الغَيْرة حصانة أخلاقية
تطور الحياة الاجتماعية قد يثير تحدّيات أمام القيم الدينية والأخلاقية.
ولا يمكن إيقاف تطور الحياة، كما لا يصح التنازل عن القيم ذات المنشأ الديني والأخلاقي.
والمعالجة تكمن في استيعاب تلك التحديات، عن طريق تحديث فهم القيم وإعادة تموضعها في السلوك الاجتماعي.
فقد نكتشف أنّ بعض القيم لا تمتلك سمة الثبات والاستمرار، وإنما هي صالحة لظروف اجتماعية محددة، أو أنّ بعضها من سنخ العادات والتقاليد الاجتماعية، وليس ضمن القيم الدينية والأخلاقية الثابتة.
وفي مجال القيم الدينية والاجتماعية الثابتة قد نحتاج إلى تطويرٍ وتغييرٍ في صيغ الالتزام أو التطبيق، يناسب التكيف مع تطورات الحياة.
العلاقات بين الجنسين
في عصرنا الحاضر فرضت تطورات الحياة على مجتمعاتنا حال الانفتاح والتداخل في العلاقات بين الجنسين الرجال والنساء، بعد أن كان السائد حال الانفصال والتباعد بين الجنسين في الحياة العامة.
بل في بعض الأوساط كانت هناك مبالغة وتشدد على هذا الصعيد، حتى لا تكاد ترى المرأة خارج منزلها، انطلاقًا من آراء دينية أو تقاليد اجتماعية، فالسيد اليزدي (ت: 1337هـ) مثلًا يذكر في العروة الوثقى المسألة التالية: يستحبّ حبس المرأة في البيت، فلا تخرج إلّا لضرورة، ولا يدخل عليها أحد من الرجال[1].
أما الآن فقد أصبح حضور المرأة واقعًا مشهودًا في مختلف ميادين الحياة، فلا تكاد تجد مجالاً لا يلتقي فيه أفراد الجنسين، في التعليم والعمل والسوق والمستشفى وفي كلّ المجالات والساحات. وهنا يكمن التحدّي في مجال الالتزام ببعض الأحكام الدينية والمبادئ الأخلاقية.
ومنها مسألة الغَيْرة وهي نزعة فطرية وقيمة أخلاقية.
الغَيْرة وأجواء الانفتاح
وقد عرّفوا الغَيْرة بأنها: مشتقة من تغيّر القلب، وهيجان الغضب، بسبب المشاركة فيما به الاختصاص. وأبرز تجلياتها خصوصية العلاقة العاطفية، حيث يرفض الرجل تطفل أيّ شخصٍ آخر على ساحة العلاقة العاطفية مع زوجه وقريباته. كما يزعج المرأة وجود أيّ علاقة عاطفية لزوجها بامرأة أخرى.
وكانت الأجواء الاجتماعية مساعدة على حماية هذه الخصوصية في الظروف السابقة، حيث التباعد والانفصال في العلاقة بين الجنسين. أما الآن فإنّ حال الانفتاح والتداخل في العلاقات بين الجنسين خلق أجواءً أخرى مختلفة، قد تحصل منها علاقات عاطفية تثير الغيرة عند الرجل والمرأة.
وحصلت على أثر ذلك مشكلات أدت إلى خراب بيوت، وانهدام كيانات زوجية، حين يطلع أحد الزوجين على علاقة عاطفية لزوجه بطرف آخر، أو حتى بظنّ وجود مثل تلك العلاقة. وفي بعض المجتمعات تحصل على أثر ذلك جرائم قتل تحت عنوان الدفاع عن شرف العائلة، ويطلق عليها (جرائم الشرف).
الغَيْرة قيمة أخلاقية
أولًا: أصل الغَيْرة على العرض والشرف أمر مطلوب، فالدين لا يمانع العلاقة العادية الطبيعية بين الرجل والمرأة الأجنبيين، على مستوى التحادث أو الزمالة والمشاركة في أداء الأعمال والمهام، لكنّه يرفض العلاقات العاطفية بين الجنسين خارج الإطار الشرعي، وهي تشوّش على خصوصية العلاقات الزوجية وتربكها، وتسبب اضطرابها وانهيارها.
فقد ورد عن النبي أنه قال: فَأَمَّا الْغَيْرَةُ الَّتِي يُحِبُّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَالْغَيْرَةُ فِي الرِّيبَةِ[2].
وعنه : إنَّ الغَيْرةَ مِن الإيمانِ[3].
وعنه : إنَّ اللّه َ يُحِبُّ مِنْ عِبادِهِ الغَيُورَ [4].
وورد عن علي أنه قال: مَنْ لاَ يَغَارُ فَإِنَّهُ مَنْكُوسُ اَلْقَلْبِ[5].
ويقول الشاعر القروي:
إنّي كريم أحبّ المال مشتركًا لكن غيور أحبّ الحسن محتكرًا
الغَيْرة المبغوضة
ثانيًا: الغيرة كأيّ صفة من الصفات الحسنة مطلوبة في وضعها الطبيعي، وضمن حدود الاعتدال، إما إذا تجاوزت الحدّ فإنها تنقلب إلى ضِفّة المساوئ، وتصبح مرضًا يفتك بسلامة علاقات الإنسان مع محيطه الأسري والاجتماعي.
لذلك لا بُدّ من الابتعاد عن سوء الظنّ وعدم ممارسة التجسّس، وعدم المبالغة في التحسّس من أيّ علاقة طبيعية، وخاصة ضمن ما نعيش من أجواء مفتوحة فرضت التداخل والتواصل بين الجنسين.
