مواجهة الوباء الجسمي والوباء الروحي
يواجه الإنسان في هذه الحياة نوعين من الأوبئة، أوبئة تستهدف جسمه، وأوبئة تستهدف البعد الروحي والمعنوي في وجوده.
الفيروسات والأوبئة التي تصيب جسم الإنسان، تهدد حياته بالخطر، وتعبث بصحته، وقد تصيب أجهزة جسمه بخلل دائم، أو تعويق ضار.
المواجهة الشرسة ضد كورمنا
ولا يزال العالم منذ نهاية عام 2019م يخوض مواجهة شرسة ضدّ فيروس كورونا – كوفيد 19، وقد تحملت البشرية خسائر فادحة خلال هذه المواجهة المستمرة حتى الآن، حيث فتك هذا الفيروس بحياة قرابة مليوني إنسان، وعبث بصحة ما يزيد على تسعين مليونًا، وأصاب كل أبناء البشر بالقلق والأذى النفسي، وسلبهم بهجة الحياة.
أما الخسائر الاقتصادية بسبب هذه الجائحة فتقدر بأكثر من (12) تريليون دولار.
وكانت خطة العالم في مواجهة هذا الوباء الخطير تركز على الاحترازات الوقائية، لمحاصرة انتشار هذا الفيروس، بالتأكيد على التباعد الاجتماعي، وارتداء الكمامات، وغسل اليدين، واستخدام أدوات التعقيم.
كما توجه الخبراء في علوم الطب والأحياء لدراسة طبيعة هذا الفيروس وعلاج الإصابة به، وإنتاج اللقاحات التي تعزز مناعة الجسم لمقاومته، ورصدت أضخم الميزانيات لإنتاج هذه اللقاحات وتوزيعها، لأن آمال السلامة والخلاص، وإنقاذ العالم من حال الشلل والاضطراب معلق على تحقيق المناعة عبر هذه اللقاحات، التي أصبح اقتناؤها وتحصين المواطنين بها أولوية الدول والحكومات.
أخذ اللقاء ومتابعة الاحترازات
وهنا نؤكد على أمرين:
الأول: المبادرة لأخذ اللقاح ضد هذا الوباء، بناءً على توجيهات الجهات المختصة والخبراء في المجال الطبي، الذين يؤكدون فاعلية هذا اللقاح وأنه آمن، وعدم الاصغاء للشائعات والكتابات التي تتداول في هذا السياق.
خاصة وأن حكومتنا قامت بجهد كبير لتحصل على الكمية اللازمة من أفضل أنواع اللقاحات، وأعدت برنامجًا رائعًا لتقديم هذه الخدمة لمواطنيها وللمقيمين، وكل من ذهب إلى مراكز التطعيم بهره حسن الإعداد والترتيب وسلاسة الإجراءات، مما تشكر عليه قيادة الوطن والجهة الصحية المكلفة بإنجازه.
الثاني: الاستمرار في رعاية الاحترازات بالتباعد الاجتماعي وارتداء الكمامات، وتجنب التجمعات ضمن القوانين التي لا تزال الجهات المعنية تؤكد عليها، خاصة ونحن نتابع إصابة دول ومجتمعات أخرى بموجات جديدة من هذه الجائحة، وبنسخ متحورة من الفيروس.
إن المواجهة مع الفيروسات الوبائية التي تغزوا الأجسام، يجب أن تلفتنا إلى معركة أخرى كثيرًا ما نغفل عنها، وهي معركتنا ضد الفيروسات الوبائية التي تصيب الأرواح والنفوس.
تلك الفيروسات تتمثل في الرذائل الأخلاقية والاعتلالات النفسية، التي تُفقد الإنسان إنسانيته، وتهمّش عقله ووجدانه، وتهبط به من مستوى أحسن تقويم الذي أراده الله له، إلى أسفل سافلين، حيث ينقاد لأهوائه وشهواته.
إننا ندرك آثار الفيروسات والأوبئة على أجسامنا، وما تسببه من أضرار في حياتنا، لذلك نستنفر جهودنا لمقاومتها، ونسعى لتحصيل المناعة تجاهها.
لكننا نغفل عن خطر الأوبئة الروحية، والأمراض الأخلاقية، مع أنها الأشد ضررًا على وجود الإنسان وحياته، فهي سبب الانحراف والفساد والإجرام والظلم والعدوان في حياة البشر، وهي التي توجب للإنسان الشقاء الأبدي في الآخرة.
