الاغتراب النفسي.. أزمة الإنسان المعاصر
يتحدث علماء النفس عن ظاهرة يطلقون عليها (الاغتراب النفسي) ويعتبرونها واحدة من أخطر أزمات الإنسان المعاصر، حيث يشعر الإنسان بالانفصال عن ذاته، أو عن الآخرين والواقع الذي يعيش فيه، أو عن كليهما.
في معنى الاغتراب
والمعنى اللغوي المعروف للاغتراب، هو: ابتعاد الإنسان ونزوحه عن وطنه، فهناك انشداد وانجذاب في نفس الإنسان لوطنه، ولا يبتعد وينزح عنه عادة إلا لظروف وأسباب، وحينما يبتعد عن وطنه يبقى الحنين والانجذاب في أعماق نفسه، ويشعر بمنطقة فراغ في أحاسيسه ومشاعره.
ويبدو أن هذا هو منشأ الاستعارة في علم النفس لهذا المصطلح، فهناك وضع نفسي طبيعي يفترض أن يكون الإنسان فيه، بأن ينفتح على جميع أبعاد شخصيته الإنسانية، ويمارس حياته ضمن تفاعل كل تلك الأبعاد في شخصيته.
ذلك أن للإنسان بعدًا روحيًا يتميز به عن سائر المخلوقات، فهو كائن عاقل ينطوي على ضمير ووجدان، ومشاعر وأحاسيس، فإذا ما تجاهل كل ذلك، وانحصر اهتمامه في البعد المادي والرغبات الجسمية، فإنه ينفصل ويبتعد عن البعد الأهم والمتميز في وجوده، وهذا من أجلى مصاديق الاغتراب عن الذات.
ولنرى ماذا يحدث للإنسان حينما يهمل البعد الروحي الإنساني في شخصيته، ويستغرق اهتمامه في البعد المادي والرغبات الجسمية:
دوّامة الرغبات المادية
أولا: تستدرجه هذه الرغبات إلى مالا حد له، فكلما لبى رغبة تولدت له رغبات أخرى، وكلما نال مكسبًا طمح في زيادة المكاسب.
كما ورد عن رسول الله : «لَوْ أنَّ لِابْنِ آدَمَ مِثْلَ وادٍ مالًا لَأَحَبَّ أنَّ له إلَيْهِ مِثْلَهُ، ولا يَمْلَأُ عَيْنَ ابْنِ آدَمَ إلَّا التُّرابُ». [صحيح البخاري، ح 6437]
وورد عن الإمام جعفر الصادق : «مَثَلُ الدُّنْيَا كَمَثَلِ مَاءِ الْبَحْرِ كُلَّمَا شَرِبَ مِنْهُ الْعَطْشَانُ ازْدَادَ عَطَشاً حَتَّى يَقْتُلَهُ». [الكافي: ج2، ص136]
وهذا ما يعيشه الإنسان في ظل الحضارة المادية الحديثة حيث تحول إلى مجرد رقم في حسابات الإنتاج والاستهلاك، ضمن معادلة تسود المجتمعات، شعارها: (أنتجوا أكثر، لكي تستهلكوا أكثر، ثم لكي تنتجوا أكثر).
إنه يعمل ويكدح لاهثًا من أجل توفير أكبر قدر من المكاسب والمال، ليكون أقدر على الصرف والاستهلاك، ومن ثمَّ ينمّي قدرته على العمل والإنتاج، وهكذا يدور كحمار الطاحونة في دوامة مفرغة.
أما إنسانيته بما تعنيه من مشاعر واحاسيس، وما تنطوي عليه من ضمير ووجدان، وما يدور في أعماقه من تساؤلات حول مبدأ وجوده، وغاية خلقته، ومصير حياته، وموقعه في هذا الكون والحياة، فإن التفكير في ذلك لا تتاح له الفرصة، ولا يتسع له الوقت، ولا يدخل في برمجة اهتمامات الإنسان التي تتقاذفها الحاجات والرغبات، وضغوط الحياة وتجاذباتها المختلفة.
والثقافة التي تضخها هذه الحضارة بوسائلها المتطورة، إلى ذهن الإنسان المعاصر، هي ثقافة أُحادية البعد، تُعنى بالحاجات والرغبات البيولوجية الجسمية، فتحرّض الرغبات والشهوات، وتثير دوافع الملذات الاستهلاكية، لتسويق المنتجات، وتحريك عجلة الاقتصاد، وزيادة أرباح المصانع والشركات، وارتفاع قيمة أرصدتها وأسهمها في بورصات التداول.
وهكذا (أصبحت الحضارة الراهنة أزمة، أو مرضًا، يجول بين المرء (الفرد) وقلبه وعقله). [الاغتراب في الشعر الكويتي، ص26]
انتقال الصراع الخارجي إلى داخل الذات
ثانيا: قد لا تستجيب ظروف الواقع الذي يعيشه الإنسان المادي لتلبية حاجاته ورغباته، وهنا يكون ضغط الرغبات وأسرها سببًا لتأزمه النفسي، وينتقل صراعه مع الواقع إلى داخل ذاته، ومع الخواء الروحي يعيش مستوى من التوتر والسخط النفسي، وقد يتفاقم فيَصِلُ إلى حال الاضطراب والإحباط، الذي تنشأ منه مختلف الأمراض النفسية الفتّاكة.