وحينما يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا﴾[6]، فإنّ النهي عن سوء الظنّ والتجسّس يشمل مجال العلاقات الزوجية والأسرية.
وقد نصّت إجابات الفقهاء على سؤال وجه إليهم بخصوص تفتيش هاتف (موبايل) الزوج أو الزوجة، بأنه: غير جائز وأنّ حُرمة التجسّس سارية المفعول بين الزوج وزوجته أيضًا.
كما جرّم القانون السعودي الزوج والزوجة في حال التجسّس على هاتف الآخر بطريقة غير مشروعة ضمن لائحة الجرائم المعلوماتية.
وبشكل واضح فإنّ رسول الله يؤكد أنّ الغَيْرة خارج حدودها الطبيعية يبغضها الله تعالى، يقول : وَأَمَّا الْغَيْرَةُ الَّتِي يُبْغِضُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَالْغَيْرَةُ فِي غَيْرِ رِيبَةٍ[7].
إنّ المبالغة في الغَيْرة والخروج بها عن الحدّ الطبيعي، يحولها عن مسارها الإيجابي، لتصبح ذات أثر سلبي تدفع نحو الانحراف بدل أن تحصّن منه، وإلى ذلك يشير ما جاء في وصايا الإمام علي لابنه الحسن : إِيَّاكَ وَاَلتَّغَايُرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ اَلْغَيْرَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَدْعُو اَلصَّحِيحَةَ مِنْهُنَّ إِلَى اَلسَّقَمِ[8].
حافز العفة
ثالثًا: إنّ الغَيْرة يجب أن تدفع الإنسان إلى العفة، فمن يكره تطفّل الآخرين على عرضه، عليه أولًا أن يكفّ هو ويتعفّف عن أعراض الناس، لتكون غيرته صادقة، تنعكس على من حوله، ويكرّس بذلك سلوك العفاف في مجتمعه.
إما أن ينفتح هو في علاقاته مع بنات الناس في عمله وحركته، لكنّه ينزعج من انفتاح الآخرين على زوجه وقريباته، أو أن تنفتح المرأة في علاقاتها مع زملائها في الدراسة والعمل، ثم تغضب لانفتاح أخريات على زوجها، فذلك نوع من ازدواجية الشخصية، والكيل بمكيالين، كما أنه يشيع حالة الابتذال والانحراف في المجتمع.
إنّ حرص الإنسان على سلامة عرضه يستلزم الشعور بحرص الآخرين على سلامة أعراضهم، مما يعني التزامه بالعفة والورع تجاه أعراض الناس، وهذا هو مفاد درس تربوي قدمه رسول الله لأحد الشباب فقد ورد عن أبي أمامة الباهلي: أَنَّ فَتًى شَابًّا أَتَى النَّبِيَّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا.
فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ قَالُوا: مَهْ مَهْ، فَقَالَ : ادْنُهْ، فَدَنَا مِنْهُ قَرِيبًا، قَالَ: فَجَلَسَ. قَالَ : أَتُحِبُّهُ لأُمِّكَ؟ قَالَ: لا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ. قَالَ: وَلا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لأُمَّهَاتِهِمْ. قَالَ: أَفَتُحِبُّهُ لابْنَتِكَ؟ قَالَ: لا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ. قَالَ : وَلا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ. قَالَ : أَفَتُحِبُّهُ لأُخْتِكَ؟ قَالَ: لا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ. قَالَ: وَلا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لأَخَوَاتِهِمْ. قَالَ : أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ؟ قَالَ: لا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ. قَالَ: وَلا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ. قَالَ: أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ؟ قَالَ: لا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ. قَالَ: وَلا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ. قَالَ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ وَقَالَ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ، وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ، فَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ[9].
وفي هذا السياق ورد عن علي أنه قال: دَلِيلُ غَيْرَةِ اَلرَّجُلِ عِفَّتُهُ[10].
وعنه : مَا زَنَى غَيُورٌ قَطُّ[11].
إنّ التزامك بسلوك العفة يشكل مساهمة في صنع أجواء العفاف في المجتمع، وهو ما يوفر الحماية والحصانة لعرضك، كما ورد عن الإمام جعفر الصادق : عِفُّوا عَنْ نِسَاءِ اَلنَّاسِ تَعِفَّ نِسَاؤُكُمْ[12].
العفاف تربية ومسلك
رابعًا: من المهم التذكير بقيم العفاف والتربية عليها، وتوفير الاحترام والإشباع العاطفي في إطار العائلة، فإنّ من أسباب الانحراف والأخلاقي ضعف الاحتواء والإشباع العاطفي عائليًّا، مما يفسح المجال للبحث عن الإشباع العاطفي خارج الأسرة.
إنّ الفتاة التي لا تجد احترامًا ومحبّة كافية من أهلها، قد تستجيب لأيّ مشاعر عاطفية انتهازية، وكذلك الزوج التي لا تجد الاحترام والاهتمام العاطفي من زوجها، والزوج الذي لا يجد الاهتمام من زوجه.
إنّ الغَيْرة على العِرض يجب أن تكون دافعًا لتحصين أفراد الأسرة بالوعي السليم، والتنشئة الأخلاقية، وتعزيز الثقة بالنفس، فذلك هو ما يصدّ محاولات الاختراق العاطفي ويمنع الانحراف السلوكي، ويصنع الوقاية من سلبيات الأجواء المفتوحة.