد للحالة الدينية، وتحميلها المسؤولية عن كلّ المساوئ والشّرور.
وحتى في الأوساط الدينية، يتساءل كثير من المتديّنين العاديين بغرابة وامتعاض، عن بعض ما يصدر من فتاوى وآراء دينية، يرونها غير مقبولة ولا منسجمة مع العقل ومنطق العصر، كما يبدون استياءهم ورفضهم لتصرفات وممارسات تقوم بها جهات محسوبة على الإسلام.
وهكذا، فإنّ الحالة الدينية يحاصرها النقد والاتّهام من كلّ جهة، وتُوجّه إليها سهام الإدانة من كلّ جانب.
ومن الإنصاف أن نشير إلى أنّه حتى في داخل الحالة الدينية تتصاعد ظاهرة النقد الذاتي، حيث ظهرت اعترافات وإقرارات بوجود أخطاء في المناهج والآراء والمواقف والممارسات.
وقد تحدّثت عن ذلك قيادات أساسية في الحالة الدينية، من بينها مراجع دين كبار كالإمام الخميني، والشهيد السيد محمد باقر الصدر، والعلامة السيد فضل الله، والشيخ محمد الغزالي، والشيخ القرضاوي، وشيخ الجامع الأزهر أحمد الطيب وأمثالهم.
كما اعترفت قيادات مهمة، في حركات إسلامية بارزة، بضرورة المراجعة لمسيرتها، وتصحيح الأخطاء، وتغيير استراتيجيات العمل.
ونجد مثل هذه المواقف في مستويات مختلفة من جهات الحالة الدينية، في البعد العلمي والسياسي والثقافي والحركي والاجتماعي.
فواقع الحالة الدينية، لا يقبل الدفاع والتبرير. لكن ما تجب مناقشته وبحثه هو مدى وحجم المسؤولية الذي تتحمله هذه الحالة تجاه سوء الواقع الذي تعيشه الأمة؟ وعن كيفية التصحيح والمعالجة لمسار الحالة الدينية؟
وهذا ما نريد تسليط الضوء عليه من خلال النقاط التالية:
أولًا: إنّ الحالة الدينية جزءٌ من واقع الأمة، وهي كما تؤثر فإنّها تتأثر بحال سائر الأجزاء، إنّها لم تنزل من السماء، ولم تنبت في أرض كوكب آخر، ولا تعيش خارج فضاء مجتمعاتها، ولأنّ الحال العام في الأمة سيئ فإنّها جزء منه، ولا يمكن الادّعاء بأنّها العنصر المحرك لكلّ الأوضاع، وأنّها تنفرد بالتأثير على كلّ شيء، دون أن تؤثر فيها العوامل الأخرى.
إنّها شريكة مع سائر العناصر في صناعة هذا الواقع، فتتحمّل جزءًا من المسؤولية عنه، بمقدار حجم تأثيرها في كلّ مجتمع، وليس صحيحًا أن تصبح شمّاعة تعلق عليها كلّ الأطراف مسؤولية ما يجري، وتبريء نفسها عن أيّ دور.
وواضح أنّ العامل السياسي هو الأكثر تأثيرًا من العوامل الأخرى، بما فيها الجانب الديني؛ لأنّ العامل السياسي بيده القوة والسلطة والمال والإعلام وسائر الإمكانات.
وفي معظم الأحيان يكون هو المسيّر والمهيمن على الحالة الدينية، يوجهها لتبرير وتأييد سياساته وقراراته، وقد تتمرّد أو تستعصي عليه بعض أطرافها، لكنّ السيطرة عليها ليست عسيرة، بالتفاهم معها، أو الفرض عليها، بالترغيب أو الترهيب. وقد تكون هناك استثناءات في بعض الموارد والمجتمعات.
إنّ واقع الاستبداد السياسي، وتخلّف التنمية والاقتصاد، وانحدار المستوى العلمي والتعليمي، وسوء الخدمات المعيشية، كلّ ذلك ليس من صنع الحالة الدينية، وإن كانت قد تُستغل لتبريره، لكنها ليست الأساس فيه.
ثانيًا: ليس بعيدًا عن الحقيقة ما أكّدته الدراسات والبحوث الميدانية، من أنّ سوء الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي، هو سبب رئيس للتخلف وتعثّر التنمية ونشوء حركات التطرف والعنف، وقد شهدت حقبة زمنية سابقة ظهور مثل هذه الحركات العنفية بغطاءات إيديولوجية أخرى، مثل الشيوعية والقومية. مما يعني أنّ هناك واقعًا سيئًا يدفع للانفجار، يمكن أن تستغله الجهات والتوجهات المختلفة.
ثالثًا: إنّ الدين نزعة وجدانية إنسانية، وشأن اجتماعي، لا يملكه الناطقون باسمه، ولا يحتكره الممثلون له، وإذا ما حصل تزييف وتحريف في الدين، أو أساء المتصدّون له ممارسة دورهم، ووظّفوا الدين ضدّ أهدافه النبيلة، وقيمه السامية، لخطأٍ والتباس في فهمهم، أو خدمة لأغراض وأجندة مصلحية، فإنّ على الواعين المخلصين من مختلف الشرائح والطبقات أنْ يهبّوا لإنقاذ الدين، وأن يضعوا حدًّا لاستغلاله، وأن يستعيدوه من أيدي المتاجرين به.
فالنص الديني مفتوح أمام عقل الإنسان، وليس محظورًا على أيّ أحدٍ أن يتأمّل فيه ويستنتج منه، يقول تعالى: ﴿هَـٰذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ﴾، ويقول تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾، ويقول تعالى: ﴿هَـٰذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾.
