الفكر والمجتمع وتطور الحياة
التطور مسيرة إنسانية
يمتاز تاريخ حياة الإنسان بأنّه حافل بالتطورات والتغيّرات، بينما سائر الكائنات الحيّة تتسم حياتها بنسق واحد، وطريقة ثابتة، طوال التاريخ. فتفاصيل حياة النّحل في امتصاصها لرحيق الأزهار، وإنتاجها للعسل والشمع، ضمن خلايا على شكل صندوق يحتوي على قرص العسل من حجيرات سداسية الشكل، وضمن نظام يشتمل على ملكة واحدة، وآلاف الشغالات، هذه الحياة بتفاصيلهاـ كما يقول العلماء ـ لم يلامسها تغيّر وتطوير منذ ما يقارب 80 مليون سنة، هو عمر وجود النّحل، وهكذا بقية الحيوانات بمختلف أنواعها.
أما الإنسان فإنّ طريقة حياته في تطوّر مستمر، متصاعد السرعة والحركة، فسرعة التغيير والتطوير في حياة الإنسان في كلّ زمن أفضل من السابق، حيث تتراكم خبرته وتجاربه، بسبب تميّزه بالعقل والقدرة على التفكير وكسب المعرفة، وامتلاكه الإرادة والطموح، حيث اختاره الله للخلافة في هذه الحياة، وسخّر له إمكانات وثروات الكون.
يقول تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمْ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمْ الأَنهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمْ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾ سورة إبراهيم (32 -34)
والعلماء الذين يدرسون تاريخ التحولات في حياة البشر، يلحظون مدى علاقتها بالمستوى الفكري والعلمي للإنسان، لذا فإنّ جيلنا الحالي يبدو كأنّه قد ولد في منتصف التاريخ؛ لأنّ ما حدث لجيلنا منذ ولادته حتى الآن، يعادل تقريبًا كلّ ما حصل في التاريخ البشري منذ آدم حتى اللحظة الراهنة.
وكمثال على ذلك: في سنة 6000 قبل الميلاد، كانت أسرع وسيلة نقل للمدى البعيد هي الجمال، بمتوسط 8 أميال في الساعة، وظلّ هذا المستوى 4400 سنة إلى حوالي1600 سنة قبل الميلاد، حين اخترع الإنسان العربة ذات العجلات، وارتفع معدل السرعة إلى حوالي 20 ميلًا في الساعة، وبقي هذا المستوى آلاف السنين.
وفي الثمانينيات من القرن الماضي، وبفضل القاطرات البخارية المتطورة، استطاع الإنسان أن يصل إلى سرعة 100 ميلٍ في الساعة، أي بعد 3400 سنة.
لكنّه بعد 58 عامًا على استخدام القاطرات البخارية، استطاع في سنة 1938م أن يطير بسرعة 400 ميلٍ في الساعة، أي أربعة أضعاف المستوى السابق.
وبعد عشرين عامًا، في الستينيات من القرن الماضي (القرن العشرين) وصلت سرعة الطائرات الصّاروخية إلى 4000 ميلٍ في الساعة، واستطاع الإنسان أن يدور حول الأرض في كبسولات الفضاء التي تسير بسرعة 18000 ميل في الساعة[1].
أثر التطور على حياة الإنسان
إنّ كلّ تطور جديد يصنع تحوّلًا في حياة الإنسان الفكرية والاجتماعية والسلوكية مع أبناء جنسه ومع الطبيعة من حوله، فاختراع المصباح الكهربائي من قبل الأمريكي (أديسون) (1847-1931م)، غيَّر مسار البشرية، وكذلك اكتشاف الجاذبية الأرضية من قبل الإنجليزي (نيوتن)، واختراع الهاتف من قبل (الكسندر غراهام بيل) سنة 1876م، حيث كان حجر أساس في ثورة الاتصالات الإلكترونية، وصولًا إلى اختراع الحاسوب ثم الإنترنت، الذي تعتمد عليه الآن الشركات والمصارف والمشافي وشبكات المواصلات.
وعلى جانب التطور والتقدم في الإنتاج الفكري والمعرفي، يجد الإنسان اليوم أمامه كمًّا هائلًا من الكتب والمجلات والأبحاث، التي لا يمكن تتبعها، فعلى سبيل المثال:
عدد الكتب التي تم نشرها هذا العام 1.864.604
الجرائد الصادرة في العالم هذا اليوم (7 محرم 1440هـ) فقط 400.558.110
وهكذا تستمر مسيرة التطور في حياة الإنسان في مختلف المجالات، لتتفاعل انعكاساتها الفكرية والسلوكية والاجتماعية.
