الشيخ الصفار: إعلاء القيم الإنسانية
مضى أكثر من ثلاثين عاماً، منذ أتيحت لي فرصة اللقاء مع سماحة الشيخ الجليل حسن ابن الحاج موسى الصفار. كان اللقاء الأول بالشيخ قد تم على هامش زيارة قام بها مع ثلة من مثقفي مدينة القطيف، للعاصمة الرياض. وحينها زار مقر الموسوعة العربية العالمية، حيث كنت أعمل رئيسا للجنة الضبط والتدقيق والمراجعة الشاملة لها. وفي مساء ذلك اليوم، كان لنا لقاء آخر، في منزل الدكتور أحمد شويخات، المؤسس للموسوعة، ورئيس مكتبها.
في لقاء الرياض، تكشف لي أنني أمام شخصية استثنائية، تملك قدرة سجالية فائقة وآسرة، وتدفقا لغويا غزيرا. وسر قدرة سماحة الشيخ الصفار، كما تبدت لي في لقاءاتي اللاحقة، أنه يقول ما يؤمن ويعتقد به. عالمه الفكري، يخلو من الخزعبلات. ومسألة التقريب بين المذاهب والمكونات الوطنية والاجتماعية لديه، ليست مشروعا بل ضرورة، لتحقيق التكامل بين أفراد المجتمع الواحد، وعلى قاعدة التكافؤ والمساواة، وتغليب الانتماء للوطن.
توالت لقاءاتي بسماحة الشيخ، إثر عودتي من الرياض. ورغم انشغالي بالسفر بشكل مستمر، وحضوري المتقطع بالوطن، كنت أحرص على توفير متسع من الوقت للتشرف بزيارته. ورغم ما هو معروف، من أننا جئنا من مدرستين فكريتين مختلفتين، لكن ذلك لم يكن له أي أثر في المناقشات والمطارحات التي تجري بيينا. فكلانا ينطلق من منبع واحد، هو السعي لإعلاء القيم الإنسانية.
تسامح الشيخ الصفار، في فكره وخطابه لا يأتي أبدا من باب التنازل، بل من اقتناع صادق وشجاع، بأن الصدق والفضيلة، والقيم النبيلة، ليست حكرا على مكون ديني أو مذهبي دون غيره. إنها منظومة من الفضائل العالمية، التي لا ترتبط بمذهب أو دين، بل هي قيم إنسانية عامة. ومن هنا يوسع شيخنا الفاضل نظرته تجاه معنى الانتماء، فينتقل بفكرة الفرقة الناجية، من تشرنق في دين أو مذهب، إلى منهج وسلوك، وذلك ما عبرنا عنه بإعلاء القيم الإنسانية.
لا يكتفي الشيخ الصفار، بتوسيع دائرة النظر في منظومة القيم لتشمل ما هو أبعد من مكون ديني معين، أو جغرافيا محددة، بل يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير، حين يشرح بمبضع جراح ماهر، السردية المذهبية، المروية في مجتمعه، نازعا عنها كثيرًا من الخزعبلات والأوهام، ومحررا إياها من الخرافة. والأمثلة في هذا السياق كثيرة...
ففي بحوثه وخطبه، يعمل سماحة الشيخ، جل جهده، على أنسنة القيم، وتنزيلها من عليائها، مجردا إياها من الإعجاز، وما هو غير إنساني، ذلك أن القيم الفاضلة بالنسبة له، تبقى مجردة، حين لا تتوفر لها بيئة مجتمعية عامة، تجعلها قادرة على التحقق.
لا ينسى الشيخ وظيفته، كداعية ديني، بل يستثمر كل وعيه وممكناته، لتحقيق التماهي والتكامل، بين وظيفتين: وظيفة الداعية الديني، ووظيفة المصلح الاجتماعي، وكلاهما بالنسبة له شيئٌ واحدُ. وفي هذا السياق، تبرز الكاريزما الخاصة بالشيخ، من خلق عال، وقوة حضور وتحمل، وحلم ورحابة صدر، وترحيب بالوافدين والسائلين، ومد يد العون للفقراء والمحتاجين.
أمد الله في عمر شيخنا الجليل، ليواصل رسالته النبيلة، وليعطي المزيد من علمه، وليظل مثلا حيا يُقتدى به بين العلماء ورجال الدين، إنه سميع مجيب.