تكريم شيخ الشعراء

أهدىٰ إليَّ مشكورًا الأديبُ الكبير: الأستاذ محمد سعيد الشيخ علي الخنيزي – حفظه الله ورعاه!- الكتابَ التوثيقيَّ لِحفلِ تكريمِه، والذي يحملُ عنوانَ (شيخُ الشعراء – قرنٌ من العطاء)، وسجَّل في إهدائه المكتوبِ علىٰ أُولىٰ صفحاتِ الكتابِ أمَلَهُ في أنْ أُبديَ مرئيَّاتي حولَ فصولِ الكتاب.
واستجابةً لِرغْبَتِهِ الكريمةِ، وأداءً لِبعضِ حَقِّهِ الأدبيِّ، أُبدي هاتيْن المُقارَبتيْن المتواضعتيْن، حولَ المناسَبةِ التي وثَّقها الكتاب.
المقاربة الأُولى: التكريمُ ظاهرةٌ حضاريَّة
تشكَّلتْ في مجتمعِنا حديثًا ظاهرةٌ رائعةٌ، هي ظاهرةُ تكريمِ الشخصيَّاتِ المتميِّزةِ في عطائها العلميِّ والثقافيِّ والاجتماعيِّ، والمؤسَّساتِ الرائدةِ في مجال في مجالِ التنميةِ، بمختلفِ حقولِها.
ويمكنُنا أنْ نؤرِّخَ لِهٰذه الظاهرةِ، بِأوَّلِ مبادرةٍ، في آخِرِ شهرٍ من شهورِ سنةِ 1415هـ، حيثُ كُرِّمَ الأديبُ الراحلُ: أحمدُ بنُ سلمانَ الكوفيُّ، قبلَ وفاته بخمسِ سنواتٍ (تُوُفِّيَ – رحمه الله!- سنةَ 1420هـ).
وقبلَ تكريمِ الكوفيِّ، لم يحصلْ حفلُ تكريمٍ لِأحدٍ من رموزِ المجتمعِ في حياتِه؛ بل كان يُنْتَظَرُ موتُ العالِمِ أو الأديبِ أو الوجيهِ، لتكريمِهِ بالتأبينِ بعدَ وفاتِه، حيثُ تُعْقَدُ المجالسُ لِذِكْرِ محاسنِه، وتَعدادِ فضائلِه، وإعلانِ الحسرةِ علىٰ فَقْدِهِ، وقد يكونُ مُتَجَاهَلًا في حياتِه! وتلك هي سِمَةُ المجتمعاتِ غيرِ الحضاريَّة.
ذُكِرَ في ترجمة الشيخ عبد علي بن جمعة الحويزي (تُوُفِّيَ سنة 1112هـ) صاحبِ التفسير المعروفِ (نُورُ الثَّقَلَيْنِ) وهو من علماءِ الأهوازِ وكان معاصرًا لِلشيخ المجلسيِّ صاحبِ بحارِ الأنوار والحُرِّ العامليِّ صاحبِ الوسائلِ أنَّ تلميذَه السيد نعمةَ اللهِ الجزائريَّ سألَ أحدَ العلماءِ، عن قيمةِ ومستوىٰ كتابِ (تفسيرِ نُورِ الثَّقَلَيْنِ) لِأُستاذِهِ : الشيخِ الحُوَيْزِيِّ، فقال : إنْ كان هٰذا التفسيرُ قابلًا للِاستكتابِ، مشتملًا علىٰ جملةٍ من الفوائد كتبْناه وإلا فلا؟!
فأجابه ذٰلك العالمُ الكبيرُ علىٰ سؤاله، بما يلي :
ما دام مؤلِّفُه حيًّا، فلا تُساوي قيمتُه فلسًا واحدًا، وإذا ماتَ، فأوَّلُ مَنْ يكتبُه أنا!
وهٰذا إخبارٌ عمَّا في الضمير. ثم أنشدَ :
ترى الفتىٰ يُنْكِرُ فضلَ الفتىٰ ما دام حيًّا، فإذا ما ذَهَبْ...
