انتشار الجريمة: الأسباب والمعالجات
لا يخلو مجتمع من المجتمعات البشرية من حالات انحراف تظهر بين الفينة والأخرى على سطحه، بعضها فردي والآخر جماعي، وتكشف تلك الحالات عن وجود خللٍ ما في بنية المجتمع، فهي كالأعراض المرضية التي تشير إلى وجود المرض، وقد تحتاج كلّ حالة من الحالات إلى تشخيص طبيعتها لمعرفة نوع المرض الذي يدفعها للظهور.
واللافت للنظر في مجتمعنا المسلم والمحافظ أن تظهر حالات من الانحراف الخطرة، وأن يتوالى حدوث تلك الحالات فتتحول إلى ما يطلق عليه الظاهرة، واللافت جدًّا أن يصبح القتل ظاهرة، وأن يصبح اللجوء إلى وسائل العنف والإيذاء ظاهرة.
إنّ من الممكن أن يكون لبعض حالات القتل والاعتداء على النفوس بالجرح أو الإصابة عوامل وأسباب قوية.
ولكن ما ينذر بخطورة هذه الظاهرة أن تكون الأسباب المؤدية إلى حدوثها أسبابًا واهية وضعيفة، كأن يختلف طرفان على مبلغ مادي بسيط فيقتل أحدهما الآخر لأجله، أو يؤدي إلى ذلك صراع بسيط بين طفلين، أو مشادة كلامية حول قضية جزئية.
في مثل هذه الحالات ينبغي التعامل مع هذه الظاهرة باهتمام شديد ووعي تام.
ورغم أنّ الحالات التي حدثت في المملكة هي حالات محدودة ومعدومة قياسًا إلى نسبة مثيلاتها في مجتمعات أخرى، غير أنّها تبقى حالات تستدعي منّا ومن المهتمين اخضاعًا للدراسة الموضوعية والتحليل العميق.
ذلك أنّ بلادنا ومجتمعنا ـ في نظر الكثيرين من المجتمعات والشعوب الإسلامية ـ هو الأسوة والقدوة. وفيه الحرمان الشريفان، وفيه مهبط الرسالة وبذرة التوحيد ويشكل مرجعية دينية يتوجه المسلمون شطرها، ويتمتع بسمعة عالية في الأمن الاستقرار الاجتماعي.
من هنا فإنّ مبادرة جريدة البلاد، بطرق هذا الموضع وإثارة النقاش حوله هو جهد طيب ومشكور يكشف عن وعي بالمصلحة العامة للوطن والمجتمع.
من أسباب الظاهرة:
أولًا: الخواء الروحي
فالانغماس الشديد في المادة واللهاث وراء المغانم دونما مراعاة للقيم والمبادئ يحجب قلب الإنسان عن الاستماع إلى نداء الضمير وصرخة القيم التي تنطبق من هذا الواعظ أو ذاك.
ففي جو يسوده الجفاف الروحي والجدب المعنوي لا يستبعد أبدًا أن تحدث هذه الظواهر، ولكنك لن تجد الحالة كذلك لو تكثف حضور القيم وقويت خطوط الاتصال والارتباط مع الله سبحانه وتعالى، حيث يتقلّص دور المادة وضغط الشهوة وسلطة الأنا، وحيث يعلو صوت الحقّ ونداء القيم والمثل.
فالحدود المادية الضيقة حينما تؤطّر الحياة تجعل مساحات التلاقي بين المرء والآخرين ضيقة، وتجعل المتخالفين أقرب إلى التنافر منهم إلى التلاقي.
وربما لذلك نجد أنّ كثيرًا من النصوص الروحية عند المسلمين التي يقرأها الإنسان في حالة الدعاء والانقطاع إلى الله تؤكّد تصحيح هذه الزاوية في النفس البشرية. انظر قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾، وقوله تعالى: ﴿رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ﴾.
