تجاوز الخطأ ومواجهة الضغوط
الإنسان في هذه الحياة معرض للوقوع في التوجهات الخطأ، والانزلاق في مسالك الانحراف، في الجانب الفكري قد يعتنق أفكاراً غير صحيحة، وفي الجانب العملي والسلوكي قد ينخرط في ممارسات منحرفة فاسدة.
وانزلاق الإنسان إلى الخطأ قد يكون بسبب نشأته والبيئة التي عاش فيها، وقد يكون بسبب غلبة هوى أو شهوة، أو نزعة مصلحية أنانية، وقد يكون بسبب قرناء السوء.
قد يستمر الإنسان في الخطأ لفترة، ثم يستيقظ ضميره، ويدرك أنه قد وقع في الخطأ، وحالة اليقظة أو الانتباهة لحظة مهمة جداً، قد تحصل للإنسان عن طريق تأمله في ذاته وأفكاره وسلوكه، وقد تواجهه صدمة تجعله يعيد النظر في وضعه وحساباته، أو يحظى برفقة صالحة أو يصغي إلى ناصح مشفق يتأثر بنصيحته.
لكن التراجع عن الخطأ ليس أمراً سهلاً، فقد يواجه الإنسان صعوبات ومعوقات تمنعه وتعرقل رجوعه إلى الطريق الصحيح، هذه المعوقات قد تكون من داخل الإنسان، لأنه ألِف سلوكاً معيناً يصعب عليه أن يغيره، وقد ورد عن علي أنه قال: (لِلْعَادَةِ عَلَى كُلِّ إِنْسَانٍ سُلْطَانٌ) [عيون الحكم و المواعظ، ص403]، وعن الإمام الحسن أنه قال: (اَلْعَادَاتُ قَاهِرَاتٌ) [تنبيه الخواطر: ج2، ص113] فمخالفة الإنسان لأمر ألفه وتعود عليه ليس أمراً سهلا، فيحتاج إلى التحلي بالعزم والإرادة القوية، وهناك ضغوط خارجية تمنع الإنسان من التراجع عن خطئه، وأهم تلك الضغوط هي المحيط والجماعة التي ينتمي إليها في سلوكه الخطأ.
إذا كان الخطأ ممارسة فردية يكون التراجع سهلاً، أما إذا كان الخطأ ضمن حالة جمعية، هنا يواجه الإنسان صعوبة كبيرة في التراجع عن خطئه، لأن المجموعة التي ارتبط بها لا تفسح له المجال للتخلي عنها، تتشبث به ولا تترك له فرصة للعودة عن خطئه.
كل عمل جمعي يرتبط به الإنسان عادة ما يكون أكثر انشدادًا إليه، فالحالة الجمعية تخلق عند الإنسان اندفاعا واستمرارية في توجهه وعمله سوء كان في اتجاه الخير أو الشر، ولذلك يقول الله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ﴾، حينما يكون البر والتقوى ضمن حالة جمعية وعمل جمعي، يكون أدعى للاستدامة والاستمرار والثبات، وفي المقابل يقول تعالى: ﴿وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾، لأن عمل الإثم والعدوان إذا كان ضمن حالة جمعية يكون أكثر استمرارية، والإنسان فيه أكثر انشدادًا.
ومن الملاحظ أن جماعات الشر والانحراف أكثر تشبثا بأفرادها، إذا انتمى إليهم أحد يتشبثون به، ولذلك يصعب على من تورط معهم أن يغادرهم، يمارسون عليه ضغوطاً بالترغيب والترهيب، وهذا ما تقرره البحوث والدراسات الاجتماعية.
عصابات المافيا وجماعات العنف وشبكات ترويج المخدرات تتشبث بأفرادها، وإذا فكر أحدهم أن يتمرد على الحالة السابقة يتصدون له بالترهيب والابتزاز، وقد يصل الأمر الى التصفية الجسدية، لأنَ أفراد هذه الجهات المنحرفة يخالفون الفطرة العميقة في نفوسهم، ومن أجل أن يسكتوا صوت الضمير والوجدان خلهم يستعينون بالدعم الخارجي، يحبون أن يروا أكبر قدر من الناس معهم، حتى يواجهوا فطرتهم، وهي حالة عامة عند الناس.
ضغوط التوجهات الفكرية
غالباً ما يقوم أصحاب التوجهات الفكرية بالضغط على من يتراجع عن أفكارهم، حيث يشنون عليه حملات إعلامية، ويشيعون عليه اتهامات باطلة، وهو أسلوب شائع في مختلف الأوساط.
يستغرب الإنسان حينما يقرأ عن أوساط علمية أكاديمية، وجهات تصف نفسها بحرية الرأي، وتطالب بحرية اعتناق الأفكار، لكن هذه الجهات ذاتها تقوم بممارسة الضغوط المختلفة على من يغادرها فكرياً!
تجربة العالم (انتوني فلو)
أحد العلماء البريطانيين وهو العالم الفيلسوف (انتوني رتشارد فلو)، ولد سنة 1923م، كان من أشهر دعاة الإلحاد، وكان الملحدون في مختلف أنحاء العالم يستندون إلى آرائه ونظرياته، ينتمي إلى تيار الفلسفة التحليلية، اشتهر بكتاباته في فلسفة الأديان، واشتهر عنه مقولته: (إن على الإنسان أن يظل ملحدا حتى يجد الدليل التجريبي على وجود الإله).
تجربته في الإلحاد استمرت أكثر من خمسين سنة، ألَف خلالها ثلاثين كتاباً في الإلحاد، ودحض فكرة الدين، لكنه في أواخر حياته غيّر قناعاته، ففي عام 2004م وخلال مناظرة فلسفية أعلن عن تحوله إلى التوحيد وتخليه عن الإلحاد، وقام بتأليف كتاب بعنوان (هناك إله) نسخ فيه كل كتبه السابقة. وقد ترجم هذا الكتاب إلى اللغة العربية.
حينما أعلن تحوله إلى الإيمان بعد ستة عقود من الإلحاد تعرض لحملة من الإشاعات والاتهامات والتسقيط، من أولئك الذين كانوا يعتمدون على آرائه ويشيدون بأفكاره، رغم أنهم يعلنون إيمانهم بمبادئ الحرية!
لكن الحقيقة أنهم يرفعون ذلك شعارا لتشجيع الناس على تغيير آرائهم، حتى إذا ما تمردَّ شخص من أوساطهم وتحول عن آرائه السابقة إلى التوحيد عندها يشيعون ضده الاتهامات، وأنه تعرض للإغراءات، أو أنه كبر في السن وأصبح يخاف من الموت، أو بدأ يفقد قواه العقلية!!
وهذا ما تعرض له الفيلسوف البريطاني (انتوني فلو).