وعلى صعيد الانفجار السّكاني يقول تقرير (حالة سكان العالم 99) الصادر عن صندوق الأمم المتحدة للإسكان: إنّ عدد سكان العالم زاد بمقدار أربع مرات خلال القرن العشرين، ففي بداية القرن العشرين كان 1.5 مليار نسمة ووصل إلى مليارين عام 1927م ثم ثلاثة مليارات عام 1970م ثم أربعة عام 1974م ثم خمسة عام 1987م وفي 12 تشرين أول 1999م وصل العدد إلى 6 مليارات نسمة. وعدد سكان العالم حاليًّا يقدّر بـ 7.6 مليارات نسمة[2].
استجابة المجتمعات للتغيير
تتفاوت المجتمعات في استجابتها للتطوير والتغيير، فالمجتمعات الحيّة تستجيب لتطورات الحياة استجابة واعية، فتحافظ على هويتها وقيمها الأساسية، وتتمسّك بشخصيتها، لكنّها تستوعب التغيرات، وتتفاعل معها إيجابيًّا، وتنفتح عليها، لتطور نفسها من خلالها، فأيّ تقدّم تحرزه الإنسانية هو مكسب لكلّ مجتمعاتها، ولا تستطيع حضارة معيّنة أن تدّعي احتكار صناعة التقدم، لأنّها استفادت من تجارب الحضارات التي سبقتها، فعلماء الغرب اليوم يعترفون بفضل الحضارة الإسلامية في إنجاز المستوى الحضاري الذي وصلوا إليه.
لكنّ المجتمعات الراكدة تأخذ موقفًا سلبيًّا من تطورات الحياة، حيث ترفض تلك التطورات، ثم لا تلبث أن تخضع لها مرغمة، كما رأينا في موقف بعض المجتمعات من التعليم ومن الوسائل التكنولوجية الحديثة. فالتعليم الأكاديمي حرام عند بعض الفئات، لأنّه ـ كما يرون ـ يميّع الدين ويضيّع المبادئ، ويسير بالمسلمين في طريق الكفار والأعداء!
وعلى سبيل المثال حركة (بوكو حرام) في نيجيريا، ترجمة اسمها (التعليم حرام)، وهو ما نفذّته طالبان فترة سيطرتها على أفغانستان، فتعليم البنات مشبوه!
وفي السعودية لم يقرّ تعليم البنات إلّا بعد فترة طويلة من ممانعة الجهات الدينية، وهكذا سائر التطورات، كالتلفزيون والسينما، والهاتف!
كما قال الشاعر:
على الإسلام والدنيا السلام إذا في السلك قد صار الكلام
وكان البعض يرى أنّ ركوب الدراجة حرام
قال شاعر قطيفي:
لا تركبنّ لسيكل تشقى به واعزب حياتك عن ركوب السيكل
فيه من الأخطار ما يقضي على عمر الفتى ونجاة من لم يفعل
وقد علّق أحد العلماء على هذين البيتين بقوله: تُعرف هذه الدراجة عند أهل القطيف والبحرين والأحساء بالسيكل، وعند كثير منهم تعرف بحصان إبليس، وهذا الاسم أشبه بها من الأول، فكم سببت أضرارًا مالية وبدنية على كثير من الناس، وما أشبهها بالخمر الذي إثمه أكبر من نفعه، وربما اتّخذت سلّمًا لما يخلّ بالشرف كلّ ذلك أشار إليه الناظم بقوله: فيه من الأخطار... إلخ)[3].
طائفة الآمش
لا يقتصر هذا على المسلمين، فبعض الجماعات الدينية المسيحية لا تزال تعيش حالة الرفض لتطورات الحياة، مع أنّها تعيش في قلب أمريكا، ومنها طائفة (الآمش Amish) الذين يزيد تعدادهم على 250 ألفًا في 28 ولاية أمريكية، إضافة إلى كندا، فأبناؤها في مظهرهم كأنّهم أتوا من قرن مضى، لهم لباس بسيط متشابه يميّزهم، ويرفضون استخدام السيارات، ويستخدمون العربات التي تجرّها الخيول، ويستعملون طواحين الهواء ذات النمط القديم.