وكما أن وجود الفيروسات التي تصيب الأجسام ظاهرة طبيعية، فإن وجود الأوبئة الأخلاقية التي تصيب الأرواح، هو الآخر أمر تقتضيه طبيعة الحياة الدنيا، كدار ابتلاء وامتحان، وساحة تأهيل لتحصيل الكمال الروحي والمعنوي.
الاحترازات والمناعة الروحية
وهنا تبدو أهمية الاحتراز عن الذنوب والمعاصي وتعزيز المناعة الروحية لدى الإنسان، ليقاوم تسلل الأوبئة الأخلاقية وتوطينها في نفسه، كما هو الحال في أهمية تعزيز المناعة الجسمية لمقاومة الفيروسات والأمراض.
وهذه هي المهمة الأساس للدين والرسالات السماوية، حيث تركز على تزكية النفس وتهذيب الروح، وإحياء الضمير والوجدان، وتفعيل دور العقل.
وحينما يحذرنا الدين من الذنوب والمعاصي والانحرافات الأخلاقية، فلأنها تمثل فيروسات وأوبئة، تنخر في داخل نفس الإنسان وتصيب روحه بالخلل والسقم، فيصدر منه السلوك العدواني والممارسات الاجرامية، التي تفسد حياته، وتضر حياة الآخرين.
ولكي يتحصن الإنسان ضد هذه الأوبئة، يحتاج إلى تعزيز جهاز المناعة الروحية، وذلك عن طريقين:
1/ تقوية إرادته حتى لا تهيمن عليه الشهوات والأهواء.
ورد عن علي : «مَنْ تَسَرَّعَ إِلَى اَلشَّهَوَاتِ تَسَرَّعَتْ إِلَيْهِ اَلْآفَاتُ»[1]
2/الارتباط بالله سبحانه وتعالى، واستحضار رقابته، واستذكار نعمه، والتفكير في المثول بين يديه.
يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ﴾[2]
لاحظ التعبير ﴿طَائِفٌ﴾، والطائف هو الذي يدور حول الشيء.
على الإنسان أن يكون حذرًا سواء تجاه رغبات الجنس، أو المال، أو العدوان والإساءة إلى الآخرين.
نماذج وقدوات
إن المناعة الروحية هي التي عصمت النبي يوسف الشاب المتوقد جمالاً وحيوية من الاستجابة لدواعي الشهوة مفضلاً السجن على ذلك، يقول تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ۖ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ﴾[3]
وهي التي تكمن خلف كلام علي : «وَاللَّه لَوْ أُعْطِيتُ الأَقَالِيمَ السَّبْعَةَ بِمَا تَحْتَ أَفْلَاكِهَا، عَلَى أَنْ أَعْصِيَ اللَّه فِي نَمْلَةٍ أَسْلُبُهَا جُلْبَ شَعِيرَة مَا فَعَلْتُهُ»[4].
وكذلك ما رواه إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: حَجَجْتُ مَعَ عَلِيِّ بْنِ اَلْحُسَيْنِ، فَالْتَاثَتْ [اي ابطأت في سيرها] عَلَيْهِ اَلنَّاقَةُ فِي سَيْرِهَا، فَأَشَارَ إِلَيْهَا بِالْقَضِيبِ، ثُمَّ قَالَ: «آهِ لَوْ لاَ اَلْقِصَاصُ»، وَرَدَّ يَدَهُ عَنْهَا[5].
هناك حوادث لسائقي سيارات أجرة، أو عمّال محدودي الدخل يجدون مبالغ كبيرة من المال أو مقتنيات ثمينة، ينساها أو يغفل عنها أصحابها، فيتورعون عن أخذها، ويبحثون عن أصحابها، ليردوها إليهم، أو يسلمونها للجهات المعنية مع فقرهم وإمكانية تصرفهم بها.
بينما تجد في المقابل أشخاصًا موظفين في مستويات متقدمة، يخونون الأمانة ويمارسون الفساد، ويسرقون من ثروات الوطن، ويأخذون الرشاوي من المواطنين بغير حق.
كما أشارت هيئة الرقابة ومكافحة الفساد أنها باشرت عددًا من القضايا الجنائية لمسؤولين في مواقع مختلفة من مؤسسات الدولة تورطوا في قضايا الفساد، إن الفارق بين هذين الصنفين من النماذج هو مستوى المناعة الروحية، فحين تتضاءل ينزلق الإنسان إلى الانحراف والفساد، وحين تكون قوية يتسامى الإنسان على الاغواء والاغراء.