لَجَّ به الحرصُ علىٰ نُكْتَةٍ يكتبُها عنه، بماءِ الذَّهَبْ[1] ![2]
إنَّ تَشَكُّلَ هٰذه الظاهرةِ حديثًا في مجتمعِنا يدلُّ علىٰ تَقَدُّمِ مستوى الوعيِ الاجتماعيِّ، كما يدلُّ علىٰ رُقِيٍّ أخلاقيٍّ؛ لأنَّ من أسبابِ تجاهُل الكفاءاتِ والطاقاتِ انتشارَ نزعةِ الأنانيّةِ والتحاسُد، خاصَّةً في أوساطِ نُخَبِ المجتمع! ومن الطبيعيِّ ألَّا يُبادرَ مَنْ تَسكنُه هٰذه النَّزَعَاتُ، إلىٰ تكريمِ أندادِه ومُنافسيه.
إنَّ البعضَ تمتلئُ نفسُه بِحُبِّ ذاتِه، بِشكلٍ نرجسيٍّ، ويُسيطرُ عليه الغرورُ، وتتضخَّمُ لَدَيْهِ (الأنا)، بحيثُ لا يرىٰ أحدًا غيرَه مستحقًّا لِلمدحِ والتقديرِ؛ بل ينزعجُ ويتذمَّرُ، حينما يُشادُ بآخَرين، وقد يكونُ ذٰلك ناتجًا من شعورٍ عميقٍ بالنقصِ والضَّعْفِ، يستثيرُه ذكرُ كمالِ الآخَرين وتفوُّقِهم.
وقد يشعرُ بعضُ مَنْ يجدُ في نفسِه الكفاءةَ، بِالغَبْنِ، حينما يرىٰ تكريمَ غيرِه من المُبدعين، والحقيقةُ أنَّهُ يجبُ أنْ يَغْتَبِطَ ويفرحَ بذٰلك؛ لأنَّ تقديرَ أيِّ كفاءةٍ في المجتمعِ يُعْتَبَرُ تكريسًا لِمَنْهَجِيَّةٍ صحيحةٍ، إذا تعزَّز وُجودُها، فستشمَلُه بَرَكاتُها وآثارُها، كغيرِه من المؤهَّلين.
إنَّ تكريمَ العناصرِ المتميِّزةِ في كفاءتِها وعطائها ليس أمرً بُروتوكوليًّا شكليًّا لا أهَمِّيَّةَ له! بل إنَّ لِذٰلك آثارًا إيجابيَّةً، وَمُعْطَيَاتٍ كبيرةً نُشيرُ إلىٰ أهمِّها :
أوَّلًا – التكريمُ يُعَزِّزُ تقديرَ الذَّاتِ في نفسِ المُكَرَّمِ، ويجلبُ له الرِّضَا، ويُدخلُ علىٰ قلبِه الراحةَ والسرورَ. ويُشيرُ علماءُ النفسِ، إلىٰ أنَّهُ لا شيءَ يُسعدُ الإنسانَ، كشعورِه بِاهتمامِ الآخَرين به، وَفَرَحُهُ بِهٰذا المكسبِ المعنويِّ أكثرُ من فرحِه بالمكاسبِ المادِّيَّةِ.
وتُشيرُ آياتٌ قرآنيَّةٌ، إلىٰ أهَمِّيَّةِ هٰذا الجانبِ، حتىٰ بالنسبةِ إلى الأنبياءِ عليهم السلام!- مع إخلاصِهم وانقطاعِهم لِله تعالىٰ، إلا أنَّ تكريمَهم يخدمُ رسالتَهم. لِذٰلك، طلبَ نبيُّ الله : إبراهيمُ- عليه السلام!- من الله تعالىٰ أن يجعلَ له ذِكْرًا، وثناءً حسنًا في الأجيالِ اللاحقةِ، كما تُفيدُ الآيةُ الكريمةُ : ﴿وَٱجۡعَل لِّي لِسَانَ صِدۡقٖ فِي ٱلۡأٓخِرِينَ﴾[سورة الشعراء، الآية: 84].