ويحرّمون الهواتف النقالة، كما يحرّمون التصوير، ولا يلتقطون صورًا لأنفسهم؛ لأنّها من دواعي الوثنية، وتؤدي إلى تباهي الإنسان بنفسه، ويعمل معظمهم في الزراعة والمهن الحرفية، حيث تعمل العائلة جميعًا، ولا يسمح بالزواج إلّا من داخل الطائفة، والرجال المتزوجون يحفون الشوارب ويطلقون اللحى.
والنساء يلبسن فساتين طويلة، ويغطّين رؤوسهنّ بمنديل، ويحرّمون الموسيقى، ويدرّسون أبناءهم في مدارسهم الخاصة ذات الغرفة الواحدة، ويعلّمونهم الأمور العلمية، ولا يلتحقون بالمدارس الحكومية ولا الجامعات، ولا يقبلون أموالًا ولا وظائف من الحكومة، ولا يشاركون في الانتخابات، ويحرّمون استخدام الكهرباء، ويكتفون بفوانيس الغاز[4].
أزمة الفكر الرافض للتطور
من الطبيعي أن يشقّ التطور طريقه إلى المجتمعات، فيكون واقعًا معيشًا، على الرغم من رفض بعض الجهات، وهنا تعيش بعض المجتمعات أزمة واضطرابًا؛ لأنّ التغيير من طبيعته أن ينعكس على الفكر والسلوك والعلاقات الاجتماعية، وهناك من يريد الحفاظ على أفكار وسلوك الزمن الماضي!
حينما نعود إلى الحقائق والنصوص الدينية، نرى أنّ الدين إذ يدعو إلى العلم، واكتشاف أسرار الكون، واستثمار خيراته، ويؤيد التطور العلمي والتكنولوجي، فإنّه يدرك آثار ذلك على الفكر والسلوك والعلاقات الاجتماعية.
نعم.. الدين يدرك ذلك ويرحب به، ويرى أنّ الالتزام بقيم الإيمان ومنطق العقل، يُمَكِّن الإنسان المؤمن من التعامل الواعي مع التطورات وانعكاساتها على الفكر والسلوك؛ لأنّ الدين لا يفرض على الإنسان قوالب فكرية في مختلف مجالات الحياة، وإنّما يطلق حرية الفكر والتفكير عند الإنسان، فكلّ آيات القرآن، دعوة إلى التفكير والتدبر، وهذا يعني القبول بنتائج التفكير الموضوعي القائم على الحجة والدليل.
إنّ الإسلام ليس كالكنيسة في عصور هيمنتها واستبدادها، حتى يفرض على الناس آراءً وأفكارًا حول الطبيعة والحياة تخالف العلم والعقل.
وفي السلوك والعلاقات هناك مبادئ قيمية، وهناك تشريعات محدودة، بينما الرقعة الأوسع في النشاط الإنساني متروك لعقل الإنسان وتجربته، لذلك يفسح الإسلام المجال لتفاعل الإنسان المؤمن مع تطورات عصره، في إطار القيم والمبادئ، باعتبار ذلك هو السياق الطبيعي.
ويشير الشيخ مرتضى مطهري إلى تأثير تطورات الحياة على الشأن الثقافي بقوله: وقد يكون شيء ما وسيلة للهداية، ثم قد يصبح الشيء نفسه في مكان آخر وسيلة للضلالة والضياع.
إنّ المنطق الذي يجعل من عجوز امرأة مؤمنة، قد يضلّ المثقف، وربّ كتاب متناسب مع ذوق عصر من العصور، ومنسجم مع مستواه الفكري وكان وسيلة في حينه لهداية الناس، ثم كان في وقت آخر سببًا لضلالهم،.. فباستثناء الكتاب السماوي، وأقوال المعصومين الحقيقية، نجد أنّ كلّ كتاب آخر رسالة لفترة محدودة، فإذا انقضت تلك المدة انتفت الرسالة)[5].
وبهذا المعنى يروى عن الإمام علي :(النّاسُ بِزَمانِهِمْ أَشْبَهُ مِنْهُمْ بِآبائِهِمْ[6]) فمن الطبيعي أن يتفاعل الناس مع التطورات التي تحدث في زمانهم، وعنه : >لا تَقسِروا أولادَكُم عَلى آدابِكُم فَإِنَّهُم مَخلوقونَ لِزَمانٍ غَير زمانِكُم<[7].
