الثابت والمتغيِّر في الأحكام الشرعيّة
مقدّمة
لا تترك الأمة فرصة تتمكّن فيها من التعبير عن ذاتها إلاّ وتؤكّد فيها تمسّكها بهويتها الدينية، والتزامها قيمها ومبادئها. لكنّ ما تعانيه الأمّة هو تحدّي الملاءمة والتكيّف بين انتمائها الديني ومتغيرات العصر الذي تعيشه، ذلك أنّ التشريعات الدينية انبثقت في عصر سابق، تجاوزت البشرية الآن ظروفه وأوضاعه إلى مدىً بعيد، وأصبحت تعيش ظروفاً وأوضاعاً مختلفة تماماً عن تلك العصور السابقة. والأمّة جزءٌ من العالم لا تستطيع أن تنفصل في حياتها عنه، ولا أن تنعزل عن تأثيراته وتفاعلاته.
ليست هناك مشكلة كبيرة على مستوى المعتقدات والقِيَم الأساس في الدين، فأصول العقيدة تنسجم مع الفطرة الإنسانية والعقل السويّ، ويتّسع عالم اليوم لتعايش مختلف المعتقدات والأفكار. وكذلك فإنّ القِيَم الرئيسة في الدين أصبحت قِيَماً عالمية، يتبنّاها الإنسان في كلِّ مكان، وتحتضنها مواثيق حقوق الإنسان والمعاهدات الدولية.
لكنّ المشكلة تكمن في جانب تفاصيل التشريعات التي تطال حركة المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فالنصوص الدينية الصادرة حولها جاءت في بيئة وظرف يختلف تماماً عن البيئة والظروف المعاصرة.
والقواعد التي وضعها الفقهاء السابقون لفهم هذه النصوص، وما نتج عنها من استنباطات، يُعبِّر عن مستوى العلم والمعرفة في عصورهم، وعن تفاعلهم مع البيئة التي كانوا يعيشون ضمنها. ومن الواضح أنّ الالتزام ببعض تلك الأحكام والتشريعات يسبّب عُسْراً وحَرَجاً لمجتمعات الأمة في العصر الحاضر، يقعد بها عن مواكبة التطوُّرات، وتقدُّم التنمية، وتلبية متطلّبات الحياة الكريمة.
نظريّاً يعتقد المسلمون بصلاحية تشريعهم الديني لكلّ العصور، وبقدرته على استيعاب المتغيّرات، ويؤمنون بمشروعية الاجتهاد في كلّ عصر؛ لاكتشاف الأحكام الدينية للمستجدّات والنوازل، من خلال فهم النصّ الديني، وتطبيق القواعد والكلّيات على المصاديق والقضايا الخارجية.
هذا على الصعيد النظري. أمّا من الناحية العملية والتطبيقية فإنّ هناك تلكّؤاً وتعثُّراً وبطئاً في ممارسة العمل الاجتهادي الذي يعالج المشكلات التي تعاني منها الأمة.
ومعظم الجهود والبحوث الاجتهادية لدى الفقهاء المعاصرين تدور في فلك المسائل التي بحثها الفقهاء السابقون، وتنتهي في الغالب إلى ذات النتائج التي انتهوا إليها، إلاّ ما قلّ وندر، وكأنّ العملية الاجتهادية اليوم مجرّد ترجيح رأي على رأي، وقول على قول، ممّا رآه وقاله السابقون.
وصدور أيّ اجتهادٍ جديد من الفقهاء حول موضوعات الاحتكاك والتماسّ مع متغيّرات العصر يمرّ بحالة مخاضٍ صعب، ويحتاج إلى عملية قيصرية، وكأنّه يُنتزع انتزاعاً من المؤسّسة الدينية، حين يفرضه عليها الواقع فَرْضاً، بعد أن تعجز عن مقاومته. والكلام هنا عن الجوّ العام والحالة السائدة، مع الإقرار بوجود مبادرات فرديّة استثنائية.
إنّ تجديد النظر من قِبَل الفقهاء في الأحكام والتشريعات الدينية يأخذ مسالك متعدّدة:
الأوّل: إعادة قراءة الدليل على الحكم، التي قد توصل الفقيه إلى قناعة جديدة برأي جديد؛ لعدم كفاية الدليل على الحكم الذي كان يراه، كما لو اكتشف إشكالاً في سند النّص، أو وجد احتمالاً آخر في فهم المتن، أو ترجَّح لديه دليلٌ آخر.
ومثاله: الرأي الذي استجدّ للسيد محسن الحكيم وفقهاء آخرين بطهارة أهل الكتاب، بعد القول بنجاستهم، ولو على سبيل الاحتياط الوجوبي ـ كما عند البعض ـ. ومنشأ التغيير إعادة قراءة الأدلة التي ابتنى عليها القول بالنجاسة، كدليل الإجماع، الذي تبيَّن أنه ليس تامّ الانعقاد، مع وجود المخالف القائل بالطهارة، قديماً وحديثاً؛ وكدلالة الآية الكريمة: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا﴾ (التوبة: 28)؛ لعدم ثبوت دلالة الآية على نجاسة المشركين نجاسةً عينية، بل هي نجاسةٌ معنوية؛ ولأن الروايات الدالّة على نجاسة أهل الكتاب تعارضها روايات تدلّ على الطهارة، ولا يصحّ ترجيح روايات النجاسة على روايات الطهارة؛ لإمكانية الجمع العرفي هنا بحمل روايات النجاسة على الكراهة، وخاصّة أن أخبار الطهارة نصٌّ في الدلالة عليها، بينما أخبار النجاسة ظاهرةٌ في الدلالة عليها، والظاهر لا يعارض النّص، وإنّما يحمل عليه.
الثاني: تلافي حالة الضَّرَر والحَرَج التي تحصل بتطبيق ذلك الحكم. فحين يجد الفقيه ـ مثلاً ـ أن تطبيق حكم الرجم على الزاني المحصن، أو قطع يد السارق، يسبِّب حَرَجاً أمام الرأي العام فإنه يوقف تطبيق ذلك الحكم، أو يفتي بعدم وجوبه آنذاك، ليس لتغيير في القول به عند الفقيه، وإنّما لأن الظروف الخارجية لا تسمح بتطبيقه. وهنا يكون الحكم الجديد، وهو تجميد الحكم الثابت في الأصل، ضمن عنوان الحكم الثانوي الاضطراري.
الثالث: الانطلاق من دراسة الظرف الخارجي المعاصر، وأنه ما عاد مناسباً لتطبيق ذلك الحكم الشرعي؛ بسبب تطوُّرات الحياة الاجتماعية، فيبعثنا ذلك على قراءة الظروف التي أحاطت بصدور ذلك الحكم الشرعي؛ لتلمُّس مناط وملاك تشريعه. وحين يطمئنّ الفقيه إلى تحديد ذلك الملاك والمناط، من خلال نصٍّ شرعيّ خاصّ، أو إدراكٍ ناشئٍ من تأمُّلٍ ودراسة موضوعية، وأنّ ذلك المناط الذي توخّاه الشارع في تشريعه لذلك الحكم لم يعُدْ قائماً حاليّاً، أو أنّ تطبيق الحكم في الحاضر يؤدّي إلى عكس مراد الشارع، يفتي الفقيه بما يغاير ذلك الحكم الشرعي.
وهناك مسالك أُخَرَ على هذا الصعيد. لكنّ ما نريد تركيز الحديث حوله، بعرض بعض المفاهيم والنماذج، هو هذا المسلك الثالث. ولا بُدَّ من الإشارة هنا إلى أننا لا ندعو لتبنّي كلّ رأي جديد، وفي نفس الوقت لا نوافق على رفضه؛ لمجرّد أنه جديد يخالف السائد والموروث. فالاجتهادات الجديدة يجب أن تخضع للدراسة والبحث، ولا يصحّ إيصاد الأبواب أمامها. وهذا ما يستهدفه هذا البحث المتواضع؛ دعماً لتوجّهات التجديد، ومساهمةً في تهيئة المناخ الاجتماعي لتقبُّلها والتفاعل الإيجابي معها.
تغيير الأحكام في آيات القرآن
لا نصَّ أقدس من النصّ القرآني، ولا تشريع آكد وألزم من التشريعات التي تحملها آياته. فكلُّ آيةٍ من آيات القرآن الكريم تأتي كلماتها وحروفها باختيارٍ إلهيّ دقيق، وكلّ معنى يتضمّنه النصّ القرآني فهو حقٌّ لا ريب فيه، إنه ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ﴾ (هود: 1)، ﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ (فصّلت: 41 ـ 42).
هذا القرآن العظيم في ملامسته للجانب التشريعي يأخذ واقع حياة الإنسان بعين الاعتبار، وهو واقعٌ متغيِّر متطوّر، لا بُدَّ أن تقابله مرونة تشريعية تسمح باستبدال بعض التشريعات بأخرى تستجيب للظروف والحاجات المستجدة.
ولا نتحدّث هنا عن القِيَم والقواعد العامّة التي وضعها القرآن لاستيعاب كلّ المتغيّرات المستقبلية في حياة البشر، باعتباره الشريعة الخاتمة للشرائع الإلهية.
إنّما نتحدّث عن جانب حدوث التغيير في بعض التشريعات التفصيلية التي جاءت في القرآن الكريم، حيث تأتي آيةٌ كريمة بحكمٍ تشريعيّ، ثمّ تأتي بعد مدّة من الزمن آيةٌ جديدة تلغي ذلك الحكم السابق، وتضع بَدَلاً عنه حكماً جديداً.
وقد ناقش علماء المسلمين هذا الموضوع تحت عنوان «النَّسْخ في القرآن». وهو من المباحث التي تناولوها في علوم القرآن، وأفرد له عددٌ من العلماء كتباً ومؤلَّفاتٍ خاصة باسم (الناسخ والمنسوخ في القرآن). كما تناوله جميع المفسِّرين عند تفسيرهم للآية الكريمة: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (البقرة: 106). وفي علم الأصول خصَّصوا مبحثاً لموضوع النسخ في القرآن؛ لبحث ضوابطه وشروطه.
وقد اتفق علماء الأمّة على إمكان وقوع النسخ في القرآن، وعرَّفوه بأنه «رفع تشريعٍ سابق كان يقتضي الدوام ـ حَسْب ظاهره ـ بتشريعٍ لاحق»[1] ، وبتعبير آخر: «بيان انتهاء أمد الحكم الثابت سابقاً»[2] .
وقسموا النسخ في القرآن إلى ثلاثة أصناف، اتفقوا على وقوع واحدٍ منها، واختلفوا في الآخرَيْن.
الأوّل: نسخ الحكم والتلاوة، بأن تكون في القرآن آية تتضمّن حكماً شرعيّاً، ثم ينزل الله تعالى آية أخرى تنسخ حكم الآية السابقة، وتلغيها من آيات القرآن الكريم، فلا تعود آيةً تُتلى وتُقرأ من قبل المسلمين.
وقد قال بوقوع هذا النسخ في القرآن بعض علماء أهل السنّة. واستندوا إلى بعض الأحاديث في صحاحهم، كالحديث المرويّ في صحيح مسلم: «عن عائشة قالت: كان في ما أنزل من القرآن: عشر رضعات معلومات يحرِّمْنَ، ثمّ نسخن: بخمسٍ معلومات، فتوفي رسول الله وهُنَّ في ما يُقرأ من القرآن»[3] .
ويرفض الشيعة القول بهذا الصنف من النسخ. وقد رفضه أعلام من أهل السنّة أيضاً؛ لأنّ تلك الروايات روايات آحاد لا تقبل في مثل هذا الموضوع؛ ولأنه يؤدي إلى القول بالتحريف في القرآن الكريم.
الثاني: نسخ التلاوة دون الحكم، بأن تُسقط آيةٌ من القرآن الكريم، كانت تُقرأ، وكانت ذات حكم تشريعيّ، فيلغى وجودها من القرآن، فلا تُتلى، لكن الحكم التشريعي الذي تضمّنته يبقى ساري المفعول.
