الثراء والسخاء العاطفي
يقول تعالى: ﴿فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَة﴾. [سورة النور، الآية: 61].
نعرف جميعًا ماذا يعني الثراء والسخاء المادي. فالثراء المادي هو امتلاك القدرة والملاءة المالية، كأن يكون للإنسان دخل وافر من خلال وظيفته أو نشاطه الاقتصادي، وله رصيد كبير في حساباته البنكية، ومشاركاته الاستثمارية، وممتلكاته العقارية.
بين الثراء والسخاء
السخاء المادي هو إنفاق الإنسان مما يملك، وعطاؤه للآخرين من حوله، كأسرته وأقربائه وأصدقائه، ومساعدته للمحتاجين من أبناء مجتمعه، ودعمه للمؤسسات الخيرية، والمشاريع الاجتماعية.
والسخاء هنا لا يلازم الثراء، فهناك أثرياء يبخلون حتى على أنفسهم وعوائلهم، فضلًا عن أبناء مجتمعهم. ويصدق عليهم ما ورد عن أمير المؤمنين علي : «عَجِبْتُ لِلْبَخِيلِ يَسْتَعْجِلُ الْفَقْرَ الَّذِي مِنْهُ هَرَبَ، وَيَفُوتُهُ الْغِنَى الَّذِى إِيَّاهُ طَلَبَ، فَيَعِيشُ فِي الدُّنْيَا عَيْشَ الْفُقَرَاءِ، وَيُحَاسَبُ فِي الاْخِرَةِ حِسَابَ الأغْنِيَاءِ»[1] .
وقد ذكروا أنّ أحد البخلاء طبخ قدرًا، فقعد هو وامرأته يأكلان. فقال: ما أطيب هذا القدر لولا الزحام. قالت زوجته: أيُّ زحامٍ هاهنا؟ إنّما أنا وأنت. قال: كنت أحبّ أن أكون أنا والقدر.
وقديمًا ألّف الباحث الموسوعي عمرو بن بحر الليثي، الشهير بالجاحظ (ت ٢٥٥هـ) كتاب (البخلاء) روى فيه بعض قصص البخلاء وأخبارهم، في أكثر من (390) صفحة.
معنى الثراء العاطفي
هذا عن الثراء والسخاء المادي، أما الثراء والسخاء العاطفي، فهو يعني: وفرة المشاعر والأحاسيس الإيجابية في نفس الإنسان، كالحب والتفاؤل والرضا والثقة وحسنّ الظنّ.
والثراء والسخاء هنا متلازمان، فمن تمتلئ نفسه بالمشاعر الإيجابية، فإنه يفيض بها على الآخرين.
والناجحون والسعداء في حياتهم هم الأكثر ثراءً عاطفيًّا، حتى وإن قلّت امكاناتهم المادية. وهم الأقرب إلى رضا الله تعالى.
إنّ بعض الناس يعيشون فقرًا عاطفيًّا، حيث تنعدم أو تنخفض عندهم المشاعر الإيجابية، فلا يشعرون بالمحبة تجاه الآخرين، ولا ينعمون بالرضا عن أنفسهم وحياتهم، ويفقدون روح التفاؤل والأمل، حيث ينظرون إلى الناس والأشياء من حولهم نظرةً سلبيةً سوداوية.
إنّ الفقر العاطفي أشدّ سوءًا على الإنسان من الفقر المادي؛ لأنه يسبّب التعاسة والأزمات النفسية، ويسلب الإنسان فرص الاستمتاع بالحياة، والشعور بالسعادة والراحة. حتى وإن امتلك الثراء المادي.
وهو من أهم أسباب الفشل في حياة الإنسان، وقد يدفعه إلى العزلة والكآبة. ويبعده عن الله تعالى.
رافد الثراء العاطفي
كما أنّ الثراء المادي يحتاج إلى سعي وبذل جهد لكسب المال والإمكانات، فإنّ الثراء العاطفي يحتاج أيضًا إلى سعي واهتمام من قبل الإنسان، في تهذيب نفسه، وتنمية النزعات والمشاعر الإيجابية داخلها، والاجتهاد في كبح نزعات الأنانية والشر والشح داخل نفسه.
يقول تعالى: ﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾. [سورة الحشر، الآية: 9].
وللتربية الروحية، والثقافة والوعي، والمحيط الاجتماعي، دور كبير في تنمية الثراء العاطفي.
الاهتمام الديني الكبير
إنّ الدين يولي اهتمامًا كبيرًا لتنمية الثراء العاطفي في نفس الإنسان، وتمظهره في سلوكه الاجتماعي، وتعامله مع الآخرين. ويعتبر ذلك جزءًا من العبادة لله تعالى، ومن موجبات الأجر والثواب، ورفعة المقام عند الله في الآخرة.
إنّ نصوص الأدعية الواردة في الآيات القرآنية، وفي الأحاديث والروايات، والأدعية المأثورة المتداولة في أوساط المؤمنين، ترسّخ في نفس الإنسان الاهتمام بالآخرين، وطلب الخير لهم في الدنيا والآخرة، كما يطلب الإنسان ذلك لنفسه. فلا تكاد تجد دعاءً مأثورًا يقتصر على الذات، بل تؤكد النصوص الدينية: أنّ الدعاء للآخرين يجعل الدعاء للذات أقرب للإجابة عند الله.
ورد عن رسول الله : «إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلْيَعُمَّ فَإِنَّهُ أَوْجَبُ لِلدُّعَاءِ»[2] .