وعَنْ حَمَّادِ بْنِ عُثْمَانَ، قَالَ: كُنْتُ حَاضِراً عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللهِ إِذْ قَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَصْلَحَكَ اللهُ، ذَكَرْتَ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ كَانَ يَلْبَسُ الْخَشِنَ، يَلْبَسُ الْقَمِيصَ بِأَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ، وَمَا أَشْبَهَ ذلِكَ، وَنَرى عَلَيْكَ اللِّبَاسَ الْجَيِّدَ؟
قَالَ: فَقَالَ لَهُ: «إِنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ كَانَ يَلْبَسُ ذلِكَ فِي زَمَانٍ لَا يُنْكَرُ، وَلَوْ لَبِسَ مِثْلَ ذلِكَ الْيَوْمَ لَشُهِرَ بِهِ، فَخَيْرُ لِبَاسِ كُلِّ زَمَانٍ لِبَاسُ أَهْلِهِ»[8].
وورد عن الإمام علي بن موسى الرضا أنه قال: >إنَّ أهلَ الضَّعفِ مِن مَوالِىَّ يُحِبّونَ أن أجلِسَ عَلَى اللُّبودِ وألبَسَ الخَشِنَ، ولَيسَ يَتَحَمَّلُ الزَّمانُ ذلِكَ<[9].
اللبود جمع اللبد - بالكسر -: البساط من صوف وما يجعل على ظهر الفرس.
وعن الإمام علي : (مَنْ عَانَدَ الزَّمَانَ أرْغَمَهُ)[10] و (مَنْ كابَرَ الزَّمَانَ عَطِبَ)[11].
فمن لم يستجب لتطورات الحياة بوعيه واختياره، سيضطر للخضوع مرغمًا فيما بعد. لأنّه سيرى تعويق حياته وعطبها لو استمر في مكابرة التغيير والتطوير.
وفي هذا السّياق يذكر المرجع الراحل السيد محمد الشيرازي في موسوعته الفقهية في جزء (فقه النظافة)، مسألة مهمة في استحباب أن يعاشر الإنسان بآداب الناس، يستنبطها من رواية عن أحد الأئمة أنه قال: (بني، إذا كنت في بلدة فعاشر بآداب أربابها) فيقول: (وقد ورد الحث على أن تكون المعاشرة بآدابهم، فإذا تعارض فضل المستحب أو ترك المكروه مع ما هو المتعارف عند الناس قدم المتعارف، لأنّ دليل (فعاشر بآداب أربابها) مقدّم على دليل فعل المستحب أو ترك المكروه)[12].
من أسباب الجمود وممانعة التغيير:
أولًا: التقيّد بموروث الأسلاف
من الطبيعي أن يتربى كلّ جيل في أحضان الجيل الذي سبقه، ويرث منه أفكاره وعاداته وتقاليده، لكن على كلّ جيل أن ينظر في ظروف عصره، ويطور ما يمكن تطويره، حسب مقتضيات العصر.
يتحدث القرآن الكريم عن أهمّ عقبة كانت تواجه الأنبياء، وهي تشبث أقوامهم بأفكار وتقاليد آبائهم وأجدادهم، يقول تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ﴿٢٣﴾ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ ۖ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ﴾ سورة الزخرف (23-24)
وكلمة ﴿أُمَّةٍ﴾ بمعنى نظام ومسلك.
وكانت حجة بعض الأمم في رفضها للرسالات الإلهية، أنّها لم تنقل لهم عن آبائهم وأجدادهم، يقول تعالى: ﴿فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَٰذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَٰذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ﴾ سورة المؤمنون (24)
ثانيًا: جمود الفهم الديني
يحصل أنّ الفهم للدين يقف عند حدٍّ معيّن، وتأتي الأجيال المتعاقبة وتظنّ أنّ ذلك هو السّقف الأعلى الذي لا يمكن تجاوزه، وهو ما عبّر عنه الشهيد الصدر بـ (النزعة الاستصحابية)، ذكر ذلك في محاضرتين ألقاهما في أواخر حياته بعنوان (المحنة)، ثم طبعتا في كرّاس، يتحدث فيهما عن المحنة التي كانت تعيشها الحوزة العلمية في العراق، ويتعرّض فيها إلى نوعين من الأسباب: خارجي مفروض من العدو، وداخلي يتمثل في الجمود وعدم التطور، وهو بمثابة نقد ذاتي حيث يشير إلى (النزعة الاستصحابية) في الثقافة وأساليب العمل وإدارة الشأن الديني والاجتماعي، ويذكر أنّ إدارة الحوزة العلمية مرّت بأربع مراحل، لكنّها بقيت عند مرحلتها الرابعة، ومضى على ذلك سنين طويلة لم تشهد تغييرًا أو تطوّرًا.