ثانيًا: ضعف التوعية والتثقيف
هنالك كثرة الوعاظ والمرشدين في مجتمعنا المسلم، وخصوصًا في المملكة وهو وضع يغبطنا الكثيرون عليه، وهذا الوضع يفترض فيه أن يكون سببًا قويًّا لتجسيد القيم والمبادئ في مجتمعنا، ويفترض في هؤلاء الوعّاظ أن يقوموا بدور كبير لمعالجة المشاكل الحقيقية التي تنشأ في المجتمع.
والملاحظ على حركة الوعظ والإرشاد أنها تحتاج إلى كثير من الجهد والتطوير حتى تستطيع أن تعالج المشاكل المتفاقمة المحلية والواردة التي يعيشها الناس.
فالوعظ بطريقة فوقية أو بأسلوب سطحي لا ينفذ إلى العمق، أو التحدث بلغة المفروضات والواجبات دون مراعاة الصعوبات والمعوقات واستخدام لغة التعنيف أو التكفير وما شابه، كلّ ذلك وغيره يفقد هذا الجانب والجهة التي تتبناه تأثيرها المطلوب، وأكثر من ذلك حيث مرور الزمن تزداد الهوة بين الناس وبين هذه الطبقة. ومن هنا ينبغي على رجال العلم والأئمة والمرشدين أن يطوّروا خطابهم وأساليبهم، وأن يصلوا إلى مستوى القدرة على التأثير والتغيير ومعالجة المشاكل المختلفة للناس، وذلك لا يتحقق إلّا بطرح حلول حقيقية للمشاكل القائمة وخلق ظروف وأطُرٍ مناسبة لمعالجتها، وابتكار لغة خطاب قادرة على جذب الجمهور نحو تحمل المسؤولية والمشاركة الفعالة في تجاوز المشاكل الاجتماعية.
وقد يفرض هذا على الوعاظ والمرشدين أن يتحولوا إلى مؤسسين وشركاء في إرساء مؤسسات اجتماعية تقدم حلولًا منطقية للمشاكل وأن يمارسوا مهمة الوعظ والنصيحة من خلال الجهد العملي لا التنظير والكلام فقط.
ثالثًا: الاحتواء والاستيعاب
في بعض المجتمعات المتقدمة هنالك أجهزة ومؤسّسات قادرة على التعامل مع الانحرافات الصدامية وقادرة على التعامل مع الأشخاص الذين يسلكون العنف من أجل الوصول إلى مآربهم وبعض المؤسسات تعمل على سحب فتيل العنف قبل انفجاره، فالخبراء الاجتماعيون والاستشاريون النفسيون والمصحّات العقلية والنفسية وفرق مواجهة المنتحرين، كلّ تلك الجهات تحاول التخفيف والتنفيس من حالات الاحتقان التي قد تنشأ بفعل الإحباط أو مواجهة مشكلة اقتصادية أو اجتماعية أو قد تنشأ من أسباب نفسية أو ظروف أخرى غير معلومة.
لقد بات من الضروري أن يكون في كلّ مجتمع جهات استشارية يلجأ إليها الناس حينما يشعرون بمواجهة مشكلة ما وتكون مهمتها في الحدود الدنيا، إتاحة الفرصة للناس للتعبير عن مشاكلهم والبوح بما يشعرون به في ذواتهم تجاه أيّ تحدٍّ يواجهونه.
ويمكن أن يقوم بهذه المهمة الأخصائيون النفسيون، والمرشدون الاجتماعيون ورجال العلم الواعون، وأهل الرأي والخبرة في المجتمع.
وإذا كانت الأمور في المجتمعات الأخرى تجري بأسلوب أنّ صاحب المشكلة هو الذي يعرض مشكلته، فإننا قد نحتاج من أهل الرأي والحصافة أن يبدأوا هم بإعطاء المجال لأصحاب المشاكل للتعبير عن معاناتهم.
إنّ مجرّد شعور الشخص بأنّ ثمة جهة ما تستمع إليه وتتفهّم ظروفه ومعاناته، سوف يخفف كثيرًا من وقع المشكلة عليه، ويجعله أكثر اقتناعًا بإمكانية إيجاد حلٍّ مناسب لها.
حسن موسى الصفار
10 ذو القعدة 1421ﻫ