ومن بينِ النِّعَمِ التي يمتنُّ اللهُ بها علىٰ نبيِّه : محمدٍ رَفْعُ ذِكْرِهِ، وهو أبرزُ مصداقٍ لِلتكريمِ والتمجيدِ؛ يقول تعالىٰ : ﴿أَلَمۡ نَشۡرَحۡ لَكَ صَدۡرَكَ * وَوَضَعۡنَا عَنكَ وِزۡرَكَ * ٱلَّذِيٓ أَنقَضَ ظَهۡرَكَ * وَرَفَعۡنَا لَكَ ذِكۡرَكَ﴾ سورة الشرح، الآيتان: 3-4]
ثانيًا – يُحَفِّزُ المُكَرَّمَ لِمُواصلةِ دَوْرِهِ، وزيادةِ عطائه.
وَرَدَ في المستدركِ على الصحيحين، عنه صلى الله عليه وآله : "إذا مُدِحَ المؤمنُ، ربا الإيمانُ في قلبِه"[3] ، أي : زادَ الإيمانُ في قلبِه.
وسمعَ الإمامُ عليٌّ – عليه السلام!- مَدْحَ قَوْمٍ له، فقال : "اللّٰهم! اجعلْنا خيرًا مِمَّا يَظُنُّونَ، واغْفرْ لنا ما لا يعلمون!"[4] .
ثالثًا – يُرَسِّخُ القِيمةَ والصِّفةَ الباعثةَ لِلتكريمِ، في أوساطِ أبناءِ المجتمعِ؛ حيثُ يُصبحُ أُنْمُوذَجًا وَقُدْوَةً، ويتطلَّعُ الآخَرون من خلالِهِ، إلىٰ تَمَثُّلِ تلك القِيمةِ والصِّفةِ، في شخصيَّاتِهم وسلوكِهم.
لِذٰلك، تتنافَسُ المجتمعاتُ المتحضِّرةُ، في تكريمِ أبنائها المبدِعين، وَرُوَّادِ العملِ الاجتماعيِّ؛ بل تَعَدَّتْ ذٰلك، لِتكريمِ المتميِّزين والمبدِعين، على المستوى العالَميِّ، كجائزةِ (نوبلَ) التي أسَّسها الصِّناعيُّ السُّوِيدِيِّ (ألفريد نوبل)، عام 1895م، وتُمْنَحُ كلَّ عامٍ، في العاشرِ من ديسمبر، لِأفضلِ المتميِّزين، من مختلفِ دُوَلِ العالَمِ، في مجالِ الفيزياءِ، والكيمياءِ، والأدبِ، والسلامِ، والاقتصادِ، ويُعطى الفائزُ مبلغَ 1.25 مليونِ دولارٍ. وقد حَظِيَ بِهٰذه الجائزةِ حتى الآنَ أكثرُ من 880 مكرَّمًا، من 27 بلدًا.
وفي المملكة العربية السعودية، هناك عِدَّةُ جوائزَ عَالَمِيَّةٍ، كجائزةِ الملك فيصل العالميَّة، في مجال الدراساتِ الإسلاميَّةِ، واللغة العربية، والأدب، والطبِّ، والعلومِ، وخدمة الإسلام. وقد كرَّمتْ منذ عام (1979م) 275 فائزًا، من 43 جنسيَّةً.
وتأسَّستْ في مجتمعِنا المَحَلِّيِّ (جائزةُ القطيفِ لِلإنجازِ) عام 2008م التي نأملُ أنْ يتجدَّدَ نشاطُها، ويتَّسعَ دَوْرُهَا، بِتعاوُنِ المُواطنين الواعين.