ومن الأمثلة التي نلحظها في هذا المجال، الكتب الدراسية التي تدرس في الحوزات العلمية، معظمها كتبت قبل مئات السنين، كشرح ابن الناظم (توفي سنة 686 هـ) لألفية ابن مالك في مجال النحو واللغة العربية، وكتاب شرائع الإسلام في مسائل الحَلال والحَرام المعروف بالشرائع للمحقق الحلي (توفي سنة 676هـ)، وكتاب الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية للشهيد الثاني (توفي سنة 965 هـ)، وكتاب شرح الباب الحادي عشر في علم الكلام للعلامة الحلي (توفي سنة 726 هـ)، ويصعب تجاوزها إلى مناهج جديدة وكتب أخرى!!
وحتى أساليب إدارة الحوزة العلمية هناك جمود على طريقة موروثة، وكأنّها جزء من الالتزام الديني، مثلًا:
عندما أرادت بعض القيادات الدينية في الحوزة العلمية في قم تغيير طريقة استلام الطلبة لمكافآتهم الشهرية، وهي الحضور الشخصي والاصطفاف في طابور، أمام بيوت المراجع أو مدارسهم، واستبدالها بفتح حساب بنكي لكلّ طالب، حصلت معارضة للتغيير المقترح، وذكروا لذلك مبرّرات عديدة!، منها أنّ التغيير خلاف أعراف السلف الصالح!
ونقلوا في سيرة الشيخ عبدالكريم الحائري (1276 ــ 1355 هـ) - وكان زعيمًا مؤسسًا للحوزة العلمية في قم – أنّه أراد أن يشجع على دراسة اللغة الإنجليزية في الحوزة العلمية، فجوبه بالرفض والمعارضة، إذ كيف تصرف الحقوق الشرعية على تعلّم لغة الكفار!! مما اضطره إلى التراجع عن فكرته[13].
تطور الأديان الإلهية
كلّ الأنبياء يدعون إلى دين واحد وعقيدة واحدة، وهي الإيمان بالله تعالى وتوحيده، لكنّ شرائعهم متغيّرة، ولهذا نقرأ في القرآن الكريم قوله تعالى: ﴿وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾ سورة آل عمران (50)، وقوله تعالى: ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِم﴾ سورة الأعراف (157).
إنّ مسيرة الدين الإلهي عبر تاريخ الأنبياء حتى خاتمهم محمد ، تدلّ على أخذ تطور الزمان بعين الاعتبار، لذلك تعدّدت شرائع الأنبياء، وكانت مسألة الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم، حيث ترد آية بحكم ثم تأتي آية أخرى لتنسخ ذلك الحكم، كما يقول تعالى: ﴿مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا﴾ سورة البقرة (106)
والنبي كان يأمر ببعض الأشياء في ظرف ما، ثم ينهى عنها في ظرف آخر، وبالعكس أيضًا، وقد ينهى عن شيءٍ في وقت ما، ثم يبيحه ويلغي ذلك الحضر، لذلك تبدأ بعض الأحاديث بقوله : (إنّي كنت نهيتكم)، أو (إنّي كنت أمرتكم)، ولهذا يرى العلماء أنّ هناك أحكامًا ثابتة، وأحكامًا متغيّرة، يطلقون على المتغيرة أنّها (تدبيرية)، استلزمتها ظروف معينة، ثم تتغيّر بتغيرها.
وكذلك كان الأئمة بعد رسول الله يلفتون الناس إلى بعض الأحكام التي أمر بها النبي ، وأنّه إنّما أمر بها لظرف زمني معيّن، ومع تغيّره يتغيّر الحكم.
أورد الشريف الرضي في نهج البلاغة أنّ عليًّا سُئِلَ عَنْ قَوْلِ الرَّسُولِ - >غَيِّرُوا الشَّيْبَ ولَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ<، فَقَالَ : >إِنَّمَا قَالَ صلى الله عليه وآله ذَلِكَ والدِّينُ قُلٌّ، فَأَمَّا الآنَ وقَدِ اتَّسَعَ نِطَاقُه وضَرَبَ بِجِرَانِه فَامْرُؤٌ ومَا اخْتَارَ<[14].
