قبس من حياة الإمام العسكري (ع) وتوجيهاته
عرف الإمام الحسن بن علي الهادي بالعسكري، نسبة إلى المحلة التي أُسكن فيها في سامراء، وهي مكان تجمع الجيش والجند، ولذا يقال له عسكر.
ولد سنة 232 هـ على اختلاف بين المؤرخين، واختلف كذلك على شهر ولادته، ويومه أيضًا.
ولد في المدينة المنورة، لكنه لم يقم فيها إلا سنتين، ثم انتقل مع أبيه الإمام علي الهادي حينما أُشخص من قبل المتوكل العباسي إلى سر من رأى «سامراء»، حيث كانت عاصمة بني العباس، وذلك عام 234 هـ.
بقي طوال حياته في سامراء، تحت الحصار والإقامة الجبرية، ولذلك تعتبر حياته قطعة من الآلام والمعاناة، ولعلّه كان أكثر معاناة من آبائه الطاهرين ، وقد ورد عنه قوله: «مَا مُنِيَ أَحَدٌ مِنْ آبَائِي بِمِثْلِ مَا مُنِيتُ بِهِ». [بحار الأنوار، 75/371]
قضى بعض الأئمة من آبائه الكرام جزءً من أعمارهم في السجون، أو الإقامة الجبرية، ولكن كانت لهم فترات أخرى يعيشون مطلوقي السراح، أما الإمام العسكري فكان طوال حياته تحت الإقامة الجبرية، ناهيك عن الفترات التي قضاها في السجن. استمر هذا الحال معه طوال عمره القصير الذي لم يتجاوز 28 سنة.
تلك السنوات التي عاشها تحت الرقابة والحصار، منعته من لقاء الناس، كان يجبر على الخروج ليحضر قصر الحكم مرتين في الأسبوع، حتى ضمن هذا الطريق كانت الحالة صعبة وحساسة ولذلك كتب لشيعته: «أَلاَ لاَ يُسَلِّمَنَّ عَلَيَّ أَحَدٌ، وَلاَ يُشِيرُ إِلَيَّ بِيَدِهِ، وَلاَ يُومِئُ، فَإِنَّكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ». [بحار الأنوار، 50/269]
هكذا كانت ظروف حياته معاناة في الحصار، ومعانة أخرى في السجون، وكان يُكلَّف به السجانون الأشرار، ففي زمن المهتدي العباسي سجن عند صالح بن وصيف وطلب منه التضييق على الإمام .
يقول صالح بن وصيف: وكلت به رجلين شر من قدرت عليه، ولكنهما بعد أيام بسيطة تحولا إلى عنصرين صالحين، والتزما بالعبادة والصلاة، لأنهما رافقا هذا الإمام العظيم، ورأيا حياته وسيرته.
مرة أخرى سجن عند علي بن أوتامش، وكان شديد العداوة والبغض لأهل البيت ، لكنه بعد فترة أصبح من أكثر الناس بصيرة، ومن أكثرهم مودة وقربًا إلى أهل البيت.
لذلك تجد المعلومات التي يسجلها التاريخ عن الإمام معلومات شحيحة قليلة، أولًا لقصر عمره الشريف، وثانيًا بسبب هذا الحصار والسجن، وبالتالي فقد حرمت الأمة كثيرًا من المعارف والعلوم التي كانت ستكسبها من الإمام . ومع ذلك فقد وصلت إلينا ثروة من توجيهاته ومعارفه.
حقوق الناس واجبة الأداء
من توجيهات الإمام العسكري ما ورد عنه: «أَعْرَفُ اَلنَّاسِ بِحُقُوقِ إِخْوَانِهِ، وَأَشَدُّهُمْ قَضَاءً لَهَا، أَعْظَمُهُمْ عِنْدَ اَللَّهِ شَأْناً». [الاحتجاج، 2/460]
إذا كنت تريد أن يكون شأنك عند الله عظيمًا، ومكانتك كبيرة، فعليك أن تهتم بحقوق إخوانك، وأن تؤدي حقهم، والإخوان هنا أبناء مجتمعك الإيماني الذي تنتمي إليه، لاحظ أن الإسلام يرتقي بحسن العلاقة مع الآخرين من كونها أمرًا كماليًا إلى مصاف الحقوق، حينما تتعامل مع أخيك تعاملًا جيدًا هذا ليس إحسانًا وتفضلًا منك، وإنما هو واجب وحق عليك يجب أن تؤديه، كما لو كان عندك عامل وأعطيته أجرته، فهذا ليس تفضلًا منك بل واجب عليك.