وقد شهدْنا في السنواتِ الأخيرةِ تكريمَ عددٍ من الكفاءاتِ العلميَّةِ والأدبيَّةِ، وَرُوَّادِ العملِ الاجتماعيِّ، والشخصيَّاتِ المِعطاءةِ، في المجالاتِ المختلفةِ، من أبناءِ المجتمع.
نأملُ استمرارَ هٰذه الظاهرةِ الرائعةِ، واستثمارَها اجتماعيًّا، بِتعزيزِ القِيَمِ والصِّفاتِ المستوْجِبةِ لِلتكريمِ، وأنْ تتحوَّلَ مبادَراتُ التكريمِ، إلىٰ حالةٍ مؤسَّسيَّةٍ، وَتُرْصَدَ لها مَوَارِدُ ماليَّةٌ، وأوْقافٌ خاصَّةٌ بها، كما هو الحالُ في المجتمعاتُ الأُخرىٰ؛ فكلُّ الجوائزِ العَالَمِيَّةِ تعتمدُ علىٰ تمويلٍ مُستدامٍ، من أوْقافٍ خاصَّةٍ، أو مِنْ ميزانيَّةِ الدَّوْلَة.
ونتفاءلُ أنَّ مستوى الوعيِ والعطاءِ في مجتمعِنا يُؤَهِّلُ إلىٰ مستوىٰ تحقيقِ هٰذه التَّطَلُّعَاتِ، وأكثرَ، إنْ شاء الله.
المقارَبة الثانية: استكمال التكريم
إذا كانت القطيفُ قد شهدتْ مؤخَّرًا عددًا من من مناسَباتِ التكريمِ لِشخصيَّاتٍ علميَّةٍ وأدبيَّةٍ واجتماعيَّةٍ، فإنَّ تكريمَ شيخِ الشُّعراءِ : الأستاذ محمد سعيد الخنيزيِّ الذي أُقِيمَ بتاريخ 2/11/1443هـ الموافق 1/6/2022م في قصر الغانم لِلمناسَبات بالقطيف كان حفلًا مُمَيَّزًا بِالحضورِ الحاشدِ والنَّوْعِيِّ، حيثُ ضَمَّ عددًا كبيرًا من العلماءِ والأُدباءِ، والأكاديميِّين والمثقَّفين، ورجالِ الأعمالِ والشخصيَّاتِ الاجتماعيَّةِ، من مختلفِ رُبوعِ القطيفِ، ومن مناطقِ الدَّمَّامِ، والخُبَرِ، والأحساءِ...
... كما تميَّزَ بِالمستوى الرفيعِ لِلمشارَكاتِ الأدبيَّةِ التي تضمَّنَها برنامجُه، من قِبَلِ نُخبةٍ من الشعراءِ والأُدباءِ والفُضَلاءِ، سلَّطوا الأضواءَ علىٰ جوانبَ مختلفةٍ من عطاءاتِ الأُستاذِ الخنيزيِّ، وأعمالِهِ الأدبيَّةِ القَيِّمَةِ، وأشادوا بِسِمَاتِ شخصيَّتِه الفاضلة.
ولا شكَّ أنَّ الأُستاذَ الخنيزيَّ حَرِيٌّ بِكُلِّ ذٰلك الثناءِ والتكريمِ؛ بل هو جديرٌ بِما هو أكثرُ وأرفعُ.
وإذا كانت طبيعةُ الحفلِ ومحدوديَّةُ الوقتِ المتاحِ لِلبرنامجِ تقتضي تقليصَ عددِ المشاركين في الإلقاءِ، والاختصارَ والإيجازَ في المادَّةِ المقدَّمةِ، فإنِّي أتطلَّعُ إلىٰ مبادَرةٍ تنبثقُ من الوسطِ الأدبيِّ الثقافيِّ، لِاستكمالِ فكرةِ حفلِ التكريمِ، بِدعوةِ الباحثين لِلكتابةِ عن تجرِبةِ الأُستاذِ الخنيزيِّ، وتناوُلِ أعمالِهِ الأدبيَّةِ، بِالنقدِ والتقويمِ؛ فذٰلك ما يُخَلِّدُ هٰذه التجرِبةَ الرائدةَ، ويجعلُها مصدرَ إلْهامٍ وإثراءٍ لِلجيلِ الحاضرِ، والأجيالِ اللاحقة.
