سماحة الشيخ الصفار يستقبل مولد الإمام الحسين بكتابه الجديد: الإمام الحسين الشخصية والقضية
يتناول الداعية الإسلامي سماحة الشيخ حسن الصفار في كتابه الجديد: الإمام الحسين الشخصية والقضية محورين أساسين يتضمنهما عنوان الكتاب، فالمحور الأول يُركز فيه الكاتب على شخصية الإمام الحسين وأبعادها ومزاياها العظيمة، وفي المحور الثاني يُبحر الكاتب في سماء قضية الإمام الحسين الخالدة والتي شقّت طريقها للأجيال من قبل حدوثها بأكثر من نصف قرن منذ الولادة المباركة للحسين وإلى أن تقوم الساعة.
ففي مقدمة الكتاب يؤكد الشيخ الصفار على تميز نخبة قليلة من بني البشر بتطلعها لأفق أرحب من هموم الذات، فتسعى لإسعاد الآخرين، ولخدمة المبادئ والقيم السامية، وللارتقاء بمستوى الحياة إلى ما هو الأفضل والأحسن. ويُمثل الإمام الحسين قمة المجد السامقة لهذه النخبة في التاريخ البشري.
ينطلق الكاتب في معالجته لشخصية الإمام الحسين منذ اللحظات الأولى لولادته والتي رافقتها ظاهرة فريدة من نوعها تتمثل في أسلوب استقبال الرسول الأعظم لهذا الوليد المبارك، وفي هذا الإطار انتقد الشيخ الصفار أسلوب الانتقاء المصلحي للنصوص الواردة في السيرة النبوية مؤكداً أن الموضوعية تقتضي أن تكون درجة الاهتمام بأي نص أو حدث، تابعة لمقاييس وضوابط علمية، تأخذ بعين الاعتبار مستوى الصحة والوثاقة في النقل، وموقعية ذلك الأثر المنقول في منظومة الفكر والتشريع الديني، وضمن سياق الوقائع التاريخية.
واستعرض الشيخ الصفار نماذج من الروايات التي تتحدث عن الظاهرة الفريدة والتي رافقت ولادة الإمام الحسين ومنها ما ورد في المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري، حديث رقم (4818) بسنده «عن أم الفضل بنت الحارث أنها دخلت على رسول الله فقالت: يا رسول الله، إني رأيت حلماً منكراً الليلة، قال: «ما هو؟»، قالت: إنه شديد، قال: «ما هو؟»، قالت: رأيت كأن قطعة من جسدك قطعت ووضعت في حجري. فقال رسول الله : «رأيت خيراً تلد فاطمة إن شاء الله غلاماً فيكون في حجرك» فولدت فاطمة الحسين فكان في حجري، كما قال رسول الله ، فدخلت يوماً إلى رسول الله فوضعته في حجره، ثم حانت مني التفاتة، فإذا عينا رسول الله تهريقان من الدموع، قالت: فقلت يا نبي الله بأبي أنت وأمي ما لك؟ قال: «أتاني جبريل عليه الصلاة والسلام فأخبرني أن أمتي ستقتل ابني هذا فقلت: هذا! فقال: (نعم) وأتاني بتربة من تربته حمراء». قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.» (الحاكم النيسابوري: المستدرك على الصحيحين ج3 ص194. )
ويقف الشيخ الصفار وقفة تأمل عند هذه الروايات المتواترة مؤكداً أنه لا يصح المرور على هذه الظاهرة مرور الكرام، ولا ينبغي تجاهلها عند من يقدّس سنة رسول الله ، ويعتقد حُجَّية أقواله وأفعاله، بل لا بد من البحث عن مدلولات هذه القضية، والتأمل في أبعادها ومعانيها. وأشار الكاتب إلى أن إخبار الرسول بما سيجري على سبطه الحسين قبل وقوع الحدث بأكثر من نصف قرن هو من مصاديق المغيبات التي أخبر عن وقوعها، فوقعت كما أخبر.