ويقول بوقوع هذا الصنف من النسخ في القرآن أكثر علماء أهل السنّة، مستندين إلى روايات صحّت عندهم، كالمرويّ في صحيح مسلم: عن عمر بن الخطاب قال: «إن الله قد بعث محمداً‘ بالحقّ، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل عليه آية الرجم، قرأناها ووعيناها وعقلناها…». قال النووي في شرحه على صحيح مسلم: «أراد بآية الرجم: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتّة. وهذا مما نسخ لفظه، وبقي حكمه»[4] .
لكنّ الشيعة يرفضون القول بهذا الصنف من النسخ أيضاً؛ للسببين السابقين. ويرفضه بعض علماء السنّة.
الثالث: نسخ الحكم دون التلاوة، بأن تبقى الآية ثابتة في القرآن، يتلوها المسلمون عبر العصور، إلاّ أنّ ما تضمنته من حكم تشريعيّ يكون منسوخاً بآيةٍ أخرى، نزلت بعد وقتٍ من نزول الآية الأولى.
والنسخ بهذا المعنى مورد اتّفاقٍ بين المسلمين، حيث أجمعوا على إمكان إلغاء حكم في آيةٍ قرآنية، واستبداله بحكم آخر، وأنّ ذلك قد حصل بالفعل، لكنهم اختلفوا في موارد ومساحة وقوعه، حيث جمع أبو بكر النحّاس، في كتابه «الناسخ والمنسوخ»، موارد النسخ في القرآن فبلغت «138» آية. واختار السيوطي، في الإتقان، أنّ النسخ وقع في 20 آية في القرآن الكريم[5] . ونقل عن أبي مسلم الإصفهاني إنكار النسخ في القرآن[6] .
كما ناقش السيد الخوئي الموارد المدّعاة لوقوع النسخ في الآيات، ولم يثبت لديه مورد منها، مع إثباته لإمكان النسخ وجوازه.
ومن الناحية الكلامية والاعتقادية أثبت العلماء أنّ النسخ لا يعني الخطأ في تشريع الحكم المنسوخ؛ فذلك يستحيل على الله سبحانه العالم الحكيم، حيث لا يصدر منه تشريعٌ عن جهل أو عبث، وإنما يعني النسخ أن الله تعالى قد يُشرِّع حكماً مقيَّداً بزمانٍ خاصّ معلوم عند الله، مجهول عند الناس؛ لمصلحة وقتيّة، فإذا ما انتهى ذلك الزمن المحدَّد سلفاً في علمه تعالى أبلغ عباده بانتهاء أمد ذلك الحكم، وشرع لهم الحكم البديل؛ لحماية مصالحهم في الظرف الجديد. «وتبدُّل الأحكام بتبدُّل المصالح والمفاسد ممّا يشهد بصحته الوجدان والبرهان»[7] .
لكن الكلام في تحديد الجهة التي يصدر منها التغيير والنسخ لحكم تشريعي قرآني، حيث لا إشكال في أن يأتي النسخ ضمن النصّ القرآني، بأن تنسخ آيةٌ حكم آيةٍ أخرى، وهو ما أشار إليه قوله تعالى: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا﴾.
لكنْ هل يمكن لرسول الله‘ أن ينسخ حكماً تشريعيّاً قرآنيّاً، ويأمر بحكمٍ بديل عنه؟
أجاز العلماء ذلك؛ لأنه‘ متّصل بالوحي، ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى﴾ (النجم: 3 ـ 4)؛ وقد أمر الله بطاعته، حيث يقول تعالى: ﴿مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ (الحشر: 7)، لكلِّ ذلك فإنّ الأمة تقبل من نبيّها أن يوقف ويُغيِّر تشريعاً ورد في القرآن الكريم.
لكنّ الشافعي لم يُجِزْ نسخ القرآن بالسنّة؛ لقوله تعالى: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا﴾ فإنّ فعل ﴿نَأْتِ﴾ يدلّ على أن الآتي بالخير أو المثل هو الله تعالى، وذلك لا يكون إلاّ إذا كان الناسخ هو القرآن. ولكنّ السنّة يستدلّ بها على ناسخ القرآن ومنسوخه، فهي التي تُبيِّن نسخ القرآن للقرآن[8] .
واشترط معظم الفقهاء التواتر في نسخ السنّة للقرآن، حتّى نقطع بصدوره عنه‘، أما إذا كان مرويّاً عن طريق آحاد فإنّ أخبار الآحاد لا تنسخ تشريعاً قرآنيّاً.
ولسنا بصدد البحث حول موضوع النسخ في القرآن، ففيه أبعاد وجوانب تكفّلت بها البحوث المختصّة، لكنّنا نعرض بعض الشواهد والنماذج لآيات تشير إلى تغيير حكم شرعيّ كان مجعولاً من قبل الشارع، ثمّ اقتضت إرادة الشارع إبداله بحكمٍ آخر، وذلك كتمهيد وخلفيّة لما نريد تناوله من إمكانية التغيير في بعض الأحكام الشرعية، ضمن الإطار الشرعي والضوابط العلميّة المعتمدة.
1ـ آية النجوى
كان بعض المسلمين يكثرون السؤال عن مسائل غير ذات شأن، شاغلين وقت رسول الله‘ من غير طائل، وربما كان بعض ذوي الثراء يكثرون من مناجاة النبيّ‘، يظهرون بذلك نوعاً من التقرُّب إليه والاختصاص به، على ما احتمله السيد الطباطبائي في الميزان، فأنزل الله تعالى آيةً تفرض على المتمكِّنين تقديم صدقة قدرها درهم عند كلِّ مناجاةٍ وسؤال، أمّا الفقراء غير الواجدين للمال فلا يشملهم هذا الحكم، وهي قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (المجادلة: 12).
ونتيجة لهذا التشريع امتنع الأصحاب عن طرح تساؤلاتهم على النبيّ‘ كما كانوا في الماضي، والشخص الوحيد الذي استمرّ في مناجاته للرسول‘ وطرح أسئلته عليه، ملتزماً بدفع الصدقة قبل كلّ سؤال، هو عليّ بن أبي طالب، كما أشارت لذلك الروايات. وبعد أيّام ـ كما في بعض الروايات ـ نزلت آيةٌ أخرى تنسخ حكم هذه الآية، وترفع أمر الصدقة قبل مناجاة الرسول‘، وهي قوله تعالى: ﴿أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ (المجادلة: 13).
ولعلَّ الهدف من ذلك نوعٌ من التربية والتوجيه كان يحتاجه المجتمع الإسلامي الناشئ آنذاك.
2ـ آية عدد المقاتلين
في بداية المواجهة القتالية بين المسلمين ومحاربيهم الكافرين كان عدد المسلمين محدوداً في مقابل الكثرة العددية للكفّار، فجاء التشريع ليضع معادلة تُحدِّد للمسلمين نسبة المكافأة العددية بينهم وبين العدوّ، بحيث لا يجب عليهم القتال إذا كان عددهم أقلّ من تلك النسبة، وهي نسبة الواحد إلى عشرة، اعتماداً على قوة الإيمان والعزيمة، وروح التضحية العالية، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ﴾ (الأنفال: 65).
ومع تعدّد المعارك، وما تحمَّله المجاهدون من أعباء الحروب، اقتضى الأمر صدور تشريع جديد لتعديل نسبة المكافأة في العدد، وخاصّة مع زيادة عدد المسلمين، فنزلت آيةٌ جديدة بتشريع جديد، كانت فيه نسبة القتال هي واحد في مقابل اثنين، يقول تعالى: ﴿الآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ (الأنفال: 66).
قال ابن عاشور: هذه الآية نزلت بعد الآية التي قبلها بمدّةٍ، قال في الكشاف: «وذلك بعد مدّةٍ طويلة»[9] .
3ـ آية الإمتاع
ماذا تستحقّ المرأة من مال زوجها بعد وفاته؟ وهل عليها فترة عدّة وحداد؟
كان التشريع الإسلامي قد أقرّ ما كان متعارفاً عند العرب قبل الإسلام، أي إنّ الرجل إذا مات لم يكن لامرأته من ميراثه شيءٌ إلاّ النفقة حَوْلاً كاملاً، شريطة أنْ تعتدّ في بيت الزوج المتوفّى، فإنْ خرجت قبل الحَوْل سقطت نفقتها. وهذا ما قرَّرته الآية الكريمة: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (البقرة: 240). واتّفق المفسّرون والفقهاء قولاً واحداً على نسخ هذه الآية بآيتين:
الأولى: التي حدَّدت عدة الوفاة بأربعة أشهر وعشرة أيّام، وهي قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً﴾ (البقرة: 234).
والثانية: التي جعلت للزوجة نصيباً من تركة زوجها، وهي قوله تعالى: ﴿وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ﴾ (النساء: 12). وعليه فإنّ المرأة تنفق على نفسها من نصيبها[10] .
وفي الحديث عن أمير المؤمنين×، وعن الإمامين الصادقين’، في روايات متضافرة: «هي منسوخة، نسختها آية ﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً﴾، ونسختها آية المواريث».
وربما يبلغ مجموع روايات السنّة والشيعة بهذا الصدد مبلغ التواتر.
والعمدة إجماع علماء الأمّة، واتفاق كلمة المفسِّرين، لم يشذّ منهم أحدٌ. وأقوى دليل على تحقُّق هذا الإجماع أنّ أحداً من فقهاء الأمّة، سلفاً وخلفاً، لم يأخذ بمفاد الآية الأولى، ولم يُفْتِ بمضمونها، لا فرضاً ولا نَدْباً، الأمر الذي يدلّ دلالةً واضحة على اتّفاقهم أن الآية منسوخة كلمة واحدة[11] .
4ـ تغيير القبلة
من المعلوم في تاريخ الدعوة الإسلامية أنّ النبي‘ والمسلمين كانوا يصلّون إلى جهة بيت المقدس. واستمر هذا الحال طوال العهد المكّي ثلاثة عشر عاماً، من البعثة إلى الهجرة. كما استمرّ استقبال بيت المقدس في الصلاة بعد الهجرة إلى المدينة المنورة لمدّة سبعة عشر شهراً، كما رجَّح بعض المحقِّقين[12] . وقيل: أقلّ من ذلك.
ثمّ أمر الله تعالى نبيه‘ بالتحوُّل إلى استقبال جهة المسجد الحرام في الصلاة. وقد أثار تغيير القبلة من بيت المقدس في الشام إلى المسجد الحرام بمكّة تساؤلات وإشكالات، طرحها اليهود؛ ليربكوا بها أوساط المسلمين، فردَّ عليهم القرآن بقوله تعالى: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ للهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (البقرة: 142)، إلى قوله تعالى: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ (البقرة: 144).
فالآية الكريمة نسخٌ لتشريعٍ سابق، وهو استقبال بيت المقدس في الصلاة، وإنْ لم يكن التشريع السابق منصوصاً ضمن آيةٍ، لكنّه أمرٌ إلهيّ بكلِّ تأكيدٍ. وقوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ (البقرة: 143) تأكيدٌ على أنّ استقبال بيت المقدس كان بجعلٍ إلهي: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا﴾، حيث أبانَتْ الهدف من هذا التشريع (استقبال بيت المقدس)، وأنه امتحان المسلمين من قريش والعرب باستقبال غير الكعبة، التي كانت رمز فخرهم واعتزازهم والمكان المقدَّس لديهم.
5ـ عقوبة الفاحشة
في بداية التشريع الإسلامي كانت عقوبة المرأة إذا ارتكبت فاحشة الزنا، وثبت عليها الجرم بشهادة أربعة شهود، فعقوبتها السجن مؤبَّداً حتّى الموت، كما يقول تعالى: ﴿وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً﴾ (النساء: 15).
