الحساسية من النقد والتقويم
قد يحمل الإنسان فكرة، أو يقوم بعمل ما، اعتقاداً منه بصواب تلك الفكرة وصحة ذلك العمل، ثم يتبين له خطأ ما كان عليه.
ولا يستطيع الإنسان أن يدعي العصمة لنفسه، قد يعتقد بفكرة لوجود أدلة دعته إلى الإيمان بها، لكن الفكرة قد لا تكون صحيحة، وهو غير ملتفت إلى ضعف الدليل عليها، وقد يقوم بعمل ما، اعتقاداً منه بأنه عمل حسن، لوجود اشتباه في التشخيص!
كما أن الإنسان قد ينشدُّ إلى فكرة أو عمل، لميول نفسية عاطفية.
وهناك احتمال ثالث: أن يحدث منه ذلك استجابة وتكيُّفاً مع الجو الاجتماعي العام، حتى وإن لم يتأكد من صواب تلك الفكرة أو ذلك العمل.
من هنا تأتي أهمية النقد والتقويم، حتى يتأكد الإنسان من صحة أفكاره وأعماله، ويتلافى نقاط ضعفه.
لكن أكثر الناس قد يصعب عليهم ممارسة النقد الذاتي، حيث تصبح الفكرة أو الممارسة وكأنها جزء من ذاته وشخصيته، فإذا مارس النقد والتقويم، فكأنه يدين ذاته ويجرمها، ويتخلى عن جزء من كيانه، وهذا شيء صعب على الإنسان.
لهذا يتجنب أكثر الناس ممارسه النقد الذاتي، حتى لا يجد نفسه مضطراً للتخلي عن فكرة طالما آمن بها، أو عمل طالما مارسه واعتاد عليه.
لكن الإنسان الواعي الرشيد يهمه أن يصل إلى الحق والصواب، لذلك لا يجد حرجاً في نقد ذاته ومراجعة أفكاره، بل يرى ذلك خيراً له من الاستمرار في الخطأ.
بالطبع إن التقويم والتراجع عن بعض الأفكار ربما يزعج الإنسان نفسياً، خاصة إذا كان يعيش في مجتمع متخلف ينظر إلى تغيير الرأي والموقف كحالة ضعف، ويمارس الضغط على من يغير رأيه على أساس أن كلمة (الرّجال وحدة) ولا يليق بالإنسان أن يغيّر رايه.
بيد أن تغيير المواقف ضمن الضوابط والمعايير، يجب أن يكون محل تقدير وثناء، ذلك أن المنتقد لأفكاره المصحح لمسيرته يمتلك الشجاعة ويسعى للصواب،
ونحن نرى الفقهاء يراجعون آراءهم الفقهية ويعيدون النظر في أدلتها، وقد يغير المرجع فتواه، بعد زمن من عمل مقلديه بتلك الفتوى، ولا يضر ذلك بمنزلته العلمية، بل إن ذلك هو مقتضى مسؤوليته الشرعية.
ولهذا نجد النصوص الدينية تشجع الإنسان على النقد والمحاسبة، والله تعالى يقسم في القرآن الكريم بالنفس اللوامة يقول تعالى: ﴿ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾
والنفس اللوامة هي التي يكون نهجها المراجعة وإدانة خطأ الذات.
والنصوص الواردة في التراث الديني كثيرة في هذا المجال، فقد ورد عن الإمام علي أنه قال: (عِبَادَ اللَّهِ زِنُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُوزَنُوا، وَحَاسِبُوهَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تُحَاسَبُوا)، أي أن على الإنسان أن يبادر لتقويم أعماله وقياسها بالمعايير الصحيحة، قبل ان ينتقده الآخرون ويقوموا أعماله. وقبل ان يقف للحساب بين يدي الله تعالى.
التقويم على المستوى الجمعي
هناك نوع آخر من النقد، وهو تقويم الجماعة لأوضاعها، وفي عالم الاقتصاد اليوم تقوم الشركات والمؤسسات، بمراجعة نشاطاتها وأعمالها وخططها، وكذلك الأحزاب والحكومات.
فقد أصبح التقويم جزءاً من الحياة الحضارية لكل مؤسسة أو جماعة، خاصة حينما تواجههم مشاكل أو أزمات، فعلى سبيل المثال إذا فشل أحد الأحزاب في الانتخابات، يعقد مؤتمراً للتقويم، لتحديد أسباب الفشل واكتشاف مواطن الخلل.