وإذا كان علماء الدين أكثر تفرغًا وتخصّصًا في التعامل مع النصوص الدينية، فإنّ ذلك لا يعني حرمان المفكرين والمثقفين وعلماء الطبيعة من الانفتاح على النّص الديني والإفادة منه، وإثراء الثقافة الدينية بإبداعاتهم وإسهاماتهم، وبإمكانهم أن يقدّموا إضافة نوعية للفكر الديني، حيث ينظرون من زوايا أخرى خارج تخصّصات عالم الدين.
وفي تاريخ الأمة الماضي والحاضر شواهد عديدة لكفاءات أسهمت في إنتاج المعرفة الدينية، مثل محمد إقبال، ومالك بن نبي، والدكتور علي شريعتي وغيرهم.
كما أنّ الأمة مدعوة للرقابة على أداء المؤسّسة الدينية، فليست هناك حصانة ولا قداسة لأصحاب المواقع والمناصب الدينية.
وحين يتحدث القرآن الكريم عن انحراف زعامات الديانات السابقة، من علماء اليهود والنصارى، من الأحبار والرهبان، فإنّه يوجه بذلك رسالة تحذير للأمة، بلزوم اليقظة والانتباه والمراقبة لأداء قياداتها الدينية، حتى لا تقع فيما وقع فيه أولئك الأحبار والرهبان.
يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّـهِ﴾.
وفي الأحاديث والروايات نصوص كثيرة، تتحدث عن خطورة فساد وانحراف عالم الدين، حتى لا تغفل الأمة عن مراقبتهم، ولا يتوهّم أحدٌ حصانتهم وقداستهم. فهم بشرٌ يستحقّ الصادقون المخلصون منهم أعلى درجات الإكرام والتقدير، ويكونون في موقع القدوة والأسوة، والقيادة والاتّباع، بينما يجب فضح وإسقاط المنحرفين الفاسدين منهم، حتى لا يتلاعبوا بالدين، ويعبثوا بأحكامه وتشريعاته، فيصدّون عن سبيل الله.
فكما في أيّ شريحة من شرائح المجتمع كالسياسيين والأطباء والمهندسين والفنانين، هناك تفاوت في مستوى أفراد كلّ شريحة، وفي مدى إخلاصهم لأداء دورهم الوظيفي، كذلك الحال في شريحة رجال المؤسسة الدينية، وعلى الناس أن يعتمدوا المقاييس والمعايير السليمة للتمييز بين الكفوئين الصالحين، وبين الأدعياء الفاسدين.
وعلى مستوى الآراء والأفكار الدينية بإمكان الناس أن يُميّزوا بين رأيٍ وآخر، فينتصرون للتوجهات الأكثر موضوعية واعتدالًا وانسجامًا مع مصالح المجتمع وتطورات الحياة.
ما نريد أن نقوله هو أنّ الحالة الدينية ليست كتلة واحدة، في الآراء والتوجهات والصفات والسمات، ولا يمكن الرّهان على إبعاد الأمة عن انتمائها الديني، فقد فشلت كلّ المحاولات التي تبنّت هذا الاتجاه، والخيار الصحيح هو ترشيد الحالة الدينية، بالمساعدة على إصلاحها وتطويرها من داخلها، وتوفير الأجواء لنمو التوجهات التغييرية والإصلاحية فيها.
لقد وصلت الأمة إلى مرحلة بالغة السوء من التخلف والانحطاط، فمجتمعاتنا مهدّدة بالتمزّق والانقسام، وأوطانها تواجه خطر الدمار والانهيار، وسمعتها في العالم مشوهة، بحيث أصبحت حالة شاذة بين الأمم والمجتمعات، فلا بُدّ وأن يتجاوز الواعون من أبنائها بمختلف انتماءاتهم الدينية والفكرية والسياسية، ومن مختلف شرائحهم وطبقاتهم الاجتماعية، من علماء دين وسياسيين وأكاديميين ومثقفين وناشطين اجتماعيين. أن يتجاوز هؤلاء الواعون جميعًا، ممن تحترق قلوبهم على مستقبل أمّتهم وأوطانهم، كلّ خلافاتهم الجانبية مهما كان حجمها، وأن يتعاونوا بأقصى حدٍّ ممكن لوقف مسيرة التدهور والتمزّق، لتستعيد الأمة شيئًا من عافيتها، وتستفيد من تجارب الأمم الأخرى التي نهضت من تحت الركام، واستطاعت بناء قوتها وحضارتها من جديد، بعد أن أودت بها صروف الزمان، كما حصل في أوربا واليابان.
لا خيار لنا إلّا أن تتجاوز كلّ الأطراف مرحلة تسجيل النقاط على بعضها بعضًا، وتبادل اللوم والاتّهام والإدانة، فكلّنا شركاء في صنع هذا الواقع المرّ، وكلّنا نعاني منه، وتهدّدنا أخطاره، وتحاصرنا أضراره، ولا بُدّ أن نشترك ونتعاون من أجل تغييره وإصلاحه، حماية لوجودنا، وضمانًا لمستقبلنا ومستقبل أبنائنا. ولن تتمكن جهة بمفردها أن تنجز هذه المهمة الشاقّة، كما لا تستطيع جهة أن تلغي دور جهة أخرى.
إنّ القبول بهذه الحقيقة، والانطلاق منها، هو نقطة البداية والتحرك نحو طريق الخلاص والنجاة، أمّا استمرار تخندق كلّ جهة في مقابل الأخرى، فهذا يعني أن تعيش الأمة والوطن بلاءً تطول مدته، ويدوم مقامه، ولا يخفف فيه عن أهله.