كما كانت عقوبة مَنْ يمارس فاحشة الشذوذ الجنسي (اللواط) من الرجال الإيذاء، ومنه التأنيب والتوبيخ والضرب والسجن، يقول تعالى: ﴿وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ تَوَّاباً رَحِيماً﴾ (النساء: 16).
ويرى بعض المفسِّرين أن الآية الأولى تختصّ بعقوبة المرأة المحصنة (المتزوِّجة) إذا زنَتْ، والآية الثانية تبين عقوبة الزنى للرجل والمرأة غير المتزوِّجين.
ثمّ نسخت الآيتان بما جاء من أحكام عقوبة الزنى في سورة النور، والأحاديث الواردة في عقوبة اللواط والزنى، التي يطلق عليها الحدود.
جاء في التمهيد: «قال الإمام الصادق×: هي منسوخة. والسبيل هي الحدود ـ الجَلْد والرَّجْم. والأحاديث بهذا المضمون متضافرةٌ، متَّفق عليها عند المفسِّرين، وهذا مما لا شَكَّ فيه، ولا سيَّما بعد ملاحظة أنّ التشريع الإسلامي القائم بشأن الزناة هو الجَلْد أو الرَّجْم، بإجماع من الفقهاء، قديماً وحديثاً. أمّا ما ذكرته الآية الكريمة ـ من السجن المؤبَّد ومطلق الإيذاء ـ فلم يُفْتِ به أحدٌ من الفقهاء إطلاقاً، وهو دليل إجماعهم على النسخ»[13] .
التشريعات النبوية: ثابتٌ؛ ومتغيِّرٌ
حين يصدر أمرٌ أو نهيٌ عن رسول الله‘، عبر قولٍ أو فعل، فإنه يعتبر تشريعاً دينيّاً؛ لوجوب إطاعته على الأمة في ما يأمر وينهى. وكذلك الحال بالنسبة إلى أئمة أهل البيت^ في المعتقد الشيعيّ، الذي يراهم امتداداً لدور النبيّ‘ في تبيين الأحكام الشرعية.
لكنّ السؤال الذي يفرض نفسه أمام تلك النصوص الدينية التشريعية، بعد الفراغ من مناقشة سندها ودلالتها، هل أنّ مفادها التشريعي يحمل صفة الثبات والدوام بما يتجاوز الزمان والمكان في كلّ تلك النصوص الواردة أم أنّ لتغيُّر الأزمنة والظروف الاجتماعية تأثيراً على سريان مفعول تلك الأحكام الشرعية؟
لا شَكَّ أن الأصل في كلّ حكم شرعيّ هو الثبات والاستمرار، فقد ورد في الكافي ـ بسندٍ صحيح ـ عن الإمام جعفر الصادق× أنه قال: «حلال محمد حلالٌ أبداً إلى يوم القيامة، وحرامه حرامٌ أبداً إلى يوم القيامة»[14] .
لكنّ الوجدان والواقع يحكم بأن الشرع قد يضع أحكاماً لغاياتٍ ومقاصد محدَّدة بزمنٍ وظرف معيَّن. وحين تنتفي تلك المقاصد والغايات؛ بتغيُّر الظرف والزمان، فإنه ينتهي ويتوقَّف مفعول تلك الأحكام بأمر الشارع نفسه.
وقد تحدّث القرآن الكريم عن التغيير والتطوير في الشرائع الإلهية التي أنزلها الله تعالى على أنبيائه، حيث تنسخ الشريعة الجديدة أحكام الشرائع السابقة؛ مواكبة لتطور حياة البشر، حتّى جاءت الشريعة الخاتمة على يد النبيّ محمد‘ خاتم النبيّين.
لكنّ ختم الشرائع بشريعة الإسلام لا يعني توقُّف التطوُّر والتغيُّر في حياة البشر، بل يعني قابلية شريعة الإسلام لاستيعاب المتغيِّرات، وملاحقة التطوُّر. وهذا هو التحدّي الكبير الذي يواجهه المسلمون في فهمهم لدينهم، واكتشافهم لمنهجية معرفة أحكامه، التي تواكب مستجدّات الزمن، وتطوُّر الحياة.
إنّ تأثير خصوصيات الزمان في مناطات الأحكام الشرعية حقيقة يجب استحضارها عند ممارسة الاجتهاد واستنباط الأحكام في كلّ عصرٍ ومجتمع، فهي مبرّر أساس لضرورة وجود الفقهاء المجتهدين في كلّ زمنٍ وجيل.
وهي الحقيقة التي استدعت التغيير في شرائع الأنبياء، واستدعت وجود النسخ في القرآن الكريم. وقد أشار السيد الخوئي إلى هذه الحقيقة بقوله: «والنسخ بهذا المعنى ـ أي نسخ الحكم ـ ممكنٌ قطعاً؛ بداهة أن دخل خصوصيات الزمان في مناطات الأحكام ممّا لا يشكّ فيه عاقلٌ، وإذا تصوّرنا وقوع مثل هذا في الشرائع فلنتصوّر أن تكون للزمان خصوصية من جهة استمرار الحكم وعدم استمراره، فيكون الفعل ذا مصلحة في مدّة معينة، ثمّ لا تترتّب عليه تلك المصلحة بعد انتهاء تلك المدّة، وقد يكون الأمر بالعكس»[15] .
النبيّ يرفع بعض أحكامه
يتّضح من السيرة النبوية الشريفة، ومن عدد من الأحاديث الواردة عن النبيّ‘، أنّ هناك تشريعات أصدرها النبيّ‘ وعمل بها المسلمون، لكنّه بعد مدّة من الزمن أعلن رفع تلك التشريعات، مبيِّناً أنه أمر بها لمصلحة تقتضيها في وقتها، أما وقد تغيَّر الظرف وزالت تلك المصلحة فإنه‘ يلغي ذلك التشريع.
ومن تلك الأحاديث: ما ورد عن سلمة بن الأكوع قال: «قال النبيّ‘: مَنْ ضحّى منكم فلا يصبحنَّ بعد ثالثةٍ وبقي في بيته منه شيءٌ. فلما كان العام المقبل قالوا: يا رسول الله، نفعل كما فعلنا العام الماضي؟ قال: كلوا، وأطعموا، وادَّخروا؛ فإنّ ذلك العام كان بالناس جهدٌ فأردْتُ أن تعينوا فيها»[16] .
وفي روايةٍ أخرى عنه‘ أنه قال: «إني كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث؛ كيما تسعكم، لقد جاء الله بالخير، فكلوا، وتصدَّقوا، وادَّخروا»[17] .
وأورد بن حجر، في فتح الباري، عن أبي سعيد: «كان رسول الله‘ قد نهانا أن نأكل لحوم نسكنا فوق ثلاث، قال: فخرجتُ في سفرٍ ثمّ قدمت على أهلي ـ وذلك بعد الأضحى بأيّامٍ ـ، فأتتني صاحبتي بسلقٍ قد جعلت فيه قديداً، فقالت: هذا من ضحايانا، فقلتُ لها: أَوَلم ينهنا؟ فقالت: إنه رخَّص للناس بعد ذلك، فلم أصدِّقها حتى بعثت إلى أخي قتادة بن النعمان ـ فذكره، وفيه: ـ قد أرخص رسول الله للمسلمين في ذلك».
وفيه أيضاً: إنّ النبي‘ قام في حجّة الوداع فقال: «إني كنت أمرتكم أن لا تأكلوا الأضاحي فوق ثلاثة أيّام؛ لتسعكم، وإني أحلّه لكم، فكلوا منه ما شئتم»[18] .
فهناك أمرٌ صادر من رسول الله‘ بعدم ادّخار شيءٍ من الأضاحي لما بعد ثلاثة أيّام، ثمّ تبعه في السنة الأخرى إلغاءُ هذا الأمر؛ لأنّ مبرّره، وهو وجود الضائقة عند الناس لقلّة اللحوم، قد زال.
وجاء في وسائل الشيعة، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر ـ الإمام الباقر× ـ، قال: «كان النبيّ نهى أن تحبس لحوم الأضاحي فوق ثلاثة أيّام؛ من أجل حاجة الناس، فأمّا اليوم فلا بأس به»[19] .
ومثله ما ورد عنه‘ أنه قال: «كنتُ نهيتكم عن القران في التمر، وإنّ الله وسَّع عليكم فاقرنوا»[20] ، حيث عنون البخاري في صحيحه باباً بعنوان (القران في التمر)، وهو ضمّ تمرةٍ إلى تمرة لمَنْ أكل مع جماعةٍ، فقد نهى النبيّ‘ عن ذلك وقت الضيق الاقتصادي عند المسلمين، فلما وسّع الله عليهم رفع النبيّ‘ عنهم ذلك النهي.
وبوسع الباحث أن يجد شواهد أخرى على هذا الصعيد، حيث يحمل عدداً من الأحاديث النبويّة عبارة «كنتُ نهيتُكم» أو «كنتُ أمرتُكم»، وما يشبهها من الألفاظ الدالّة على رفع نهيٍ أو أمر.
أحكام تشريع؛ وأحكام تدبير
ميّز الشهيد السيد محمد باقر الصدر بين نوعين من الأحكام الصادرة عن رسول الله‘:
الأوّل: الأحكام الإلهية التي بيَّنها للأمة كمبلِّغ عن الله تعالى. وهذه أحكام ثابتة.
الثاني: الأحكام الإدارية التدبيرية التي تصدر عنه‘ كقائدٍ وحاكم للمجتمع. وهذه بطبيعتها قد تستدعي التغيير والتبديل، تَبَعاً للمصالح والأوضاع الاجتماعية.
قال في كتابه «اقتصادنا»: «جاء في الرواية أنّ النبيّ‘ قضى بين أهل المدينة في النخل: لا يمنع نفعُ بئرٍ. وقضى بين أهل البادية أنه لا يمنع فضلُ ماءٍ، ولا يُباع فضل كلأ.
وهذا النهي من النبيّ عن منع فضل الماء والكلأ يمكن أن يكون تعبيراً عن حكم شرعي عام ثابت في كلّ زمان ومكان، كالنهي عن الميسر والخمر؛ كما يمكن أيضاً أن يُعبِّر عن إجراءٍ معيّن، اتّخذه النبيّ بوصفه وليّ الأمر المسؤول عن رعاية مصالح المسلمين في حدود ولايته وصلاحياته، فلا يكون حكماً شرعيّاً عامّاً، بل يرتبط بظروفه ومصالحه التي يقدِّرها ولي الأمر. وموضوعية البحث في هذا النصّ النبوي تفرض على الباحث استيعاب كلا هذين التقديرين، وتعيين أحدهما على ضوء صيغة النصّ، وما يناظره من نصوص.
وأما أولئك الذين يتّخذون موقفاً نفسيّاً تجاه النصّ بصورةٍ مسبقة فهم يفترضون منذ البدء أن يجدوا في كلّ نصٍّ حكماً شرعيّاً عامّاً، وينظرون دائماً إلى النبيّ من خلال النصوص بوصفه أداة لتبليغ الأحكام العامة، ويهملون دوره الإيجابي بوصفه وليّ الأمر. فيفسِّرون النصّ آنف الذكر على أساس أنه حكمٌ شرعيّ عام.
وهذا الموقف الخاص في تفسير النصّ لم ينبع من النصّ نفسه، وإنما نتج من اعتياد ذهنيّ على صورة خاصة عن النبيّ، وطريقة تفكير معيّنة فيه، درج عليها الممارس، واعتاد خلالها أن ينظر إليه دائماً باعتباره مبلِّغاً، وانطمست أمام عينيه شخصيته الأخرى بوصفه حاكماً، وانطمست بالتالي ما تُعبِّر به هذه الشخصية عن نفسها في النصوص المختلفة»[21] .