إنَّ جوانبَ مُهِمَّةً في شخصيَّتِه ونِتاجِه الأدبيِّ تستحقُّ الدراسةَ والبحثَ، ومن تلك الجوانبِ : منهجُه في كتابةِ السيرةِ الذاتيَّةِ، والتي أصدرَها في مجلَّديْن، تحتَ عنوانِ (خُيوطٌ من الشَّمْسِ)، وما تضمَّنتْهُ من صُوَرٍ ومَشاهِدَ، عن الحياةِ الاجتماعيَّةِ، ومن توثيقٍ وتحليلٍ لِبعضِ الأحداثِ التاريخيَّةِ، ومن مَواقفَ وانطباعاتٍ، عن عددٍ من الشخصيَّاتِ التي عاصرَها.
ويأتي في هٰذا السِّياقِ كتابُه (العَبْقَرِيُّ المغمورُ) الذي تناولَ فيه سيرةَ وَالِدِهِ الإمامِ الشيخِ عليٍّ أبو الحسنِ الخنيزيِّ، وسِماتِ شخصيَّتِه العلميَّةِ والاجتماعيَّةِ؛ ففيه كثيرٌ من الآراءِ والمعلوماتِ التي تستحقُّ الدراسةَ والنقد.
إنَّهُ ذاكرةٌ ثَرِيَّةٌ لِتاريخِنا المجتمَعيِّ؛ فهو يُحَدِّثُكَ عن بعضِ الشخصيَّاتِ التي مضىٰ علىٰ رحيلِها عُقُودٌ من الزمنِ، وكأنَّهُ يعيشُ معها الآنَ، ويذكرُ لك تفاصيلَ بعضِ الأحداثِ الغابرةِ، وكأنَّها حدثتْ بِالأمسِ القريبِ.. فينبغي استثمارُ وُجُودِهِ – أطالَ اللهُ عُمُرَهُ!- وقد تجاوَز مئةَ عامٍ، وهو لا يزالُ يتمتَّعُ بذاكرةٍ قويَّةٍ، وَذِهْنٍ وَقَّادٍ : مِمَّا يُتيحُ الفرصةَ، لِلاستفادةِ من مخزونِ ذاكرتِه، ومناقشتِه في تقويمِ المعلوماتِ والتحليلاتِ، والانطباعاتِ المرتبطةِ بِالتاريخِ المجتمَعيِّ.
ومن الجوانبِ الجديرةِ بِالبحثِ والتقويمِ منهجيَّةُ الأُستاذِ الخنيزيِّ في النقدِ الأدبيِّ والفكريِّ والاجتماعيِّ؛ فهو في كتاباتِه يُمَجِّدُ النقدَ البَنَّاءَ، ويتحدَّثُ عن آثارِه الإيجابيَّةِ، في ساحةِ الأدبِ والفكرِ، ويقول : لولا النقدُ، لَمَاتَ الأدبُ والفكرُ، وَانْطَوَتِ الحياةُ الفكريَّةُ، وَلَفَّهَا الزمنُ السَّحِيقُ... أنا من الذين يؤمنونَ بِهٰذه الظاهرةِ الفكريَّةِ النقديَّةِ البَنَّاءَةِ؛ فلولا النقدُ، لَمَا عرفْنا شُعراءَ ومفكِّرين خَلَّدَهُمُ النُّقَّادُ، علىٰ صفحاتِ الزمنِ السَّحيق[5] !