كما يقول تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا﴾
وهذا ما تعاني منه المجتمعات المعاصرة، حيث تنتشر الازمات والأمراض النفسية، كالقلق والاكتئاب والاغتراب النفسي، وانفصام الشخصية، وسائر ما يطلق عليه أمراض العصر، كما تتصاعد أرقام حالات الانتحار، والادمان على المخدرات، وحوادث العنف الناشئة من الأزمات النفسية.
الأنانية المفرطة والعدوانية
ثالثًا: البعد الآحادي المادي في شخصية الإنسان يعزز الأنانية المفرطة في نفسه، فهو لا يهتم بغير ذاته، مما يدفعه لكسب المصالح والمطامع على حساب الآخرين من محيطه الاجتماعي، ومن أبناء جنسه البشري، فيمارس العدوان والظلم على الآخرين، وقد يتحول إلى وحشٍ مفترس بعيدًا عن الروح الإنسانية، وكثيرًا ما تتحدث التقارير عن جرائم تصفها بالوحشية تحصل في الصراعات والحروب، على أساس أنها ممارسات من طبيعة الوحوش وليس البشر، وذلك يشكل أنموذجًا صارخًا لانفصال الإنسان واغترابه عن إنسانيته.
إن التوجهات المادية البعيدة عن القيم الإنسانية، ترفع حدة التنافس على المصالح والمكاسب المادية بين بني البشر، وتدفعهم للصراع والاحتراب فيما بينهم. والأكثر خطرًا وسوءًا هو تسويغ هذه الثقافة المادية للاستثمار في الحروب والصراعات، وتشجيع مبرراتها، وخلق الظروف المنتجة لها، لأهداف مصلحية تجارية، حيث أصبحت تجارة السلاح هي الأعلى دخلًا في العالم المعاصر.
إفساد بيئة الحياة
رابعًا: وتمتد الآثار السلبية لهذا التوجه المادي الآحادي للإنسان، لتؤثر على سلامة البيئة والطبيعة التي تحتضن الإنسان، فالأولوية لتحقيق المزيد من المطامع والأرباح، ولو اقتضى ذلك إفساد المناخ والبيئة، والتأثير على طبقة الأوزون، وتلويث الهواء ومياه المحيطات والبحار، وإتلاف الغابات.
نقد من داخل الحضارة
وقد تعالت أصوات المفكرين الإنسانيين من داخل مراكز وعواصم الحضارة الغربية، محذرةً من خطورة هذا المسار على المجتمعات البشرية، ومستقبل الحياة على وجه الأرض، داعيةً إلى كبح جماح هذه الاندفاعة المادية الجارفة، والعودة بالإنسان إلى حضن إنسانيته.
وتتحدث التقارير عن تنامي حالة الإقبال على الدين في المجتمعات الغربية، واعتناق أعداد متزايدة للإسلام ولديانات أخرى، وهو مؤشر على إدراك مخاطر حالة التصحّر الروحي والخواء النفسي الذي تعانيه تلك المجتمعات.
رسالة الدين
لذلك جاءت الرسالات الدينية لتذّكر الإنسان بإنسانيته، ولتثير وجدانه وفطرته، فيفكر في مبدئه ومعاده، ويرتبط بخالقه، وهنا يحقق التوازن بين أبعاد شخصيته المادية والروحية، وينضبط سلوكه ضمن معايير القيم الأخلاقية.
إنها تدعو الإنسان لأخذ زمام المبادرة في الانفتاح على ذاته، وتقويم توجهاتها، ليتصالح مع ذاته الواقعية، فيكون منسجمًا مع ضميره ووجدانه، متصلًا بربه وخالقه، وذلك ما يمنحه الشعور بالأمن والاستقرار، ويجعله أقرب للسعادة والهناء، يقول تعالى: ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾.
إن التوجه المادي الآحادي يؤدي إلى أن ينسى الإنسان نفسه ويضيعها، وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّـهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ﴾
ومن هنا تأتي أهمية التذكير بالبعد الروحي في شخصية الإنسان، من خلال الموعظة الدافعة لاستحضار ذكر الله تعالى، وذكر المصير الذي ينتظر الإنسان نهاية حياته.
فهذا هو ما يحيي شخصية الإنسان، كما ورد عن الإمام علي : «أَحْيِ قَلْبَكَ بِالْمَوْعِظَةِ». [نهج البلاغة: الكتاب 31]
وهذه مهمة أساس للخطاب الديني الذي يجب أن يركز على تزكية النفس وتحريرها من أسر الشهوات والأهواء، والإصغاء لصوت الضمير والوجدان، والتطلع للارتقاء والسمو الروحي.