وذكر في أواخر مباحث «اقتصادنا» شواهد ونماذج لتأكيد هذه الفكرة، كالحديث الوارد عن الإمام الصادق× أنه قال: «قضى رسول الله بين أهل المدينة في مشارب النخل أنه لا يمنع فضل ماءٍ وكلاء»، حيث يرى السيد الصدر أنّ هذا النهي لا يشكّل حكماً شرعيّاً ثابتاً، بل هو نهيٌ صدر عن النبي‘ بوصفه وليّاً للأمر؛ استجابة لمقتضيات الظروف، حيث كان مجتمع المدينة بحاجةٍ إلى إنماء الثروة الزراعية والحيوانية، فألزمت الدولة الأفراد ببذل ما يفضل من مائهم وكلأهم للآخرين؛ تشجيعاً للثروات الزراعية والحيوانية.
وكذلك ما ورد عن النبيّ‘ من النهي عن بيع الثمرة قبل نضجها، فإنّ هذا النهي لا يشكّل حكماً شرعيّاً ثابتاً، وإنما هو إجراء اقتضته مصلحة اجتماعية ظرفية، تشير إليها رواية عن الإمام الصادق× أنه سئل عن الرجل يشتري الثمرة المسمّاة من أرضٍ، فتهلك ثمرة تلك الأرض كلّها؟ فقال: «قد اختصموا في ذلك إلى رسول الله‘، فكانوا يذكرون ذلك، فلما رآهم لا يدعون الخصومة نهاهم عن ذلك البيع حتّى تبلغ الثمرة، ولم يحرِّمه، ولكنّه فعل ذلك من أجل خصومتهم».
وبنفس التوجيه يفسِّر السيد الصدر ما ورد عن رافع بن خديج أنه قال: «نهانا رسول الله‘ عن أمرٍ كان لنا نافعاً، إذا كانت لأحدنا أرضٌ أن يعطيها ببعض خراجها أو بدراهم، وقال: إذا كانت لأحدكم أرضٌ فليمنحها أخاه، أو ليزرعها». فهذا النهي من النبي‘ عن إيجار الأرض، والأمر بمنحها مجّاناً، ليس حكماً شرعيّاً عامّاً، وإنما هو أمرٌ تدبيري اقتضته مصلحةٌ ظرفية[22] .
بمثل هذه الشواهد يقرِّر السيد الصدر رؤيته، التي تفتح أفقاً واسعاً في مجال التعامل مع كثير من النصوص التشريعية، ودراسة إمكانية التغيير في أحكامها، وفقاً لتطوُّرات الحياة والزمن.
الأئمّة يُوقفون أحكاماً نبويّة
ضمن هذا السياق يمكننا فهم عدد من الروايات عن أئمّة أهل البيت^، تتحدّث عن زمنية ومحدودية بعض الأحكام النبوية، وأنها صدرت عن رسول الله‘ لمصالح ظرفية، ممّا يعني توقف تلك الأحكام في الظروف الجديدة. وهذه نماذج من تلك الروايات:
1ـ ما أورده الشريف الرضي في نهج البلاغة أن عليّاً× سُئل عن قول رسول الله‘: «غيِّروا الشَّيْب، ولا تشبَّهوا باليهود»؟ فقال×: «إنّما قال‘ ذلك والدين قُلٌّ، فأمّا الآن، وقد اتَّسع نطاقه، وضرب بجرانه، فامرؤٌ وما اختار»[23] .
كان النبي‘ قد أمر الشيوخ من أصحابه أن يستروا الشَّيْب عن العدو بالخضاب، ليظهروا أمامه في هيئة الأقوياء. فقال الإمام: ذلك حيث كان الإسلام ضعيفاً بقلّة أتباعه، أمّا اليوم، وقد ظهر على الدين كلِّه، فلم يَبْقَ لهذا الحكم من موضوع، فمَنْ شاء فليترك الخضاب، ومَنْ شاء فليخضب[24] .
فنحن هنا أمام حكمٍ نبويّ يقرِّر الإمام× أنه كانت له مصلحةٌ ظرفية، وقد انتفت، فبناءً عليه يتوقَّف ذلك الحكم.
2ـ الروايات الواردة حول الإسراع أو الإبطاء في الطواف، حيث ورد أن رسول الله‘ لمّا دخل مكة بعد صلح الحديبية أمر أصحابه أن يرملوا في الطواف، أي يهرولوا ويسرعوا، فسار الناس على هذا الأمر؛ اعتقاداً منهم أنّه تشريعٌ دائم، لكنّ الإمام الباقر× لفت النظر إلى أن أمر الرسول‘ بالهرولة في الطواف كان لمصلحةٍ ظرفية، وليس تشريعاً لحكمٍ ثابت دائم، ومعنى ذلك توقُّف الأمر النبويّ بعد زوال مصلحته.
فعن زرارة قال: «سألتُ أبا جعفر× ـ الإمام الباقر ـ عن الطواف، أيرمل فيه الرجل؟ فقال: إنّ رسول الله‘ لما أن قدم مكة، وكان بينه وبين المشركين الكتاب الذي قد علمتم، أمر الناس أن يتجلَّدوا، وقال: أخرجوا أعضادكم، وأخرج رسول الله‘، ثمّ رمل بالبيت؛ ليريهم أنه لم يصبهم جهدٌ، فمن أجل ذلك يرمل الناس. وإنّي لأمشي مشياً. وقد كان عليّ بن الحسين× يمشي مشياً»[25] .
وعن يعقوب الأحمر قال: «قال أبو عبد الله× ـ الإمام الصادق ـ: لمّا كان غزوة الحديبية وادع رسول الله‘ أهل مكة ثلاث سنين، ثمّ دخل فقضى نسكه، فمرّ رسول الله‘ بنفرٍ من أصحابه جلوس في فناء الكعبة، فقال: هو ذا قومكم على رؤوس الجبال، لا يرَوْنكم فيرَوْا فيكم ضعفاً، قال: فقاموا فشدّوا أزرهم، وشدّوا أيديهم على أوساطهم، ثم رملوا»[26] .
3ـ عن محمد بن مسلم وزرارة، عن أبي جعفر× ـ الإمام الباقر ـ، أنهما سألاه عن أكل لحوم الحُمُر الأهلية؟ قال: نهى رسول الله‘ عنها وعن أكلها يوم خيبر، وإنّما نهى عن أكلها في ذلك الوقت؛ لأنها كانت حمولة الناس، وإنّما الحرام ما حرَّم الله عزَّ وجلَّ في القرآن[27] .
4ـ عن أبان بن الأحمر قال: «سأل بعض أصحابنا أبا الحسن× عن الطاعون يقع في بلدةٍ، وأنا فيها، أتحوَّل عنها؟ قال: نعم، قال: ففي القرية، وأنا فيها، أتحوَّل عنها؟ قال: نعم، قال: ففي الدار، وأنا فيها، أتحوَّل عنها؟ قال: نعم. قلتُ: فإنّا نتحدّث أنّ رسول الله‘ قال: الفرار من الطاعون كالفرار من الزَّحْف، قال: إنّ رسول الله‘ إنّما قال هذا في قومٍ كانوا يكونون في الثغور في نحو العدوّ، فيقع الطاعون، فيُخلون أماكنهم يفرُّون منها، فقال رسول الله‘ ذلك فيهم»[28] .
من هذه الروايات وأمثالها يتبيَّن أنّ الأئمّة^ كانوا يكشفون عن وقف مفعول بعض الأحكام الصادرة عن النبيّ‘؛ لمعرفتهم بالمصلحة الظرفية لتشريعها.
فقهاء يعيدون النظر في أحكامٍ
وبعد عصر النبي‘ والأئمة^ فإنّ الفقهاء المجتهدين حين يقومون بعملية استنباط الحكم الشرعي، في عصورهم ولمجتمعاتهم، هل يتعاملون مع نصوص الأحاديث والروايات الواردة عن النبيّ‘ والأئمّة^ على أنها كلّها تحمل تشريعات ثابتة دائمة، أو أن فيها ما يحتمل صدوره استجابة لحاجة ظرفية، ولتحقيق مقصد وغاية ضمن زمنٍ وبيئة معينة، ممّا يعني إمكانية وقف ذلك التشريع والحكم في الزمن والظرف الاجتماعي الجديد؟
في الجواب عن ذلك يمكن القول: إنّ الفقهاء جميعاً يؤمنون بأن الأحكام الشرعية، وخاصّة ما يرتبط بشؤون الحياة، إنما وُضعت لمصالح العباد، وإنّ تأثير خصوصيات الزمان في مناطات الأحكام الشرعية حقيقة لا يمكن إنكارها، وحَسْب تعبير السيد الخوئي: «إن دخل خصوصيات الزمان في مناطات الأحكام ممّا لا يشكّ فيه عاقلٌ، وإذا تصوَّرنا وقوع مثل هذا في الشرائع فلنتصوَّر أن تكون للزمان خصوصية من جهة استمرار الحكم وعدم استمراره، فيكون الفعل ذا مصلحة في مدّةٍ معينة، ثم لا تترتّب عليه تلك المصلحة بعد انتهاء تلك المدّة، وقد يكون الأمر بالعكس»[29] .
وقال العلاّمة الحلّي: «الأحكام منوطة بالمصالح، والمصالح تتغيَّر بتغيُّر الأوقات، وتختلف باختلاف المكلَّفين، فجاز أن يكون الحكم المعيّن مصلحةً لقومٍ في زمانٍ فيؤمر به، ومفسدةً لقومٍ في زمانٍ آخر فينهى عنه»[30] .
كما أنّ الروايات والأحاديث التي تدلّ على وجود مصلحة ظرفية لبعض الأحكام، وأنه يتوقّف ذلك الحكم عندما تنتفي المصلحة، كما رأينا في الأحاديث السابقة، تشقّ هذا النهج للفقهاء، وتؤصِّل لهذه الممارسة الاجتهادية.
ويبقى على الفقيه أن يتلمَّس الظروف الاجتماعية التي أحاطت بصدور الحكم من المشرِّع، فإذا قطع أو اطمأنّ بمدخليّتها في صدور ذلك الحكم، ورأى أنّ الظروف الاجتماعية المعاصرة لا تتحقّق في ظلّها المصلحة التي توخّاها الحكم وقت صدوره، بل قد يكون الأمر على النقيض من ذلك، ففي مثل هذه الحالة يمكن للفقيه إعادة النظر في التشريع الذي تضمّنه النصّ الوارد.
ويرى المحقِّق الأردبيلي(993هـ) أن تشخيص اختلافات الأزمنة والظروف، وتنزيل الأحكام الشرعية عليها، هو الوظيفة المتميِّزة للفقهاء. يقول ضمن بحثه في صلاة المسافر ما نصّه: «تختلف الأحكام باعتبار الخصوصيات والأحوال والأزمان والأمكنة والأشخاص، وهو ظاهرٌ. وباستخراج هذه الاختلافات، والانطباق على الجزئيّات المأخوذة من الشرع الشريف، امتياز أهل العلم والفقهاء، شكر الله سعيهم ورفع درجاتهم»[31] .
ويمكننا رصد مثل هذه الممارسة الاجتهادية لدى عددٍ من الفقهاء الماضين والمعاصرين ضمن النماذج التالية:
1ـ ذكر الحُرّ العاملي، في تعقيبه على الروايات التي تنفي حقّ المرأة في طلبها لصداقها بعد موت زوجها، أو طلاقه له، كرواية عبد الرحمن بن الحجّاج قال: «سألتُ أبا عبد الله× ـ الإمام الصادق ـ: إنْ كانت المرأة حيّةً، فجاءت بعد موت زوجها تدّعي صداقها؟ فقال: لا شيء لها، وقد أقامت معه مقرّةً حتّى هلك زوجها…»، قال الحُرّ العاملي، في معرض تعقيبه على الرواية: وقد ذكر بعض علمائنا أن العادة كانت جاريةً مستمرة في المدينة بقبض المهر كلِّه قبل الدخول. وإنّ هذا الحديث وأمثاله وردت في ذلك الزمان، فإنْ اتّفق وجود هذه العادة في بعض البلدان كان الحكم ما دلَّتْ عليه، وإلاّ فلا[32] .