وعن الإمام محمد الباقر : «أَسْرَعُ الدُّعَاءِ نُجْحًا لِلْإِجَابَةِ، دُعَاءُ الْأَخِ لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ، يَبْدَأُ بِالدُّعَاءِ لِأَخِيهِ فَيَقُولُ لَهُ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ بِهِ: آمِينَ وَلَكَ مِثْلَاهُ»[3] .
مصاديق السخاء العاطفي
إبداء المحبة والعواطف الإيجابية لمن حول الإنسان، تجلب له رضا الله تعالى. وتجعله أكثر سعادة ونجاحًا في علاقاته بالآخرين.
فعلى الإنسان أن يظهر حبّه لزوجته، ويتحدّث لها عمّا يكنّه في قلبه من محبّتها وعشقها، ورد عن رسول الله : «قَوْلُ الرَّجُلِ لِلْمَرْأَةِ إِنِّي أُحِبُّكِ لَا يَذْهَبُ مِنْ قَلْبِهَا أَبَدًا»[4] .
كذلك ينبغي إظهار أشدّ ألوان الحبّ والحنان والعطف تجاه الأولاد، ذكورًا وإناثًا، فعن الإمام جعفر الصادق : «إِنَّ اللَّهَ لَيَرْحَمُ الْعَبْدَ لِشِدَّةِ حُبِّهِ لِوَلَدِهِ»[5] .
وعليك أن تشعر أخوتك وأصدقاءك بحبّك لهم، فقد جاء عن رسول الله : «إذَا أحَبَّ أحَدُكُم أخَاهُ في اللهِ فليبيّنْ لهُ، فإنّه خيرٌ في الأُلفَةِ، وأبْقَى في المَوَدَّةِ»[6] .
إبداء التحية والسلام
إنّ الآية الكريمة ﴿فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً﴾. [سورة النور، الآية: 61] تأمر الإنسان إذا دخل بيته، أو بيت أحد أقربائه، أو معارف، أن يلقي التحية على من في ذلك البيت.
عَنْ أَبِي اَلصَّبَّاحِ قَالَ: سَأَلْتُ الإمام محمد الباقر عَنْ قَوْلِ اَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿فَإِذٰا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلىٰ أَنْفُسِكُمْ﴾ اَلْآيَةَ، فَقَالَ: «هُوَ تَسْلِيمُ اَلرَّجُلِ عَلَى أَهْلِ اَلْبَيْتِ حِينَ يَدْخُلُ، ثُمَّ يَرُدُّونَ عَلَيْهِ، فَهُوَ سَلاَمُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ»[7] .
وورد عن أمير المؤمنين علي : «إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ مَنْزِلَهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَى أَهْلِهِ يَقُولُ: اَلسَّلاَمُ عَلَيْكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَهْلٌ فَلْيَقُلِ اَلسَّلاَمُ عَلَيْنَا مِنْ رَبِّنَا»[8] .
وجاء عن رسول الله : «إِنَّ أَبْخَلَ اَلنَّاسِ مَنْ بَخِلَ بِالسَّلاَمِ»[9] .
الاهتمام بالآخرين
ومن السخاء العاطفي إظهار الاهتمام بالآخرين.
جاء عن سلمان الفارسي: «دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اَللَّهِ وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى وِسَادَةٍ، فَأَلْقَاهَا إِلَيَّ، ثُمَّ قَالَ، يَا سَلْمَانُ مَا مِنْ مُسْلِمٍ دَخَلَ عَلَى أَخِيهِ اَلْمُسْلِمِ فَيُلْقِي لَهُ اَلْوِسَادَةَ إِكْرَامًا لَهُ إِلَّا غَفَرَ اَللَّهُ لَهُ»[10] .
وروي أنه دَخَلَ عَلَى اَلنَّبِيِّ رَجُلٌ اَلْمَسْجِدَ، وَهُوَ جَالِسٌ وَحْدَهُ، فَتَزَحْزَحَ لَهُ، وَقَالَ: «إِنَّ مِنْ حَقِّ اَلْمُسْلِمِ عَلَى اَلْمُسْلِمِ إِذَا أَرَادَ اَلْجُلُوسَ أَنْ يَتَزَحْزَحَ لَهُ»[11] .
ومن السخاء العاطفي إبداء الابتسامة والكلمة الطيبة.
ورد عنه : «إنَّ تبسُّمُك في وجهِ أخيك يُكْتَبُ لك به صدقةٌ»[12] .
وعنه : «مَنْ كانَ يُؤمِنُ بالله ِ واليَومِ الآخِرِ فَليُكرِمْ جَليسَهُ»[13] .
الإشادة بالإيجابيات والإنجازات
ومن السخاء العاطفي التشجيع والثناء على إنجازات الآخرين.
جاء عن رسول الله : «لا يَشْكُرُ اللهَ مَن لا يَشْكُرُ الناسَ»[14] .
وجاء في وصية للإمام الحسن بن علي عن صفات من يصحبه الإنسان: «وَإِنْ رَأَى مِنْكَ حَسَنَةً عَدَّهَا»[15] .
إنّ من البخل العاطفي عدم امتداح إيجابيات الآخرين، والإشادة بإنجازاتهم.
وأخيرًا فإنّ على الإنسان أن يدخل السرور على قلوب الآخرين.
ورد عن الإمام جعفر الصادق : «أَيُّمَا مُسْلِمٍ لَقِيَ مُسْلِمًا فَسَرَّهُ سَرَّهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ»[16] .
علينا أن نجتهد في بذل مشاعر الحبّ والاحترام في محيطنا الاجتماعي، فذلك ما يزيد في سعادتنا، وسعادة الآخرين من حولنا.