وانطلاقًا من هٰذه الرُّؤْيَةِ التي دعا إليها وتبنَّاها، كان لِلنَّقْدِ حُضُورٌ مكثَّفٌ، في كتاباتِه، وقد جَمَعَ بعضَ هٰذه الكتاباتِ، في كتابٍ له بعنوانِ (أضواءٌ من النقد في الأدبِ العربيِّ)، كما لا تخلو مُعْظَمُ كتاباتِهِ، من الممارَسةِ النقديَّةِ، لِرأيٍ في اللغةِ، أو مقولةٍ في الأدبِ، أو تصويبٍ لِمعلومةٍ تاريخيَّةٍ، أو معالَجةٍ لِظاهرةٍ اجتماعيَّةٍ، أو مناقَشةٍ لِموقفٍ من المواقف.
ولم أكنْ أتوقَّعُ أنْ يطالَ قلمُه الناقدُ تجرِبةَ أخيه العلَّامةِ : الشيخِ عبدِ الحميدِ الخطِّيِّ – رحمه الله!- في بعضِ نِتاجِه الأدبيِّ، وبعضِ مرئيَّاتِه ومواقفِه؛ لِمَا أعرفُ من إجلالِه لِأخيه، وتعظيمِه لِشأنِه ومَقامِه؛ فهو أُستاذُه الثاني، بعدَ أبيه – علىٰ حَدِّ تعبيرِه – لٰكنَّ النقدَ في رؤيةِ الأُستاذِ الخنيزيِّ لا يُنافي الإجلالَ والتعظيمَ، ولا يُفسدُ لِلصِّلَةِ وَالوُدِّ قَضِيَّةً، ما دامَ نقدًا موضوعيًّا بَنَّاءً، ضِمْنَ لغةِ الفكرِ والأدب.
وكما كان يُمارسُ النقدَ لِإنتاجِ الأُدباءِ والكُتَّابِ الآخَرين، فإنَّهُ كان يستقبلُ نقدَ الآخَرين لِبعضِ كتاباتِه وإنتاجِه الأدبيِّ، بِرحابةِ صَدْرٍ، وبِاهتمامٍ بالغٍ؛ فلا يتجاهَلُ أيَّ نقدٍ، ولا يتحسَّسُ ولا يتضايَقُ منه، كما يحصلُ عندَ بعضِ الأُدباءِ والكُتَّابِ؛ بل يتفاعلُ إيجابًا مع النقدِ، ويكتبُ مُشيدًا بِالناقدِ، ومناقشًا له في موضعِ نقدِه. وقد أدرجَ بعضَ رُدُودِهِ ومناقَشاتِهِ النقديَّةِ مع ناقِدِيهِ، في كتابِه (أضواءٌ من النقد في الأدب العربيِّ).
كما أنَّ قِصَّةَ الكفاحِ والنجاحِ في حياتِه تُشَكِّلُ مَادَّةً ثَرِيَّةً لِلكتابةِ والبحثِ، وتُقَدِّمُ لِأبناءِ الجيلِ أُنْمُوذَجًا يُقْتَدَىٰ وَيُحْتَذَىٰ، في مواجَهةِ الظُّروفِ الصَّعْبَةِ، ومُعوِّقاتِ التَّقَدُّمِ والرُّقِيِّ؛ فقد تحدَّى الإعاقةَ التي أصابتْ بَصَرَهُ في مُسْتَهَلِّ حياتِه، وكادتْ تتحوَّلُ إلىٰ أزمةٍ، وَعُقْدَةٍ في نفسِه، وأنْ تَحُولَ دُونَ تحقيقِ تطلُّعاتِه المعرفيَّةِ، ومُيولِه الأدبيَّةِ؛ حيثُ استوْلتْ جَاذِبِيَّةُ العلمِ والأدبِ، علىٰ كِيَانِهِ النفسيِّ والعقليِّ، منذُ نُعومةِ أظفارِهِ، بِتأثيرِ تربيتِهِ ونشأتِهِ في أحضانِ وَالِدِهِ الفقيهِ الأديبِ، وفي أجواءِ مدرستِه التَّرْبَوِيَّةِ المتميِّزةِ بِالوعيِ والانفتاحِ، والتَّصَدِّي لِلمسئوليَّةِ الدِّينِيَّةِ والاجتماعيَّة.