ومعنى ذلك أنّ النصّ لا يحمل تشريعاً ثابتاً ينفي حقّ المرأة في المطالبة بالصداق بعد وفاة الزوج أو طلاقها، وإنّما هو حكمٌ ترتَّب على عرفٍ اجتماعيّ ضمن مكان وزمان، لا يسري إلاّ في الظرف المشابه.
2ـ أشار الشيخ الصدوق، في كتابه (الاعتقادات)، إلى أنّ الروايات والأخبار الواردة عن النبي‘ والأئمّة^ والمتعلِّقة بالصحّة والطبّ لا يمكن التعامل معها كنصوص قابلة للتطبيق في كلّ زمان ومكان.
قال ما نصّه: اعتقادنا في الأخبار الواردة في الطب أنها على وجوه:
منها: ما قيل: على هواء مكّة والمدينة، فلا يجوز استعماله في سائر الأهوية.
ومنها: ما أخبر به العالم× على ما عرف من طبع السائل، ولم يتعدَّ موضعه؛ إذ كان أعرف بطبعه منه[33] .
وعلى نفس الروايات علَّق الشيخ المفيد، في تصحيح الاعتقاد، قائلاً: «وقد ينجع في بعض البلاد من الدواء من مرض يعرض لهم ما يهلك مَنْ استعمله لذلك المرض من غير أهل تلك البلاد، ويصلح لقومٍ ذوي عادة ما لا يصلح لمَنْ خالفهم في العادة»[34] .
وفي ذات السياق يرى الشيخ محمد مهدي شمس الدين أنّ روايات الحثّ على تناول الملح قبل الطعام وبعده ليس سوى حكم خاص بالوضع في المناطق الحارّة آنذاك، حيث كان الجسم بحاجةٍ إلى أملاح؛ بسبب الحرّ الشديد، وما يفرزه الجسم من العرق، وإلاّ فهذا الحكم لا يشمل اليوم شمال الكرة الأرضية، بل قد يُسبِّب لهم ضرراً[35] .
3ـ سئل السيد السيستاني: أيُّهما أفضل: زيارة الحسين× في يوم عرفة أو الحجّ المندوب؟ فأجاب بما يلي: هناك روايات كثيرة تدلّ على أفضلية زيارة الإمام الحسين×. ولعلّ الأمر يختلف باختلاف الظروف والأحوال[36] .
دور الزمان والمكان في الاستنباط
تحت هذا العنوان كتب الشيخ جعفر السبحاني بحثاً قيِّماً شارك به في أحد المؤتمرات العلمية، وطرح فيه رؤيته حول هذا الموضوع، مؤكِّداً أنّ الظروف المختلفة هي عنوان وعامل مستقلّ يبعث الفقيه على الإمعان في بقاء التشريع أو زواله، ومن دون أن يكون في النصّ الوارد إشارة إلى هذا التغيير؛ إذ يكون التغيير حينئذٍ مستنداً إلى النصّ. كما أن عنوان اختلاف الظرف مغايرٌ لعنوان الاضطرار والحرج، الذي ينتج حكماً ثانوياً. ومعنى ذلك أن الحكم الجديد الذي يستنبط استجابةً لتأثير الزمان والمكان يصبح حكماً أوليّاً واقعيّاً، وليس حكماً ظاهريّاً، ولا ثانويّاً. ومثاله: الحكم بجواز بيع الدم أو المني، أو سائر الأعيان النجسة التي ينتفع بها في هذه الأيام، وكان بيعها في الزمن السالف محرَّماً؛ لعدم وجود نفعٍ محلَّل لها، أما وقد أصبحت لها منافع محلَّلة فجواز بيعها حكمٌ واقعيّ، وليس ظاهريّاً، ولا مستخرجاً من باب الضَّرَر والحَرَج.
ويقرِّر الشيخ السبحاني أنّ الأحكام الشرعية تابعةٌ للملاكات والمصالح والمفاسد، ثم يشير إلى أنّ الفرصة متاحة أمام الفقيه لاستنباط تغيير في الحكم إذا كان الشرع قد حدَّد مناط الحكم وملاكه، مستشهداً بتحريم الشرع بيع وشراء الدم؛ لعدم وجود منفعة محلَّلة، وهنا يمكن للفقيه الإفتاء بجواز بيع وشراء الدم حين تصبح للدم منفعة محلَّلة.
وكذلك فإنّ تحريم الشرع لقطع أعضاء الميت ملاكه أن ذلك كان يتمّ لغاية الانتقام والتشفّي، وحين أصبحت هناك غاية أخرى، وهي زرع الأعضاء لمحتاجيها من المرض، أمكن تغيير الحكم من التحريم إلى الجواز.
ولم يتعرَّض الشيخ السبحاني إلى ضوابط معرفة المناط والملاك في الأحكام من قبل الفقيه حين لا ينصّ الشرع على ذلك. لكنّه ذكر أمثلةً لأحكام شرعية تقتضي المتغيِّرات الاجتماعية إعادة النظر فيها، وإنْ لم ينصّ الشرع على ملاكاتها ومناطاتها، مشيراً إلى أنّ التغيير قد يقتصر على آليات وأسلوب تنفيذ تلك الأحكام. وهنا يتّضح الحَذَر والتحفُّظ في تناوله لهذه المسألة.
ومن الأمثلة التي ذكرها في هذا السياق ما تضافرت عليه النصوص من حلّية الأنفال للناس، ومنها: الآجام والأراضي الموات، وقد كان انتفاع الناس بها في الأزمنة الماضية لا يورث مشكلةً في المجتمع؛ لبساطة الأدوات المستخدمة، لكنّ تطوُّر وسائل العمل والإنتاج، وقيام الشركات والمؤسّسات الاقتصادية ذات الإمكانات والطموح الاقتصادي، يستلزم وضع قوانين تحدّ من تشريع الحلّية الذي قرَّرته النصوص الدينية.
وكذلك مسألة توزيع الغنائم الحربية على المقاتلين، التي كانت في زمن النصّ الديني تنحصر في أدواتٍ محدودة، كالسيف والرمح والسهم والفرس، فأصبحت اليوم دبابات ومدرّعات وطائرات وبوارج بحريّة، فكيف يكون توزيعها على المقاتلين؟!
وكذلك مسألة امتلاك الإنسان للمعادن المركوزة في أرضه؛ تَبَعاً لها، دون أيِّ قيدٍ أو شرط، كما هو رأي الفقهاء السابقين. لكنّ تطبيق هذا الحكم في هذا الزمن، وحيث أصبح البترول وسائر المعادن ثروةً وطنية، يعتمد عليها اقتصاد المجتمعات والبلدان، أمرٌ غير ممكنٍ، ولا ينسجم مع المصالح العامة للأوطان والشعوب[37] .
الفقهاء يواجهون تحدّي المتغيِّرات
يشير الشيخ حيدر حبّ الله، في أحد فصول كتابه (نظرية السنّة في الفكر الإمامي الشيعي)، إلى أنّ دخول المؤسسة الدينية الشيعية غمار الحياة السياسية، منذ حادثة التنباك، مروراً بالحركة الدستورية (المشروطة)، إلى انتصار الثورة الإسلامية في إيران، استدعى تحوُّلات في العقل الشيعي؛ لدخوله دائرة المتغيِّر السياسي والاقتصادي والاجتماعي. فالعقل الذي يعيش أحداث التحوُّل والصيرورة يختلف تلقائيّاً عن العقل الذي يعيش السكون، ويبتعد عن المجريات.
وبعد أن يناقش الباحث بعض المقولات حول نزعة القراءة التاريخية للنصوص الدينية يرصد بعض الآراء الفقهية الجديدة البديلة لآراء فقهيّة كانت سائدة. ومن تلك النماذج نختار ما يلي:
1ـ ما تقرّر في الفقه من أن دية قتل الخطأ لا تكون من مال الجاني، ولو كان غنيّاً، وإنما تكون الدية على عاقلته، وهم قرابته من جهة الأب، كالإخوة والأعمام وأولادهم، وذلك بإجماع فقهاء المسلمين. وقد حكم النبيّ‘ بذلك، ووردت به أحاديث وروايات. لكنّ فقهاء معاصرين يرَوْن أنّ نظام العاقلة ينسجم مع ظروف الحياة الزراعية والقبلية التي كانت سائدة آنذاك، ومن ثمّ لا معنى لهذا الحكم في العصر الحاضر، بعد حصول تحوُّل جذري في نظام الحياة العائلية والاجتماعية[38] .
2ـ يرى بعض الفقهاء المعاصرين أنّ الروايات التي دلّت على حرمة حلق اللحية إنما كانت ـ كما تشهد بذلك نصوصٌ في أبواب أخرى ـ في ظلّ اعتبار حلق اللحية عند العرب آنذاك نوعاً من المُثْلة التي توجب سخرية الناس واستغرابهم، أو لتمييز المسلمين عن غيرهم، و…، لهذا كان تحريمها، لا لأن حلق اللحية حرامٌ في حدّ ذاته، حتّى لو زالت تلك الظروف[39] .
3ـ ويرى بعض الفقهاء المعاصرين أنّ روايات الإكثار من النسل، وما جاء حثّاً على التناسل وتكثير سواد المسلمين، إنّما كان في سياق ذلك الزمن؛ حيث كان المسلمون قلّةً، فكان التناسل ضروريّاً لهم؛ باعتبار أنّ العدد كان يمثِّل قوة للأمة في الحرب وغيرها. أمّا اليوم فالأمور اختلفت، فلم تعُدْ الكثرة العددية معيار القوّة، ولم يعُدْ المسلمون بحاجةٍ إلى عدد أكبر، لهذا لا تجري تلك الروايات اليوم[40] .
4ـ ما يثيره بعض الفقهاء والباحثين المعاصرين في مسألة الزكاة، وأن تعيينها في الموارد التسعة، من التمر والشعير والحنطة والزبيب، ومن الإبل والبقر والغنم، ومن النقدين الذهب والفضة، إنما كان لأنّها مصدر أرزاق الناس آنذاك، وحيث تغيَّرت حركة الاقتصاد أصبحت موارد أخرى تمثِّل الثقل الأكبر في الحياة الاقتصادية، فلا بُدَّ من الخروج عن ذلك التحديد[41] .
5ـ يذهب فريقٌ من الفقهاء إلى اعتبار الروايات التي تحصر تحريم الاحتكار بستّة أشياء (الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن والزيت) تعبيراً عن الشيء المحتاج إليه في المجتمع آنذاك. أما وقد تغيَّر الحال فإنّ حرمة الاحتكار لا تختصّ بها، بل تعمّ مطلق الأطعمة المتداولة، أو مطلق ما يحتاجه الناس، ولو من غير الأطعمة[42] .
6ـ دعا السيد محمد الشيرازي سنة 1394هـ إلى تطوير المشاعر المقدّسة في الحجّ، بأن يكون المطاف حول الكعبة طوابق متعدّدة، وكذلك المسعى، وأن تكون الجمرات طبقات، وأن تبنى عرفات والمزدلفة ومنى طبقات، ولم يَرَ بأساً من الناحية الشرعية في كلّ ذلك. بينما لا يزال فقهاء يتحفَّظون على جواز أداء المناسك في الطوابق المضافة لهذه المشاعر.
وينطلق السيد الشيرازي في دعوته من أن الظروف الجديدة ستتيح لملايين المسلمين الذهاب إلى الحجّ، ولا يمكن استيعاب هذه الملايين مع بقاء المشاعر على وضعها السابق.
وقد أصدر دعوته ضمن كتيِّب بعنوان (لكي يستوعب الحجّ عشرة ملايين). وفي عام 1418هـ أعاد طرح رأيه في كتاب بعنوان (ليحجّ خمسون مليوناً كلَّ عام).
كما أفرد السيد الشيرازي(1347 ـ 1422هـ)، في موسوعته الفقهية الكبيرة ـ (150) مجلّداً ـ، بعض المجلَّدات لبحث المسائل الفقهية ضمن عناوين جديدة، مثل: «فقه البيئة»، «فقه المرور»، «فقه النظافة»، «فقه الإعلام»، «فقه الحقوق»، «فقه الاجتماع»، «فقه الاقتصاد»، «فقه السياسة».
