أخلاق الرسول بين التأسي والانبهار
ثمة تركيز إلهيٌّ لافت للنظر حول جانب محدّد من عظمة النبي الأكرم وهو الجانب المتمثل في الأخلاق العظيمة التي تخلّق بها .
فمما لا شك فيه أنّ رسول الله كان عظيمًا في كّل جوانب الخير والكمال، فهو عظيم في عبادته ونسكه، وفي مكانته عند الله، كما في إنجازه التاريخي، وهو عظيم في علمه ومعرفته لاتصاله بالوحي، وعظيم في شجاعته وصموده كما تحكي ذلك سيرته في مواجهة الأعداء، وتحدي الصعاب.
غير أنه في مقام الإطراء والتقدير للنبي لم يركز سبحانه وتعالى على شيء من تلك الجوانب، بقدر ما ركز من بين كلّ جوانب العظمة عنده على جانب محدّد، وأولاه الأهمية القصوى، ألا وهو عظمته في جانب الأخلاق، وذلك في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾. ولعل المغزى من الإشادة الإلهية بالجانب الأخلاقي عند نبيّه على وجه التحديد، لتوجيه الأمة إلى دراسة أخلاق نبيّها، والاقتداء بها. يقول تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾.
إنّ على الأمة أن تولي المجال الأخلاقي في سيرة نبيّها الأكرم، الاهتمام الأكبر، لا لغرض التبجيل والانبهار فحسب، ذلك أنّ كثيرًا من المسلمين درجوا على إبداء الإعجاب والانبهار، كلما ذكرت فضيلة أو مكرمة أو موقف أخلاقي لرسول الله ، وليس هذا هو المطلوب، بل المطلوب أولًا وأخيرًا الاقتداء بالنبي، والتأسّي بأخلاقه، بخلاف ما هو سائد عند بعض الأوساط التي ترى في أخلاق النبي مُثلًا عليا لا يمكن بلوغها، والجواب على هؤلاء؛ أوَلم يبعث الرسول لكي يقتديَ به الناس!.
إنه ينبغي لكلّ فردٍ في الأمة أن يتأسّى بأخلاق رسول الله ، خاصة أولئك الذين يتبوؤون مواقع القيادة والتأثير، من الحكّام، والعلماء، والقادة الاجتماعيين والإداريين.
مدرسة في التربية
لقد تناولت كتب التاريخ والسيرة النبوية سيلًا من المرويات والمواقف حول عظمة أخلاق النبي الأكرم . ومن تلك النماذج، ما رواه ابن مسعود عن رسول الله أنه قال: «اللّهمّ كما حسَّنتَ خَلْقي فحسِّنْ خُلْقي»[1]، فبالقدر الذي يهتم فيه الإنسان بجماله وأناقة مظهره، عليه أن يهتمّ بجمال أخلاقه وأناقة جوهره المعنوي.
وعن أنس أنه قال: «خدمت رسول الله عشر سنين، وفي لفظ: إحدى عشرة سنة، وأنا ابن ثمان سنين، في السفر والحضر، والله ما قال لي: أفّ قطّ، ولا لشيء صنعته لـِمَ صنعت هذا هكذا، ولا لشيء لم أصنعه لـِمَ لـَمْ تصنع هذا هكذا؟ ولا لشيءٍ صنعته: أسأت صنعته، أو لبئس ما صنعت، ولا عاب عليّ شيئًا قطّ، ولا أمرني بأمر فتوانيت عنه، أو ضيّعته فلامني، ولا لامني أحدٌ من أهله إلّا قال دعوه، فلو قُدِّرَ أو قال قضي أن يكون كان»[2]، وهذا ما يظهر إلى أيِّ حدٍّ بلغت أخلاقه وسجاياه بحيث لم يظهر التبرم ولا التأفّف من خادمه ولو لمرة واحدة طيلة عشر سنين، كما لم يكن معاتبًا ولا لوّامًا!، وفي ذلك رسالة لنا حول كيفية تعاملنا مع السّائقين والخدم العاملين في منازلنا.
ومما روي في عظمة أخلاق النبي الأكرم ما رواه أنس قال: «كَانَ النَّبِيُّ إِذَا اسْتَقْبَلَهُ الرَّجُلُ فَصَافَحَهُ لا يَنْزَعُ يَدَهُ مِنْ يَدِهِ، حَتَّى يَكُونَ الرَّجُلُ هُوَ الَّذِي يَنْزَعُ، وَلا يَصْرِفُ وَجْهَهُ حَتَّى يَكُونَ الرَّجُلُ هُوَ الَّذِي يَصْرِفُهُ، وَلَمْ يُرَ مُقَدِّمًا رُكْبَتَيْهِ بَيْنَ يَدَيْ جَلِيسٍ لَهُ»[3].
وهكذا تمتلئ كتب التاريخ والسيرة بتراث كبير ونماذج مفصّلة عن عظمة أخلاقه .
على الأمّة أن تستقي من المعين الأخلاقي العظيم لنبيّها . وذلك لأهمية التحلي بالأخلاق الكريمة، التي لا قيمة للإنسان بدونها، مهما كانت لديه من مقوّمات القوة، فكلّ المقومات لا تعوّض الإنسان عن الاهتمام بحسن الخلق، ورقي التعامل مع الآخرين. والحقيقة الأخرى، هي أنّ هذه الأخلاق العظيمة الواردة في سيرته لا ينبغي أن تذكر لمجرّد الانبهار والتمجيد وحسب، وإنّما ينبغي أن تكون محورًا للتأسّي والاقتداء.