في تأبين أبي خالد

 

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

رحمك الله يا أبا خالد، يصادف الليلة ذكرى ميلاد عقيلة الطالبيين السيدة زينب بنت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب "صلوات الله وسلامه عليه وعليها".

وبيني وبين أبي خالد وبين ذكرى السيدة زينب سجل حافل بالذكريات. فقد كنت أعرفه عن بعد، وكانت علاقتي معه في البلد علاقة محدودة، لكن حينما توفقت لمجاورة مقام السيدة زينب "عليها السلام" في الشام، وكان أبو خالد يتردد على تلك المنطقة، حيث كان مُنجذبًا إلى تلك الربوع، لروحانية مقام السيدة زينب، حتى أنه اتخذ هناك داراً لسكناه.

فكانت الفرصة متاحة للاقتراب أكثر من هذا الرجل والتعرف عليه. سنوات طويلة، كان يقضي فيها شهوراً من كل سنة في ضيافة العقيلة زينب "عليها السلام"، وكنا نلتقي ليلاً ونهاراً، وكثيراً ما كان يرافقني أو كنت أرافقه في بعض الزيارات والرحلات، وحضور المجالس والمناسبات.

وقد أدهشتني الشخصية التي يبدو عليها، حيث تبدو عليها البساطة، فحينما تراه وتجلس معه، تراه كأحدٍ الناس لا يُبدي تميّزاً، فلم يكن أبو خالد من أولئك الذين يُشعرون الآخرين بأنهم يفهمون ومثقفون ولا أحد يُدانيهم. كان يتكلم على سجيته وبساطته.

رأيته يحب الناس -كلّ الناس- ولم أسمع منه كلاماً سلبياً ضدّ أحد، بعكس بعض الناس الذين نجدهم ينقلون كلاماً ضد هذا وذاك، أبو خالد كان يتسامى عن مثل هذا الكلام. وحتى لو كان له موقف من أحد يتحدث عنه بموضوعية، وما كان يرضى بالتحامل على الآخرين ولا بإساءة الظن فيهم. وهذه ميزة وهبة عظيمة، كان قلبه نظيفًا لا يحمل ضغينة ولا حقدًا على أحد.

وقد كنا نعيش في الشام وكانت الأجواء مفتوحة، وكنا نتزاور مع أناسٍ من مختلف التوجّهات من إسلاميين وعلمانيين ومسيحيين ومختلف التوجهات، وضمن الدائرة الدينية أيضًا كان هناك توجهات مختلفة، ولا أذكر منه ترددًا أو توقفًا في زيارة أحد.

وحينما كنا نصحبه معنا في بعض الزيارات، لم نكن نجد داعياً لكي نُخبره بنوعية التوجهات التي نذهب لزيارتها، لأنه كان حسن التعامل مع الجميع، إذ يتعامل مع الجميع باعتبارهم بشرًا ولهم كرامة واحترام. ولا أذكر أنه حصل مأزق أو إرباك أو مشكلة في أي لقاءٍ من اللقاءات التي كان يصحبنا فيها، مع اختلاف التوجهات والتيارات والتنوعات.

كان مثقّفاً، ولكن ليست الثقافة الآيديولوجية ولا المعلوماتية، بل ثقافة الروح والأفكار والخلق الجميل.

يقرأ مختلف الكتابات، ومكتبته كانت تحتوي على كتب طه حسين، والعقاد، وتوفيق الحكيم، وكتابات متنوعة. ومن عادته حين يقرأ هذه الكتب أن يأخذ لبّها وجوهرها، وكان إضافةً لقراءة الكتب يستمع للمحاضرات.

وكان -رحمه الله- حسن التعامل مع الناس، وحسن العلاقة مع الآخرين، وهذا هو الإحسان إلى الناس.

ولعلكم تعرفون تلك الطرفة، عن ذلك الرجل الأمي، الذي مرّ على مكتبة ضخمة في النجف الأشرف، ورآها مكتظة بالكتب، وكان لأول مرة يرى هذا العدد من الكتب، لكنه بعد أن نظر إليها قال: إني أعرف كل ما في هذه الكتب. قيل له: كيف؟ قال بلهجته العامية: كلّ هذه الكتب تريد أن تقول: يا إنسان، صِيرْ خوش إنسان، أي كن انسانًا جيدًا.

وهنا ملاحظة مهمّة، حيث أننا نجد البعض من الناس مشحونين بالمعلومات، لكن لا تنعكس على حياتهم.

وكل من تعامل مع أبي خالد وجده مثقفاً على سجيته، من خلال نظرته وتعامله مع الحياة ومع الناس، وكان مفعماً بحب الحياة.

وصادف أن ذهبت معه في بعض الرحلات العائلية أيام الشام، إلى الزبداني وإلى حلب، وإلى تركيا، وإلى مناطق مختلفة، وكان مع كبر سنه مبتهجاً ومفعماً بحب الحياة، يمارس حياته كشاب. ما كان يعترف أنه في سنٍ متقدمة، في العقد السادس أو السابع من عمره، بل كان يوظف وقته طبيعياً، وكان متفاعلاً مع الطبيعة ومباهج الحياة.

وهذه نصيحة مهمة: نحن في مجتمعاتنا يبدو الإنسان في عمر أكبر من عمره. من يكون عمره أربعين سنة، حين تراه تقول: هذا عمره سبعون أو ثمانون سنة. وإذا قارنّا بين الناس في مجتمعنا وبين أبناء بعض المجتمعات الأخرى، نرى هذا الفرق الكبير. لماذا؟ لأننا لا نستمتع بحياتنا، وننطوي على أنفسنا وننزوي. فالواحد منّا حين يتقاعد، يحيل نفسه على التقاعد من الحياة.