7ـ يرى الشيخ يوسف الصانعي أن المستفاد من التفاسير والكتب الحديثية والتاريخية أن السائد زمان نزول الآيات القرآنية كان الربا الاستهلاكي، سواء شرطت الزيادة في بداية القرض، وهو ما يعبَّر عنه الفقه الإسلامي: القرض بالشرط، أو كانت مقابلةً للتأخير في التسديد عن زمان دفع الدَّيْن أو تقسيطه، وبناءً عليه يطالب المقرض المقترض بمبلغٍ إضافي عندما يحلّ موعد الدَّيْن، دون أن يتمكَّن الأخير من دفع المبلغ المستحقّ عليه.
يقول القرآن الكريم في هذا المجال: ﴿وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَة فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَة﴾ (البقرة: 280). وهذا القانون القرآني مطابقٌ تماماً للمعطيات العقلانية وما يفهمه العقلاء، من أنّه لا بُدَّ من الإمهال في القرض حتّى الحدود المتعارفة، فإذا لم يعمل المقرض عندها بهذا القانون الديني، بل طالب بالرِّبا والزيادة، فإنّه يكون مشمولاً للآيات والروايات المذكورة آنفاً. وهذا هو بالضبط ما نسمِّيه: الرِّبا الاستهلاكي.
إلاّ أنّ العصر الحديث جعلنا نتصوّر فرضيةً أخرى من المعاملات، ندر في الماضي وجود مثيلٍ لها، بل تعدّ من مختصّات الحياة المتطوِّرة المعاصرة. وهذه الفرضية، التي غدَتْ اليوم واقعاً، تتمثَّل فى حاجة الرجل الغني المتموِّل إلى رأسمال إضافي؛ لاستثماره اقتصادياً، كأنْ يشيد به المجمّعات السكنية، أو يبني به المصانع والمعامل، أو يؤسِّس مدجناً للحيوانات…، فهو يملك ـ حَسْب الفرض ـ مبلغاً كبيراً من المال، ويرى نفسه قادراً على إنجاز مثل هذه المشاريع الاقتصادية الضخمة، إلاّ أنّه يقترض مبلغاً من المال لإكمال رأسماله.
هذا النوع من الرِّبا هو ما نسمّيه: الرِّبا الإنتاجي الاستثماري، أي إنّ المال في هذا الرِّبا يصرف في إطار دفع عجلة الاقتصاد، وتنمية الإنتاج.
ولتأكيد رأيه حول إباحة الرِّبا الاستثماري يضيف الشيخ الصانعي: جاء في روايات تحريم الرِّبا ذكر علل وأسباب للحرمة لا تنطبق على الرِّبا الإنتاجي الاستثماري. فقد ذكرت بعض الروايات أنّ علة تحريم الرِّبا ركود الاقتصاد، وتعطيل المعاملات. ففي وسائل الشيعة: عن هشام بن الحكم، أنّه سأل أبا عبد الله× عن علّة تحريم الرِّبا؟ فقال: «إنَّه لو كان الرِّبا حلالاً لترك الناس التجارات وما يحتاجون إليه، فحرَّم الله الرِّبا لتنفر الناس من الحرام إلى الحلال، وإلى التجارات من البيع والشراء، فيبقى ذلك بينهم في القرض».
وهكذا ينقل زرارة عن الإمام الصادق× قوله: «إنّما حرَّم الله الرِّبا لئلا يذهب المعروف».
ومن الواضح أن الرِّبا الإنتاجي ليس فقط لا يسبِّب ركوداً اقتصادياً، لا بل يساهم في ضخّ عجلة الاقتصاد بالحراك، ويبثّ روحاً متناميةً في حركة الإنتاج أيضاً[43] .
وللشيخ الصانعي عددٌ من الآراء الفقهية الجريئة، التي انفرد بالقول بها، كإرث غير المسلم من المسلم، ووجوب طلاق الخلع على الرجل، ومساواة الدية بين الرجل والمرأة والمسلم والكافر، ومساواة الرجل والمرأة والمسلم وغيره في القصاص، ومسائل أخرى.
أضاحي الحجّ وضرورة الاجتهاد الجديد
يبلغ عدد الحجّاج في هذه السنوات زهاء مليوني حاج، وهو مرشَّح للزيادة كل عام. ويذبح كلّ حاج أضحيته صباح يوم العاشر من ذي الحجّة (عيد الأضحى)، كجزءٍ واجب من مناسك الحجّ، فيكون عدد الأضاحي أكثر من مليوني رأس من الغنم، وقليل منها من الإبل والبقر. هذا العدد الضخم من الأضاحي في زمنٍ محدود ومكانٍ معيّن يجعل إمكانية الاستفادة منها محدودة، ويكون مصير معظم الأضاحي التلف والهدر.
في العصور السابقة كان عدد الحجيج محدوداً، وكان يمكن الاستفادة من معظم الأضاحي من قبل الحجّاج أنفسهم، وأهالي مكّة وأطرافها، بل كان بعض الحجيج يقوم بتجفيف كمّيات من لحوم الأضاحي؛ ليأخذوها إلى بلدانهم.
أمّا الآن فهناك هَدْرٌ كبير للثروة الحيوانية يحصل كلّ عام في موسم الحجّ، يبلغ ما لا يقلّ عن 20 مليون كيلوغرام من اللحم، إذا قدَّرنا متوسط وزن الأضحية 10 كيلوغرامات، وتصل قيمتها إلى حوالي 300 مليون دولار، إذا قدّرنا متوسط قيمة الأضحية 150 دولاراً على الأقلّ، وذلك هو ما يدفع الواعين والغيارى للتفكير في معالجة هذا الأمر.
وقد أنشأت حكومة المملكة مشروعاً للإفادة من الهدي والأضاحي منذ عام 1403هـ ـ 1983م، وأسندت مهمة إدارته إلى البنك الإسلامي للتنمية، وتشرف على أعمال المشروع عددٌ من الجهات الحكومية، حيث يعمل في إطار المشروع كلّ عام حوالي (4000) فرد من القوى العاملة، بهدف توزيع لحوم الأضاحي إلى المستحقين داخل المملكة وخارجها.
وهو مشروعٌ مهمّ عظيم، لكنّه لا يزال عاجزاً عن استيعاب عدد الأضاحي كاملة. وبعد أكثر من ثلاثين عاماً على تأسيسه وتطوير قدراته وإمكاناته لا يكاد يستوعب حتّى نصف كمية الأضاحي؛ وذلك لأنه يواجه ضغط الزمان والمكان.
ومن ناحيةٍ أخرى فإنّ كلفة الاستفادة من الأضحية ليست قليلة، إذا أخذنا بعين الاعتبار تكاليف التبريد والنقل، وإدارة العملية في مختلف المراحل، وخاصّة أنّ تجهيزات المشروع موسمية، وليست مشروعاً إنتاجيّاً دائماً.
إنّ ذلك يستوجب دراسة المشكلة، والبحث عن حلول تحدُّ من هذا الهدر لثروات الأمة، مع الفقر والحاجة الملحّة لدى معظم شعوبها ومجتمعاتها.
ومن أوائل العلماء الذين استوقفهم هذا الموضوع الشيخ محمد جواد مغنية (1322هـ ـ 1400هـ)، حيث نشر مقالاً في مجلة (رسالة الإسلام)، التي كانت تصدر من القاهرة، في عدد كانون الثاني سنة 1950م، تحت عنوان: «هل تعبَّدنا الشرع بالهدي في حال يترك فيها للفساد».
وقد أعاد صياغة تساؤله في مقاله بما خلاصته: هل أن الشارع المعصوم عن العبث تعبّد حجّاج بيته الحرام بالذبح بقصد التقرُّب إليه حتّى مع علم الحاجّ بمآل ذبيحته إلى الحرق والطمر والتلف؟
ويُقرِّر الشيخ مغنية أن المفهوم من وجوب الهدي أنه الذي تعورف بين الناس إمكان الأكل والإطعام منه، فلسان الدليل الذي دلّ على وجوبه كلسان قولك: ضَحِّ، فإنّ الناس تفهم منه الأضحية حيث يمكن الأكل والإطعام، أمّا التعبُّد بإراقة الدماء على كلّ حال فبعيدٌ عن الأذهان، لهذا يتساءل الناس مستغربين: هل أراد الشارع الهدي في حال ضياع لحمه وطمره في بطن الأرض؟
ويُصرّ الشيخ مغنية على تقرير فكرته بأن الشرع أمر بالهدي، وليس له في معنى الهدي حقيقةٌ شرعية، فلا بُدَّ من انصراف الأمر إلى الحقيقة العُرْفية، وهو ما كان هناك آكل ومُطعم، كما كانت عليه الحال في عهد الرسول‘ وأصحابه.
ويضيف قائلاً: نعلم علم اليقين أنّ الذبح المستلزم للطمر أو الإحراق لا يُسمّى هَدْياً في عرف الناس، مع قطع النظر عن الحكم، ولا أقلّ من الشكّ في الصدق وصحة التسمية.
ثم يتقدّم الشيخ مغنية خطوةً أخرى في مناقشته، بأنّه حتّى لو سُلِّم جدلاً أنّ الهدي يصدق في حالة الطمر أو الإحراق فإنّ ذلك يعني عدم تطبيق الأمر بالأكل والإطعام الوارد في قوله تعالى: ﴿فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا﴾ (الحجّ: 36)، والروايات الدالة على ذلك، وما نصّ عليه الفقهاء من وجوب الأكل والتفريق من الهَدْي، وبيَّنوا مقدار ما يُؤكَل ويُطْعَم.
وأخيراً يرى الشيخ مغنية أنّ الحكم إمّا سقوط التكليف بالذبح؛ لعدم وجود بديلٍ مأمور به، أو التصدُّق بثمنه من باب الاحتياط، على أن لا ينوي الحاجّ بصدقته هذه البَدَل عن الهَدْي، بل القربة المطلقة. ويستأنس لذلك بما قاله الفقهاء من التصدُّق بثمن الأضحية إنْ لم تتوفَّر[44] .
وبعد ما يقارب الخمسين عاماً على دعوة الشيخ مغنية لإعادة النظر في المسألة تناولها الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، في بحثٍ حُرِّر وطبع ضمن رسالة مستقلّة، تحت عنوان: (حكم الأضحية في عصرنا)، بدأه بمشاهداته وانطباعاته عمّا يحصل في أداء هذا النسك، قائلاً: حينما تشرَّفت بزيارة بيت الله الحرام لأوّل مرّة، وفي منى، ذهبت إلى المسلخ؛ لأشاهد عن قربٍ عملية نحر الأضاحي يوم العيد، فإذا بي أواجه مشهداً عجيباً، حيث رأيت أن الآلاف المؤلَّفة من أشلاء الأنعام، من الشياه والبقر والإبل، قد غطَّتْ أرض المسلخ، بحيث كان من الصعب العبور من خلالها، في حين كانت شمس الحجاز الحارقة تلهب بحرارتها كلَّ شيءٍ، وتسبِّب في تعفُّنها تدريجياً، دون أن يستفيد منها أحدٌ من الناس، ولا سيَّما المساكين.
وتبادر الحكومة السعودية؛ من أجل أن تمنع انتشار الأوبئة بين الحجيج، إلى دفنها، رغم ما يعترض هذا العمل من صعوبات. كما لاحظت وجود عددٍ من الفقراء المعوزين ينقلون أجزاءً من الأضاحي خارج المسلخ، لكنْ لا تتجاوز نسبة ما يقتطعونه من الأضاحي في أحسن الأحوال عشرة بالمئة، فيتلف الباقي بالدفن أو الحرق! ولعلّ الكثير من الأفراد الذين يدخلون المسلخ، ويشاهدون الوضع فيه، يتساءلون في أنفسهم عن رأي الشرع المقدَّس في هذه الظاهرة، وموقف الفقهاء ومراجع الدين منها، وهل هي من المسائل المستحدثة أم إنها كانت منذ عصر المعصومين وفقهاء السَّلَف؟[45] .