وهناك حديث يمكن أن نفهم منه الزيادة والتجديد في علم الإمام، رواه الْمُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ:
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ عليه السلام: «إِنَّ سُلَيْمَانَ وَرِثَ دَاوُدَ، وَإِنَّ مُحَمَّداً وَرِثَ سُلَيْمَانَ، وَإِنَّا وَرِثْنَا مُحَمَّداً، وَإِنَّ عِنْدَنَا عِلْمَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ، وَتِبْيَانَ مَا فِي الْأَلْوَاحِ». قَالَ: قُلْتُ: إِنَّ هذَا لَهُوَ الْعِلْمُ؟
قَالَ: «لَيْسَ هذَا هُوَ الْعِلْمَ؛ إِنَّ الْعِلْمَ: الَّذِي يَحْدُثُ يَوْماً بَعْدَ يَوْمٍ وَسَاعَةً بَعْدَ سَاعَةٍ»[15].
وهكذا جاء دور الفقهاء المجتهدين ليقوموا بدور مواكبة المتغيّرات الحادثة، ويعيدوا النظر فيما قدّمه العلماء السابقون من آراء.
وقد أدخل السيد الخوئي خصوصيات الزمان في مناطات الأحكام كما جاء في كتاب (البيان في تفسير القرآن) حيث يقول: (والنسخ بهذا المعنى – أي نسخ الحكم – ممكن قطعًا، بداهة: إنّ دخل خصوصيات الزمان في مناطات الأحكام مما لا يشكّ فيه عاقل، ... وإذا تصوّرنا وقوع مثل هذا في الشرائع، فلنتصوّر أن تكون للزمان خصوصية من جهة استمرار الحكم وعدم استمراره، فيكون الفعل ذا مصلحة في مدّة معينة، ثم لا تترتب عليه تلك المصلحة بعد انتهاء تلك المدة، وقد يكون الأمر بالعكس)[16].
وقال العلامة الحلي: (الأحكام منوطة بالمصالح، والمصالح تتغيّر بتغيّر الأوقات، وتختلف باختلاف المكلّفين، فجاز أن يكون الحكم المعيّن مصلحة لقوم في زمان فيؤمر به، ومفسدة لقوم في زمان آخر فينهى عنه)[17].
لكننا نلحظ أنّ الفقهاء يتفاوتون في مدى استجابتهم للتغيير تبعًا لخلفياتهم الفكرية، ووعيهم بتطورات المجتمع والحياة.
ولهذه المشكلة بعدان:
البعد الأول: يتمثل في قصور معظم مناهج التعليم في المؤسّسة الدينية، فهي مناهج وضعت في عصور سابقة، لتخرج علماء لتلك العصور، وهي بحاجة للتحديث والتطوير لتربي علماء وفقهاء مؤهّلين لاستنباط الأحكام والمفاهيم الدينية التي يحتاجها إنسان هذا العصر، وتواكب تطورات حياته.
ثم إنّ الأجواء الفكرية والثقافية الحاكمة على معظم المدارس في الحوزات الدينية، أجواء مغلقة، لا تسمح بتفاعل المنتمين إليها مع مستجدات العصر وتطورات الحياة.
وقد يظهر في أوساط المؤسسة الدينية علماء وفقهاء يتجاوزون هذا القصور والانغلاق بجهد ذاتي، لكنّهم يواجهون غالبًا بالتحفّظ والمقاطعة والحصار، ويتّهمون بالابتداع والضّلال، أو يتم التشكيك في مؤهلاتهم العلمية حتى لا يحظوا بثقة الجمهور.
البعد الثاني: يتمثل في تفاعل المجتمع مع أطروحات التطوير والتجديد، فغالبًا ما يخذل الناس الفقهاء والعلماء الإصلاحيين، وينحازون إلى المحافظين، فيما يرونه احتياطًا لدينهم، وتجاوبًا مع عواطفهم الدينية الولائية.
وإذا ما تجاوزنا الجانب الديني فإنّ معظم مجتمعاتنا تعاني أيضًا من الركود والجمود في مجال العادات والتقاليد الاجتماعية، لذلك تجد التطور بطيئًا في أساليب التربية، وإدارة العائلة، وتسيير الشأن الاقتصادي وأعراف العلاقات العامة، مما يسبّب كثيرًا من الخلل والتعارض مع مصالح الأفراد والمجتمع.