إذا اهتم الناس بأن ينظروا إلى بعضهم بعضًا بهذا الشكل، فسيكونون حريصين على تأدية حقوق بعضهم بعضًا.
ورد عن الإمام جعفر الصادق : «مَنْ عَظَّمَ دِينَ اَللَّهِ عَظَّمَ حَقَّ إِخْوَانِهِ، وَمَنِ اِسْتَخَفَّ بِدِينِهِ اِسْتَخَفَّ بِإِخْوَانِهِ». [بحار الأنوار، 71/287]
حينما تحترم أبناء محيطك الاجتماعي فإنك تحترم دينك، ومجتمعك، والانتماء الذي تشترك معهم فيه.
بينما إذا تهاونت بحقوقهم فإنك تتهاون بدينك وعقيدتك، حتى الناس القريبين منك لا تضيع حقهم لقربهم منك.
ورد عن أمير المؤمنين علي : «لاَ تُضِيعَنَّ حَقَّ أَخِيكَ اِتِّكَالاً عَلَى مَا بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَكَ بِأَخٍ مَنْ أَضَعْتَ حَقَّهُ». [من لا يحضره الفقيه، 4/384]
الحقوق واجبة لكل أحد، وهي من أهم العبادات كما ورد عن الإمام جعفر الصادق : «مَا عُبِدَ اَللَّهُ بِشَيْءٍ أَفْضَلَ مِنْ أَدَاءِ حَقِّ اَلْمُؤْمِنِ». [الكافي، 2/170]
وعنه عن آبائه عن رسول الله ﷺ قال: «لِلْمُؤْمِنِ عَلَى اَلْمُؤْمِنِ سَبْعَةُ حُقُوقٍ «وفي رواية أخرى سبعين حق» وَاجِبَةٍ مِنَ اَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، اَلْإِجْلاَلُ لَهُ فِي غَيْبَتِهِ، وَاَلْوُدُّ لَهُ فِي صَدْرِهِ، وَاَلْمُوَاسَاةُ لَهُ فِي مَالِهِ، وَأَنْ يُحَرِّمَ غِيبَتَهُ، وَأَنْ يَعُودَهُ فِي مَرَضِهِ، وَأَنْ يُشَيِّعَ جَنَازَتَهُ، وَأَنْ لاَ يَقُولَ فِيهِ بَعْدَ مَوْتِهِ إِلاَّ خَيْراً». [وسائل الشيعة، 12/ 208]
وورد عن الإمام موسى الكاظم أنه وقف أمام الكعبة ثم قال: «مَا أَعْظَمَ حَقَّكِ يَا كَعْبَةُ وَ وَ اَللَّهِ إِنَّ حَقَّ اَلْمُؤْمِنِ لَأَعْظَمُ مِنْ حَقِّكِ». [بحار الأنوار، 71/227]
وقال : «مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ كَتَبَ اَللَّهُ لَهُ سِتَّةَ آلاَفِ حَسَنَةٍ، وَمَحَا عَنْهُ سِتَّةَ آلاَفِ سَيِّئَةٍ، وَرَفَعَ لَهُ سِتَّةَ آلاَفِ دَرَجَةٍ، وَقَضَاءُ حَاجَةِ اَلْمُؤْمِنِ أَفْضَلُ مِنْ طَوَافٍ وَطَوَافٍ حَتَّى عَدَّ عَشَرَةً». [بحار الأنوار، 71/227]
هكذا الإسلام يربينا على أن نهتم ببعضنا بعضًا، وأن يحترم ببعضنا بعضًا، فلماذا نحن غافلون عن مثل هذه الأمور، نتهاون في علاقاتنا مع بعضنا البعض، نجهل حقوق بعضنا، ونظن أن هذا أمر سهل وهين.