لٰكنَّ الأُستاذَ الخنيزيَّ – ومع عُمْقِ ألَمِهِ النفسيِّ؛ لِمَا أصابَهُ والذي عَبَّرَ عنه في كثيرٍ من شِعْرِهِ وكتاباتِه - ... إلا أنَّهُ خاضَ غَمْرَ الكفاحِ، من أجْلِ كسبِ العلمِ والمعرفةِ، واستكمالِ مُقَوِّمَاتِ شخصيَّتِه، وَبَذْلِ أقصىٰ جُهْدِهِ؛ لِمُوَاكَبَةِ تطوُّرِ الثقافةِ والأدبِ، فكتبَ بسيرتِهِ قِصَّةَ نجاحٍ رائدةً، في عالَمِ الفكرِ والأدبِ، وما زالَ – مع تقدُّمِ سِنِّهِ، وما يَعْرِضُ له : من مَشَاكِلَ صِحِّيَّةٍ – يعيشُ الاهتمامَ الدائمَ بِقضايا الفكرِ ، ويُتابعُ إنجازَ بعضِ مشاريعِهِ التي بدأ الكتابةَ فيها؛ فقد سمعتُ من قريبًا انشغالَ ذِهْنِهِ، بِإكمالِ بحثٍ له، عن شأنِ وتاريخِ القضاءِ الجعفريِّ، في القطيف.
وهناك جانبٌ آخَرُ ينبغي تسليطُ الأضواءِ عليه، وهو تجرِبتُهُ في مجالِ المُحاماةِ، بِما تحكيهِ هٰذه التَّجربةُ، من صُوَرٍ في الحياةِ الاجتماعيَّةِ، وأساليبِ التعامُلِ بينَ الناسِ، في قضايا الخِلافِ والنِّزاعِ، وَدَوْرِ القضاءِ، وطريقةِ القُضَاةِ في التعاطي مع الوُكَلَاءِ والمُحامين، وفي إصدارِ الأحكامِ، خاصَّةً مع أخْذِ الاختلافِ الفقهيِّ المذهبيِّ بِعَيْنِ الاعتبارِ، والجانبُ المهمُّ في هٰذا السِّيَاقِ دَوْرُ المُحامي والوكيلِ، ومسئوليَّتُهُ الدِّينِيَّةُ والأخلاقيَّةُ.
لا ريبَ أنَّ في مخزونِ ذاكرةِ الأُستاذِ الخنيزيِّ وفي تَجْرِبَتِهِ الكثيرَ مِمَّا يرتبطُ بِهٰذا الشأنِ، ومن المفيدِ جِدًّا تَنَاوُلُهُ بِالدراسةِ والبحثِ.
هٰذه مُجَرَّدُ نماذجَ من المجالاتِ التي تستحقُّ الدراسةَ والبحثَ، في حياةِ الأُستاذِ الخنيزيِّ. وهناك جوانبُ أُخرىٰ يُمكنُ إضافتُها.
أمَدَّ اللهُ في عمرِ الأُستاذِ! وَمَتَّعَهُ بِالصِّحَّةِ والعافيةِ! وجزاهُ اللهُ خيرَ الجزاءِ علىٰ ما قَدَّمَ من خدمةٍ لِدِينِهِ ومجتمعِهِ وَوَطَنِهِ!
وفي الختامِ، أُعربُ عن شُكري وتقديري، لِكُلِّ مَنْ شاركَ وَسَاهَمَ، في إقامةِ مِهْرَجَانِ التكريمِ، وإصدارِ الكتابِ التوثيقيِّ لِوَقائعِ الحفل.
والحمدُ لله ربِّ العالمين.
حسن بن موسى الصَّفَّار
29 رجب 1444هـ.
21 فبراير 2023م.