ومجتمعاتنا التي يوفقها الله لإحياء المناسبات والمواسم الدينية ينبغي أن تعتمد نهج تقويم برامجها في كل عام، في سياق تطوير الأداء وسد الثغرات، بحيث تعقد إدارات المجالس والمواكب، وكذلك الخطباء جلسات نقاشية، لتعزيز نقاط القوة، والتخلص من الملاحظات والأخطاء والسلبيات.
ونشير هنا إلى عدد من الأسئلة المهمة في مجال التقويم:
1/ هل يمكن تطوير الأداء إلى الأفضل، وما هي مجالات التطوير؟
2/ ماهي نقاط الضعف، والثغرات؟
3/ كيف نستثمر هذا الموسم استثماراً أفضل؟
رأي مخالف للتقويم
هناك من يعارض نقد وتقويم البرامج الدينية، ويرون أن النقد يُضعف المناسبة ويقلل من هيبتها وقدسيتها في النفوس، وينطلقون في ذلك من مبررات معينة.
ويمكن تلخيص الأسباب التي يعرضها أصحاب هذا الرأي في التالي:
أولاً: أن أي نقد يضعف المناسبة ويقلل من هيبتها وقدسيتها في النفوس.
ثانياً: أن النقد يفتح المجال لنقود متوالية، فقد يطال النقد كل شيء في هذه المناسبات العظيمة.
ثالثاً: هناك أعداء يختبئون وراء النقد بهدف النيل من المناسبة، فيثيرون الإشكالات والشبهات والتساؤلات، وينبغي عدم التجاوب مع مؤامرات الأعداء.
نقاش علمي
لكن هذه المبررات المذكورة محل نقاش، فأصل إحياء المناسبة الدينية ثابت لا جدال فيه، أما الوسائل والبرامج والشعارات فهي قابلة للنقد، لأنها جهد بشري، قابلة للتطوير، وقد تدخل عليها أخطاء وتحصل فيها ثغرات، فلماذا لا يعاد النظر فيها؟!
والأفضل أن يحصل النقد من أصحاب الشأن أنفسهم، فمن غير المناسب أن ننتظر من ينتقدنا من خارج الدائرة.
من جهة أخرى فإن النقد ـ غالباً ـ يؤدي إلى تقوية الفكرة، حيث تناقش أدلتها وبراهينها، وقد تظهر لها أدلة أخرى، تعزز جوانب القوة، كما تتخلص من نقاط الضعف، مما يدفع العلماء والمفكرين إلى إعادة البحث، وطرحها بشكل أقوى، فالنقد يكون سبباً لتعزيز الفكرة السليمة الصحيحة، وقد يكشف نقاط ضعف تستبعد.
لذلك يذهب الشهيد الشيخ مرتضى مطهري إلى أن نقد كثير من القضايا الدينية في العصر الحديث
هو الذي دفع العلماء لمزيد من البحث والاجتهاد والفحص في الأدلة فطرحوا تلك القضايا بأدلة أفضل مما كان في الماضي.
وعلماؤنا يقولون: نحن أتباع الدليل حيثما مال نميل.
لكن بعض النفوس تضيق ذرعاً بالنقد أو بوجود رأي آخر، والأدهى من ذلك حين يكون الرفض بعنوان الغيرة على المذهب والشعائر، وكأن الداعين إلى النقد والتقويم لا غيرة لهم على الدين ولا يهتمون بالشعائر، وفي ذلك مغالطة وتضليل وتعبئة للناس بغير حق!!
نحن نرى أن علماءنا إذا طرحوا رأياً عقدياً أو أصولياً أو فقهياً، يفترضون إشكالاً ويردون عليه، وذلك لقوتهم العلمية، وفي عباراتهم (وإذا قيل كذا، ولو استشكل أحد)، وهذا هو البحث العلمي.
نحن اليوم أمام إشكالات وتساؤلات قائمة، فأبناؤنا تعلموا وانفتحوا على مختلف الثقافات، ومن الطبيعي أن تبرز في أذهانهم تساؤلات واستفهامات، ولا أحد يستطيع أن يغلق باب التساؤل، بل علينا أن نبحث عن الإجابات العلمية المقنعة، لأننا إذا أغلقنا الباب، ستكون النتيجة أن يقتنع أبناؤنا بضعف المذهب، مما يسبب نفوراً وتشكيكاً، بينما فتح باب النقاش والحوار يقوي أدلتنا، ويتيح الخيارات أمام الناس، كل يختار ما يقتنع به، ويبقى الجميع في إطار المذهب.
إذن من الضروري أن يكون هناك سعي للنقد والتقويم، إن تقويم أنشطتنا وأعمالنا وبرامجنا أمر مطلوب، وخاصة النقد البناء الإيجابي العلمي، الذي يقوي الدين ولا يضعفه.