ويضيف الكاتب أن هذه الروايات تؤكد بجلاء أهمية الموقعية الخاصة للإمام الحسين عند جده رسول الله ، وعند الله تعالى. كما أنها تؤكد أهمية الحادثة وشدة وقع مصيبة الحسين على قلب رسول الله ، ولذلك يقول الكاتب: ((إنه لا يصح النظر إلى حادثة كربلاء على أنها صراع سياسي على الحكم والسلطة، ولا معركة شخصية بين الحسين ويزيد، ولا مجرد خلاف نشب بين أطراف من السلف لا شأن للأجيال اللاحقة به. فالمسألة أعمق من أن ينظر إليها بهذه الطريقة السطحية الساذجة، إنها ترتبط بحفظ مكانة رسول الله في الأمة، وبموقعية أهل بيته الذين يشكلون امتداده الرسالي، كما ترتبط بموقف الأمة تجاه الظلم والانحراف)).
ويُقدّم الشيخ الصفار من خلال حديثه السابق نظرة اجتماعية تتعلق بالاهتمام بمستقبل الأبناء مشيراً أن الرسول لم ينشغل بأفراح لحظات ولادة الحسين عن استشفاف مستقبله ومصيره، وفي ذلك فائدة تربوية هامة هي ضرورة التفكير في مستقبل الأبناء، والتخطيط لأدوارهم في الحياة، مضيفاً: إن التفكير المستقبلي يجب أن يكون جزءاً لا يتجزأ من اهتمامات الإنسان الواعي، وخاصة مع تعقيدات الحياة الحاضرة، وزيادة متطلباتها.
وتناول الشيخ الصفار البعد الاجتماعي في حياة الإمام الحسين من خلال ثلاث نقاط: الحضور الاجتماعي، النموذج الأخلاقي، والاهتمام بمناطق الضعف في المجتمع.
فعند حديثه عن الحضور الاجتماعي للإمام الحسن أشار إلى أن الإنسان بحمله لأهدافٍ كبيرة، وبامتلاكه مستوى علمياً متقدماً، فإن ذلك لا يؤثر شيئاً في حركة الواقع والحياة، ما لم يصاحبه حضور اجتماعي، يشق الطريق أمام تلك الأهداف الكبرى، ويترجم العلم إلى فعل ملموس. مؤكداً أن والإمام الحسين نشأ من بداية حياته في عمق الشأن الاجتماعي وفي صميم الأحداث، فجده رسول اللَّه كان قطب رحى المجتمع وقائده الأعلى، وأبوه علي كان وزير الرسول، وساعده الأيمن، بل كان نفسه بنص آية المباهلة، فكان حضوره في ساحة الشأن العام أمراً طبيعياً. واستعرض نماذج تاريخية من سيرة الإمام الحسين تبين هذه الحقيقة.
وأما عن الجانب الأخلاقي عند الإمام الحسين يقول الكاتب: ((والإمام الحسين كان قمة في هذا المجال، فقد كان -فيما أجمع عليه الرواة- لا يقابل مسيئاً بإساءته، ولا مذنباً بذنبه، وإنما كان يغدق عليهم ببره ومعروفه، شأنه في ذلك شأن جده الرسول ، الذي وسع الناس جميعاً بأخلاقه وفضائله، وقد عرف بهذه الظاهرة وشاعت عنه.
وأما اهتمام الحسين بمناطق الضعف في المجتمع فهو كما يُشير الشيخ الصفار كأهل بيته الطاهرين عليهم السلام كانوا يعيشون للناس أكثر مما يعيشون لأنفسهم، ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ (سورة الحشر، 9)، واستعرض نماذج في هذا المجال من السيرة العطرة للإمام الحسين ، ويُشير الشيخ الصفار في هذه النقطة إلى أن إنسانية الإنسان إنما تتجلى، ويصدق إيمانه باهتمامه بالمحتاجين والفقراء في مجتمعه، ومهما بلغ الإنسان من العلم، أو اجتهد في العبادة، فإنه لن تتحقق إنسانيته، ولن يصح تدينه، إذا ما تجاهل مناطق الضعف في المجتمع، وفي ذلك يقول تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ، فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ، وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾ (سورة الماعون، 1 – 3).