هذا المشهد الذي أثاره دفعه إلى البحث في المسألة، ليصل إلى النتيجة التالية: إنه إذا أمكن الذبح في منى، أو قربها من أراضي الحَرَم، وصرف الأضحية في مصارفها، فهو الواجب. وكذلك لو أمكن نقل اللحوم إلى حيث يُستفاد منها. أما إذا لم يمكن ذلك، وكان مصير الأضحية إلى الإتلاف أو الإحراق، يمكن القول بسقوط الذبح. والأحوط وجوباً عزل ثمنها، ثمّ الإتيان بسائر المناسك، ثمّ الذبح في الوطن، أو أيِّ محلٍّ آخر، خلال شهر ذي الحجّة. والأَوْلى في صورة الإمكان التنسيق للذبح يوم الأضحى في وطن الحاجّ، ليصرف لحمها في مصارفها[46] .
وينطلق الشيخ مكارم في رأيه هذا من أنّ المستفاد من الآيات الواردة في حكم الأضحية أنّ الأضحية المطلوبة إنما هي ما يصرف لحومها للفقراء والمساكين، لا مجرّد إراقة الدم، يقول تعالى: ﴿فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرّ﴾ (الحجّ: 36)، ويقول تعالى: ﴿فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ﴾ (الحجّ: 28)، وكذلك ما رواه الصادق×، عن رسول الله‘، أنّه قال: «إنما جعل هذا الأضحى لتشبع مساكينكم من اللحم، فأطعموهم». وهو بهذا يتَّفق مع ما طرحه الشيخ مغنية.
ثم يدعم الشيخ مكارم الشيرازي رأيه بما تفرضه المتغيِّرات الاجتماعية من واقعٍ لا يشبه عصر النبيّ‘ والأئمة^؛ وذلك لقلّة عدد الحجّاج وكثرة المستحقّين يومذاك، بحيث كانت لحوم الأضاحي يصرف جميعها في أيّام الحجّ. وإلى ما قبل أقلّ من قرنٍ من الزمان كان الأمر كذلك. لذلك تشير الروايات إلى أنّ النبيّ‘ نهى عن ادّخارها أكثر من ثلاثة أيّام؛ وذلك لكثرة المستحقين، ثم أجاز ذلك حين قلَّتْ الحاجة، كما ورد عن الباقر×، قال: «كان النبيّ‘ نهى أن تحبس لحوم الأضاحي فوق ثلاثة أيّام؛ من أجل الحاجة، فأما اليوم فلا بأس».
كما يستفاد من روايات أخرى النهي عن إخراج لحوم الأضاحي من منى؛ لكثرة المحتاجين فيها. ثمّ جاءت روايات تجيز ذلك، بعد أن زاد الحجيج وقلّ المستفيدون، كما في رواية عن الإمام الصادق×: «كنّا نقول: لا يخرج منها بشيءٍ؛ لحاجة الناس إليه، فأما اليوم فقد كثر الناس، فلا بأس بإخراجه».
ثم يقارن الشيخ مكارم الشيرازي هذا المشهد في الماضي بمشهد اليوم، حيث تتعذَّر الاستفادة من لحوم الأضاحي في منى، ويؤول أمرها إلى التلف. هذا التغيُّر في الظروف والأوضاع يستوجب إعادة النظر في المسألة، حيث يصعب القبول بأنّ ما يجري يطابق المراد الشرعي من الأضحية.
ويصل الشيخ مكارم الشيرازي إلى القول بأنّ ما يجري من ذبح الأضاحي مع دفنها أو إحراقها هدرٌ للثروات والإمكانات، وهو من أوضح مصاديق الإسراف والتبذير المحرَّم شرعاً.
ويتساءل: هل يرضى الشارع الحكيم بمثل هذا الإسراف الفاحش؟
ويضيف إلى أدلته كون الذبح حاليّاً لا يجري في منى، وإنما خارجها، وبلا مصرف صحيح، فلماذا لا يكون في أيِّ بلدٍ آخر؟[47] .
وبعد حوالي عشر سنوات من طرح هذا المرجع لرأيه في قم خرج صوتٌ لأحد فضلاء حوزة النجف العلمية يتبنَّى نفس الرؤية تقريباً، حيث أصدر السيد محمود الغريفي بحثاً بعنوان: (الذبح خارج منى بين الواقع الحالي والدليل الفقهي)، مؤيَّداً بتقديم من أحد مراجع النجف الشيخ بشير النجفي.
وقد خرج السيد الغريفي من بحثه بالنتيجة التالية: إن ملاك الذبح في بلد الحاجّ والاستفادة من الهدي أفضل وأقرب لواقع الهدي من ملاك حسن الاحتياط بالذبح في مكّة وما حولها مع تلف الهدي أو وصوله لغير مستحقّيه، أو استغلاله لأغراض فاسدة؛ لأنّ خصوصية منى تسقط بالعجز. وثَمّ الإطلاق المقتضي حرّية الحاج في الذبح حيثما تمكّن، فلو علم أن الذبح في بلده أحفظ لحقّ الفقراء والمؤمنين فهذا يرفع ملاك حسن الاحتياط، فضلاً عن منشأ وجوبه[48] .
لماذا تتعثَّر محاولات التجديد؟
الدعوة إلى التجديد والإصلاح الديني ليست دعوةً جديدة، بل أطلقها عددٌ من القيادات الدينية الواعية منذ مطلع العصر الحديث، كالسيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده، وصولاً إلى السيد محمد باقر الصدر والإمام الخميني والسيد محمد الشيرازي والسيد فضل الله والشيخ شمس الدين والشيخ محمد الغزالي والشيخ يوسف القرضاوي وآخرين من أعلام السنّة والشيعة.
ولا ينكر أثر الجهود التي بذلها هؤلاء وأمثالهم في إعادة الثقة بالدين في أوساط أبناء الأمة، وإظهار جدارة الإسلام بقيادة الحياة، وتغيير مساحة من ذهنية وتفكير الوسط الديني.
لكنّ هذه المحاولات لا تزال متعثِّرة، ومرتبطة بجهود وإمكانات أصحابها، دون أن تتحوَّل إلى مسار ومنحى في مراكز القرار والفتوى والإدارة الدينية على مستوى المجتمعات الإسلامية.
ولعلّ السبب الأساس أن مقولات التجديد ونظرياته لم تأخذ مكانها بعد في مناهج الدراسة العلمية الأصولية والفقهية، حيث يتربّى طلاب العلوم الدينية في أجواء تقليدية محافظة، ويدرسون المناهج والنظريات التي أنتج معظمها علماء ما قبل العصر الحديث، فتصاغ ذهنيّاتهم وتتشكّل رؤيتهم ضمن هذا السياق.
صحيحٌ أن علماء معاصرين قد أطلقوا مقولات ونظريات جديدة في علمي الفقه والأصول، لكنّها لم تتبلور، ولم تشقّ طريقها إلى العقل الفقهي العامّ. ومن نماذجها: مقولة تأثير الزمان والمكان على عملية استنباط الأحكام، ومقولة الفرز بين الأحكام التشريعية والتدبيرية، ومقولة منطقة الفراغ التشريعي، ومقولة تاريخية النصّ الديني.
ونشير هنا بإيجاز إلى الفكرة التي دعا إلى مناقشتها الشيخ محمد مهدي شمس الدين، وهي أنّ النصوص الدينية المرتبطة بحركة الحياة قد لا تكون مطلقة وعامة في الزمان والمكان والأحوال، كما هو الحال في النصوص الشرعية المرتبطة بالعبادات. وقد درج الأصوليون والفقهاء على اعتبار أنّ الوضع الأصلي للنصّ هو الوضع الذي وصل إلينا، إنْ كان عامّاً أو مطلقاً فهو كذلك أبداً، وإنْ كان خاصّاً أو تعبّداً فهو كذلك أبداً، ولا يرفع اليد عن إطلاقه أو عمومه أو خصوصه إلاّ بدليلٍ مخصِّص، أو مقيِّد، أو ملغٍ للخصوصية، يسمح بالتعميم والإطلاق.
ويرى شمس الدين أنّ هذا المبدأ الأصولي لا غبار عليه، ولا رَيْب فيه، لكنّه يدعو للنظر والمناقشة في إطلاقية هذا المبدأ وثباته بالنسبة إلى جميع النصوص التشريعية.
ويتساءل: هل جميع نصوص السنّة ـ في غير العبادات ـ تُعبِّر عن تشريعات ثابتة في عمومها أو إطلاقها أو خصوصها أو تقييدها، بحيث لا يمكن تكييفها بتخصيصها أو تقييدها بالحالات الطارئة على المجتمع والأمّة، لا بالعناوين الثانوية، بل باعتبار أصل التشريع؟
ففي الشريعة نصوصٌ تشريعية ثابتة ومطلقة في الزمان والمكان والأحوال، وفيها نصوص تعبِّر عن تشريعات اقتضتها ظروف الزمان أو المكان أو الأحوال، فهي نسبية بنسبية ظروفها وأحوالها ومكانها وزمانها.
وفي هذه الحالة يرى شمس الدين أنّ على الفقهاء ـ في عملية الاجتهاد والاستنباط ـ أن لا ينظروا إلى النصّ على أنه تشريعٌ مطلق على كلِّ حالٍ، عليهم أن يفسحوا مجالاً للنظر في كونه تشريعاً «نسبيّاً» لحالٍ دون حال، وظرفٍ دون آخر، وأن يبذلوا جهودهم في اكتشاف حقيقة الحال من هذه الجهة، وأن لا يكتفوا بكون النصّ وصل إلينا مطلقاً ومجرَّداً عن الخصوصيات في الحكم بإطلاقه في الزمان والمكان والأحوال والأقوام، وشريعة للأمّة كلّها في جميع أزمانها وأحوالها وظروفها وتقلُّباتها، فيجمدوا عليه كذلك في مقام الاستنباط.
ويضيف شمس الدين: إنّ ممّا ينبغي أن يُعزِّز هذه النظرة «المتحرّكة» إلى النصوص التشريعية ما نصّ عليه كثيرٌ من أعاظم الفقهاء من أنّ «التعبُّد الشرعيّ» المقتضي للجمود على النصّ معلومٌ في باب العبادات فقط؛ وأما في أبواب المعاملات بالمعنى الأعمّ فإنّ «التعبُّد الشرعيّ» غير معلوم الثبوت فيها، بل معلوم عدم الثبوت في جميعها[49] .
هذه المقولات وأمثالها لو بذل جهدٌ كافٍ في الوسط العلمي لمناقشتها وبلورتها وتقعيدها علميّاً؛ لتصبح كسائر القواعد والمباني الأصولية والفقهية، لأمكن لها أن تعطي دَفْعاً وزَخْماً كبيراً لتوجُّهات التطوير والتجديد.
وهناك عوامل أخرى تجب معالجتها على هذا الصعيد. ومن أبرزها عاملان، هما: غياب مؤسّسات البحث العلمي؛ وصعوبات التعبير عن الرأي الجديد.
1ـ غياب مؤسّسات البحث العلمي
فالفقيه لا يزال فرداً يدرس ويبحث ليستنبط الأحكام الشرعية بقدراته الذاتية، وجهوده الفردية، لا تتوفّر حوله مؤسّسات علمية تساعده بتهيئة مستلزمات البحث، والمعلومات التي يحتاجها، وتدعمه بالدراسات التخصُّصية لمعرفة الموضوعات الخارجية التي يريد الإفتاء حولها.
فمثلاً: حين يحتاج الفقيه إلى معرفة الظروف الاجتماعية التاريخية التي أحاطت بصدور النصّ الشرعي في مسألةٍ ما فإنّ ذلك يستلزم بحثاً خارج إطار علمي الفقه والأصول، قد لا يكون القيام به مقدوراً لذلك الفقيه.