وبعد هذا الحديث عن شخصية الإمام الحسين ينتقل الشيخ الصفار إلى المحور الثاني لكتابه وهو الحديث عن قضية الإمام والمتمثلة في ثورته المباركة، ويبدأ ذلك بالحديث عن التأثير الفكري والثقافي لهذه النهضة الخالدة في مختلف ميادين المعرفة والحياة، فعلى الصعيد الديني يؤكد الكاتب على أن ثورة الإمام الحسين أعادت طرح موقعية أهل البيت عليهم السلام في الأمة، بعد فترة من التجاهل والتنكر لحقهم ولدورهم، رغم تأكيد القرآن الكريم على طهارتهم، وعلى مودتهم كأجر للرسالة. وعلى المستوى السياسي يقول الشيخ الصفار: ((أعادت ثورة الإمام الحسين فتح ملف الخلافة والحكم، والمواصفات التي يجب أن تتوفر في قيادة الأمة، والمنهج الذي يجب أن تسير عليه، وموقف الأمة من انحراف الحكم عن شريعة الله وقيم الدين)). وقدمت حركة الإمام الحسين في الجانب الاجتماعي منظومة مناقبية جديدة، تنبثق من روح المسؤولية والالتزام الأخلاقي، في مقابل سيطرة الروح الأنانية والمصلحية والانتهازية.
وأكد سماحة الشيخ الصفار أن هذا التأثير الفكري الثقافي الكبير الذي تركته ثورة الإمام الحسين في أوساط الأمة، خلق موجاً هائلاً، وحركة معرفية ضخمة، لا تزال تتواصل وتنمو وتتراكم، ضمن مختلف أبعاد المعرفة. فهناك الحسينيات والخطباء والشعراء كل يُبحر في قضية الإمام الحسين حسب تخصصه مما أعطى لهذه الثورة المعرفية أهمية فريدة من نوعها.
ويشير الشيخ الصفار إلى قضية محورية للتعامل مع الثروة المعرفية لثورة الإمام الحسين ، فهي أولاً بحاجة إلى تنظيم يجمع شتاتها المتناثر على مساحات الأزمنة والأمكنة واللغات والأقوام، وإلى برمجة لتصنيف المفردات والمضامين. كما أنها بحاجة إلى تحقيق علمي عميق، يبرز كل جانب منها في إطار موضوعي مناسب، ويتناول أبعادها المتنوعة بالتحليل والتمحيص. مؤكداً أنها مهمة خطيرة شاقة لا يغامر بالتفكير فيها والإقدام عليها كل أحد. ودعا علماء الحوزة العلمية إلى عدم الاقتصار على البحوث الأصولية والفقهية والعزوف عن بقية حقول العلم والمعرفة الإسلامية والإنسانية، مشيداً ببعض الإنجازات المحدودة لبعض أقطاب الحوزة العلمية مثل العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (صاحب تفسير الميزان) والعلامة الشيخ عبد الحسين الأميني (صاحب موسوعة الغدير)، والعلامة الشيخ آغا بزرك الطهراني، (صاحب موسوعتي: الذريعة إلى تصانيف الشيعة و طبقات أعلام الشيعة) والإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر (صاحب: فلسفتنا و اقتصادنا و الأسس المنطقية للاستقراء).
وبارك الشيخ الصفار للخطوة الرائدة والحديثة التي تبناها العلامة الشيخ محمد صادق الكرباسي في التصدي لتنظيم وتحقيق المعارف الحسينية ضمن موسوعته الضخمة (دائرة المعرف الحسينية) والتي بلغت عدد مجلداتها حسب مخططها إلى ما يزيد على الخمسمائة مجلداً، وقد تصل إلى سبعمائة مجلداً، مشيداً بما تتضمنه هذه الموسوعة من معارف ضخمة تحكي عن علم غزير، وقدرة تحقيقية هائلة، وإطلاع معرفي واسع.