وكذلك حين يحتاج الفقيه إلى تشخيص الموضوع الخارجي؛ ليُحدِّد الحكم الشرعي تجاهه، فإنّ ذلك يتطلّب بحثاً ميدانيّاً لمعرفة حيثيّات وواقع الموضوع الذي يراد تنزيل الحكم الشرعي عليه. وهذا قد لا يكون مقدوراً للفقيه إنْ لم تدعمه خبرات مساعدة. لذلك نجد إجابات الفقهاء حول بعض المسائل تتحدَّث بلغة الفروضات (إذا كان كذا فالحكم كذا).
2ـ صعوبات التعبير عن الرأي الجديد
أـ بسبب حالة الركود والسكون التي سادت الأجواء الدينية لزمنٍ طويل ألِفَ الناس ما عرفوه من آراء وفتاوى، وأصبحت كأنها مسلَّمات دينية، لا تقبل التغيير والتبديل.
ب ـ ولأنّ هناك تحذيرات دينية من البِدْعة والابتداع في الدين، بأن يضاف إليه ما ليس منه، فقد تضخَّم هذا الهاجس في أوساط المتديِّنين، حتّى أصبح معوِّقاً للإبداع والتجديد، وطرح الرأي الجديد، الذي ليس هو إدخالُ شيءٍ من خارج الدين، إنّما هو اجتهادٌ في فهم النصّ الديني.
ج ـ الشعور بالضعف والانكسار تجاه الحضارة الغربية، والاستياء من عدوان دولها على الأمّة، ولَّد قلقاً كبيراً في أوساط المتديِّنين تجاه أيّ مظهرٍ للتأثُّر بهذه الحضارة، والتَّبَعية لها، لذلك قد ينظر إلى أيِّ رأيٍ جديد نظرة ريبة وشكّ.
د ـ وحيث إنّ من الطبيعي أن تكون في الأوساط الدينية حالات تنافس، وتضارب مصالح، فإنّ التشهير بالرأي الجديد، والتشكيك في القائلين به، قد يصبح سلاحاً في ميادين التنافس والصراع بين أطراف الساحة الدينية.
لهذه الأسباب، وربما لأسباب أخرى، يتحفَّظ بعض الفقهاء من اقتحام مجالات التفكير والتنظير المؤدِّية إلى إنتاج رأيٍ جديد. وعندما يقتنع بعضُهم برأيٍ يخالف السائد والمألوف فإنه قد لا يتجرّأ على إعلانه وطرحه؛ توقّياً للمحاذير والصعوبات. ويتداول هؤلاء في أوساطهم مقولة: «ما كلُّ ما يُعْلَم يُقال»، وقول الشاعر:
يا رُبَّ جوهرِ عِلمٍ لو أبوحُ بـهِ *** لَقِيلَ لي: أنت مِمّن يَعبُد الوَثَنـا
ولاَستَحلّ رجالٌ مسلمون دمي *** يَرَون أقبحَ مـا يأتونـه حَسَنـا
وينقل الشهيد الشيخ مرتضى مطهري عن المرجع الأعلى في زمانه في إيران السيد حسين البروجردي(1292 ـ 1380هـ) أنه كان يقول: «التقيّة من أصحابنا أهمّ وأعلى»[50] .
وليس ذلك غريباً فإنّ السيد محسن الحكيم(1306 ـ 1390هـ) كان المرجع الأعلى في العراق حين أفتى بطهارة أهل الكتاب، ومع ذلك واجهته عاصفةٌ من الاعتراض.
وحول هذه المسألة يقول الشيخ محمد جواد مغنية: «وقد عاصرتُ ثلاثة مراجع كبار من أهل الفتيا والتقليد: الأوّل: كان في النجف الأشرف، وهو الشيخ محمد رضا آل ياسين؛ والثاني: في قم، وهو السيد صدر الدين الصدر؛ والثالث: في لبنان، وهو السيد محسن الأمين. وقد أفتَوْا جميعاً بالطهارة، وأسرُّوا بذلك إلى مَنْ يثقون به، ولم يعلنوا خوفاً من المهوِّشين، وأنا على يقينٍ بأن كثيراً من فقهاء اليوم والأمس يقولون بالطهارة، ولكنّهم يخشون أهل الجهل»[51] .
وحين أفتى الإمام الخميني بجواز لعب الشطرنج بدون قمار، وجواز بيع وشراء الآلات الموسيقية ذات الاستخدامات المتعدِّدة بغرض الاستخدام في الحلال، أبدَتْ بعض أوساط الحوزة العلمية استياءها، وكتب إليه أحد تلامذته الشيخ محمد حسن قديري رسالةً لمناقشة الفتوى، ولمطالبة الإمام الخميني بالابتعاد عن مثل هذه الفتاوى، حيث قال نصّاً: «ومهما يكن فإنّي أرى من المناسب أن ينأى سماحتكم عن هذا النوع من الموضوعات، ولا توجد أيّ ضرورةٍ لنشرها».
فأجابه الإمام الخميني برسالةٍ ردّ فيها على مناقشته، ثمّ أشار إلى موقف المعارضين لطرح مثل هذه الآراء بقوله: «في ضوء هذا النحو من استنباط سماحتكم يجب التخلّي عن المدنية الحديثة بالكامل، والعيش في الأكواخ أو الصحراء إلى الأبد… أنصحكم نصيحة أبوية بأن تنظروا إلى الله فحَسْب، ولا تتأثّروا بالذين يتظاهرون بالقداسة والمعمَّمين الجهلة؛ لأنه إذا قدّر أن يُساء إلى مقامنا ومنزلتنا في أعين المتظاهرين بالقداسة الحمقى والمعمَّمين الجهلة إذا ما أعلنّا ونشرنا حكم الله فليساء إليه أكثر فأكثر»[52] .
ونقل الشيخ يوسف القرضاوي عن الشيخ محمد أبو زهرة، وهو من كبار علماء الأزهر، أنه قال في أحد المؤتمرات: إنّ عنده رأياً كتمه عشرين عاماً، ويريد أن يبوح به الآن، وأضاف القرضاوي: إنّني كتمت بعض الفتاوى لسنين طويلة؛ خشية أن يهاجمني المهاجمون، ثمّ بدأت أفصح عن هذه الفتاوى وأنشرها[53] .
ومن أواخر الشواهد التي قرأتها في مجال معاناة المصلحين، وتعرُّضهم للضغوط المختلفة؛ بسبب التعبير عن رأيٍ جديد، ما كتبه الباحث الفقيه الدكتور طه جابر العلواني، الذي افتقدته ساحة المعرفة الإسلامية مؤخَّراً ـ حيث انتقل إلى جوار ربِّه بتاريخ 4 مارس 2016م، رحمه الله ـ، فقد كتب هذا العالم المفكِّر بحثاً حول أحد المواضيع الحسّاسة التي تواجهها الأمّة في هذا العصر، الذي تسوده لغة حقوق الإنسان، ومفاهيم الحرّية والكرامة، وهو موضوع حدّ الردّة، يناقش فيه الرأي الفقهي السائد بقتل المرتدّ عن الإسلام، حيث تناول الأحاديث والآثار والسنن القولية ذات العلاقة بالموضوع، ليصل إلى نتيجة خلاصتها عدم وجود نصٍّ قرآني يشرِّع هذا الحدّ. وكذلك الحال في السنّة القولية. كما تخلو السنة الفعلية من ذلك، فلم نجد واقعةً واحدة في العصر النبويّ تفيد بتطبيق عقوبة دنيوية ضدّ مَنْ يُغيِّرون دينهم، مع ثبوت ردّة عناصر كثيرة عن الإسلام في العهد النبويّ، ومعرفة النبيّ‘ بذلك.
وناقش في بحثه رأي الفقهاء بمختلف مذاهبهم، ليستنتج أن الردّة التي تستوجب العقوبة هي الردّة التي تتمثَّل في الانتقال إلى جبهة العدوّ، وليست مجرَّد التغيير العقدي الفكري.
وانطلق في بحثه من النصوص والمبادئ الدينيّة التي تؤكّد حرّية اختيار الدين، وعنون كتابه بعنوان: «لا إكراه في الدين، إشكاليّة الردّة والمرتدين من صدر الإسلام إلى اليوم».
يقول المؤلِّف في مقدّمة كتابه: إنه أعدّ بحثه قبل عشر سنوات (سنة 1992م)، وكان يريد نشره، لكنّه تلقى تحذيراتٍ بأن نشره لهذا البحث قد يسبِّب مشاكل للمؤسّسة التي كان يرأسها، وهي (المعهد العالمي للفكر الإسلامي)، فأمسك عن نشر البحث. فلمّا استقال من رئاسة المعهد سنة 1996م عزم على نشر البحث، فجاءته تحذيراتٌ جديدة بأن ذلك قد يؤثِّر سلباً على الجامعة التي ترأسها، فأجَّل نشر البحث مرّةً أخرى. وبعد ستّ سنوات عزم على نشره، حيث «بدأ السنّ يتقدَّم، والأمراض تتكاثر، ولا أريد أن ألقى الله وقد كتمتُ علماً منَّ الله به عليَّ… كما لا أريد أن أكتم ما تعلَّمْتُ خوف الفرقة أو الاختلاف، فإنّ دركات الفرقة والاختلاف التي تترنَّح أمتنا فيها، والتي جاءت من طغاة الحكام وعلماء السوء، ليس بعدها ما هو أسوأ منها. إنّ مصارحة الأمّة بحقيقة أمراضها أرجى لشفائها إنْ شاء الله من الكتمان عنها»[54] .
هكذا كتب هذا العالم المفكِّر عن حالة الحَذَر التي عاشها لمدّة عشر سنوات من نشر رأيٍ علميّ حول مسألة فقهية يخالف به الرأي السائد. ولنا أن نتصوَّر مدى تعويق هذه الحالة لجهودٍ علمية كثيرة على هذا الصعيد، كان يمكن أن تُقدِّم حلولاً ومعالجات لما يواجه الأمّة من مشاكل وتحدِّيات، في علاقتها مع تطوُّرات العصر والحياة.
وقد صدر مؤخَّراً بحثٌ علمي آخر حول حكم المرتدّ في الإسلام، للشيخ حسين الخشن، وصل فيه إلى النتيجة التي انتهى إليها بحث الدكتور طه العلواني، حيث لم يجد الشيخ الخشن في القرآن ما يدلّ على عقوبة قتل المرتدّ، مع أهمّية المسألة وخطورتها، وكونها مورداً للابتلاء في العهد الإسلامي الأوّل، حيث تناول القرآن في عددٍ من آياته موضوع الردّة، ولم يزِدْ على ذكر عقوبتها الأخروية، دون التعرُّض لعقوبةٍ دنيوية، بالرغم من حديث القرآن عن حدود أقلّ خطورة من حدّ الردّة.
وعلى العكس من ذلك فإنّ الجوّ القرآني العامّ في ما يتّصل بحرّية الرأي واختيار العقيدة يُعَدّ شاهداً ومؤيّداً على نفي العقوبة الدنيوية للمرتدّ، كما استعرض ذلك الباحث في كتابه.
أمّا الأحاديث التي استدلّ بها الفقهاء على قتل المرتدّ، من مصادر السنة والشيعة، فقد ناقشها الباحث، وردَّ معظمها سنداً أو دلالة. وعلى فرض صحّتها فإنّ الردّة المقصودة فيها هي الردّة السياسية الاجتماعية، التي تعني خيانة الأمّة والالتحاق بمعسكر الأعداء[55] .
إنّ على الواعين من أبناء الأمّة أن يُشجِّعوا حرّية البحث العلمي في المجال الديني، وأن يحموا حرّية التعبير عن الرأي، وأن لا يستغلهم بعض المتزمِّتين والمغرضين لمواجهة روّاد الإصلاح والتجديد.