ويتحدث الشيخ الصفار في كتابه عن موسم عاشوراء والذي يُشكل أهم موسم ديني ثقافي لدى المجتمعات الإنسانية، فهو موسم تشمل رقعته كل المنتمين إلى مذهب أهل البيت (علهم السلام)، والذين يزيد عددهم على أربع مئة مليون إنسان، يتواجدون في مختلف بقاع العالم وأرجائه. مشيراً إلى أن أبرز برامج هذا الموسم: الخطب والمحاضرات التثقيفية التوعوية، التي تذكر الناس بتعاليم الدين، وتشرح لهم مبادئه وأحكامه، وتتحدث لهم عن سيرة الرسول وأهل بيته الكرام (عليهم السلام)، وعما قدموه من تضحيات لخدمة الدين وإصلاح الأمة، وما تحملوه من مآس وآلام في سبيل الله.
ودعا الشيخ الصفار إلى ضرورة أن يكون استثمار هذا العطاء الكبير لموسم المحرم بشكلٍ أفضل، لتحقق البرامج أهدافها في حياة الفرد والمجتمع، وإلا تحوّل إلى مجرد عادة طقوسية وتقليد متعارف، ويُذكر الكاتب بعدة أمور تُسهم في استثمار هذا الموسم بشكلٍ أفضل، وهي:
أولاً- أن تُكثّف الجهود بأن يُطالب كل فرد واعٍ من أبناء المجتمع نفسه بدور ومشاركة، فليس هناك متفرج، ولا تصح اللامبالاة، بل على الجميع بذل ما يتمكنون من الجهود والطاقات، من أجل إحياء هذه الشعائر، بأفضل وجه، وخير طريق.
ثانياً- ينبغي أن تسود روح العمل الجمعي والتعاون على تنظيم برامج هذا الموسم، بحيث يكون هناك تنسيق بين الخطباء لتناول المواضيع الأكثر أهمية، وتعاون بين أصحاب المجالس، وكذلك بين مواكب العزاء، وحتى الإطعام ينبغي أ، يكون هناك تنسيق في كيفية توزيعه على المجتمع، كل ذلك في سبيل تحقيق الفائدة القصوى من الموسم.
ثالثاً- ينبغي أن يكون هناك خطابٌ يدعو إلى الوحدة والتقارب بعيداً عن الإثارات الطائفية التي لا تخدم إلا الأعداء، كما ينبغي تشجيع المجتمع على التعاون مع مختلف المناشط الاجتماعية.
رابعاً- من الضروري أن تكون هناك رعاية للأمن والنظام والحفاظ على الهدوء والاستقرار، ليُمارس الناس شعائرهم بهدوء وانسياب.
وفي الأوراق الأخيرة لهذا الكتاب يُشير الشيخ الصفار إلى نقطة مهمة تتعلق بدراسة واقع المجتمع الشيعي حيث يقوم الكثير من الباحثين بدراسة بعض الظواهر التي يتميز بها المجتمع الشيعي على غيره من المجتمعات، وبهذا الصدد يُذكر الشيخ الصفار هؤلاء الباحثين بضرورة الالتفات إلى الثقافة السائدة في هذه المجتمعات، وهي بمجملها ثقافة حضور سيرة أهل البيت في مختلف المستويات العلمي والروحي والعاطفي، ويُشير إلى بعض الآثار والانعكاسات لاستحضار سيرة أهل البيت في ثقافة المجتمعات الشيعية، وهي: الارتباط بالقيادة الدينية وفق الضوابط والقيم، الحساسية تجاه الظلم والعدوان، وضبط الانفعالات.
ويؤكد الشيخ الصفار مرةً أخرى على ضرورة استثمار موسم عاشوراء في مختلف مجالات الاهتمام بالشأن العام، وذلك لأن استحضار سيرة أهل البيت (عليهم السلام) وأحداث كربلاء تفتح أمام العقل والقلب آفاقاً رحبةً من الوعي والطهر والصفاء، وركّز على المجالات التالية: التأكيد على التمسك بالقيم والالتزام بالأخلاق، التماسك الاجتماعي، وأخيراً التفاعل الوطني.
السلام على الحسين، وعلى علي بن الحسين، وعلى أولاد الحسين، وعلى أنصار الحسين، ورحمة الله وبركاته.