يتقاعد الإنسان من وظيفته، نعم، لكن لا ينبغي أن يتقاعد من الحياة. أنتم ترون في البلدان الأخرى كباراً في السن ونساءً وعجائز، يتنزهون ويمشون للرياضة في الشوارع وعلى الشواطئ، ويجلسون في المقاهي، ويمارسون حياتهم مستمتعين مبتهجين.

أما نحن، فتُكبّلنا بعض الأعراف والتقاليد. فتجد الواحد منّا يرى أن وقاره في أن يبدو وكأنه شيخ كبير، حتى ولو كان في مقتبل العمر، يحاول أن يتصنع حياة الكبار في السن، وبذلك يحرم نفسه من التفاعل مع الحياة.

نحن مسؤولون عن أنفسنا، فقد خلقنا الله تعالى لكي نستمتع بحياتنا، وسخّر لنا ما في الكون من أجل أن نعيش مبتهجين. صحيح أننا نحمل همّ الآخرة ونفكر في آخرتنا، لكن من قال لك أن همّ الآخرة يمنع من التفاعل مع الدنيا؟ يقول تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا[سورة القصص، الآية: 77]. لك نصيب من الدنيا، سواءً كان عمرك أربعين أو ثمانين سنة، لا تنسَ هذا النصيب، بأن تبتهج بهذه الحياة.

وحتى في موارد العزاء وفقد الأحبة، نجد أن النصوص الدينية حين تتحدث عن الموت، تنبهنا أن الموت حالة طبيعية. دورة يمر بها الإنسان. فقد كان في عالمٍ ما قبل هذه الحياة، وانتقل إلى هذا العالم، ثم ينتقل إلى عالم آخر.

ديننا لا يعلّمنا أن نعيش الكآبة والحزن، حتى حينما نفقد عزيزاً تتألم نفوسنا وقلوبنا. لكن كما يقول الإمام علي في صفة المؤمن: «اَلْمُؤْمِنُ بِشْرُهُ فِي وَجْهِهِ، وَحُزْنُهُ فِي قَلْبِهِ»[1] . فلا ينبغي لنا أن نعيش حالة الكآبة وحالة الحزن.

ومرّةً عزّى أمير المؤمنين قوماً بميت لهم، فقال: «إِنَّ هَذَا الأَمْرَ [أي الموت] لَيْسَ لَكُمْ بَدَأَ، ولَا إِلَيْكُمُ انْتَهَى، وقَدْ كَانَ صَاحِبُكُمْ هَذَا يُسَافِرُ فَعُدُّوه فِي بَعْضِ أَسْفَارِه، فَإِنْ قَدِمَ عَلَيْكُمْ وإِلَّا قَدِمْتُمْ عَلَيْه»[2] .

هذه هي الحقيقة، الفقيد الراحل كان يتفاعل مع الحياة، ويمارس حياته بحيوية وبهجة، حتى في السنة الأخيرة من حياته، كان يصر على ابنه أن يسافر في رحلة ترفيهية. كان يصرّ على السفر، ليستمتع بحياته.

يبقى جانب آخر لابد من الإشارة إليه: تعامله مع أبنائه، وأسرته، ومع من حوله، فقد كان الصديق لأبنائه، بل كان الصديق لأحفاده. وهذا ما أعجبني كثيراً فيه، وقلّ أن تجد ذلك في كثير من الناس.

كان الفقيد يتعامل مع أولاده ليس كأب يفرض نفسه عليهم، وإنما كصديق، يمازحهم، يضاحكهم، يتناقش معهم، يسايرهم. وهكذا كان حتى مع أحفاده.

وهذه ناحية مهمة: أن يكون الإنسان داخل عائلته مصدر سرور وسعادة لعائلته.

وكما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب : «لاَ يَكُنْ أَهْلُكَ أَشْقَى اَلنَّاسِ بِكَ»[3] . فإذا كنت صاحب أخلاق، وكان عندك إحسان، فابدأ بعائلتك، أسعدهم وكن إيجابياً معهم. ليس فقط أن تتجمّل أمام الناس، وتُظهر نفسك بأخلاقٍ عالية، وإنما ينبغي أن تكون البداية مع عائلتك وأسرتك.

الفقيد الراحل أيضاً كان مهتماً بمجتمعه، ولعلّ بعض رفاقه وزملائه يتذكرون أنه من بداية حياته، بعد أن عمل في شركة أرامكو، أصرّ على أن يُكمل دراسته، واستمر يعمل ويدرس، حتى أنهى الابتدائية في مدرسة أم الساهك.

وكثيرون كانوا في عمره يستعيبون ذلك منه. فمتى ما أصبحت موظّفًا ولك راتب، فلماذا تذهب وتجلس على مقاعد الدراسة كأنك من بعض الأطفال؟ لكنه كان يعرف قيمة العلم والمعرفة.

وأيضاً كانت له مشاركات اجتماعية، ففي الستينيات كانت المنطقة فيها الكثير من المستنقعات، وكانت تعاني من انتشار الملاريا بسبب انتشار البعوض، فتشكّلت لجان أهلية في صفوى وفي سائر أنحاء المنطقة لردم هذه المستنقعات، بالتعاون مع اليونسيف، وكان الفقيد الراحل من الرجال الذين تصدّوا لهذه المهمة.

ولا ننسى دوره في نادي الصفا الرياضي، والرجل الكريم الحاج أبو رامز احمد الحبيب -حفظه الله- يتذكر رفقته معه في النادي، ودوره يومذاك.

هذه مشاعر أحببت إبداءها تجاه الفقيد الراحل. تغمده الله بواسع رحمته، والهم فاقِديه ومحبيه الصبر والسلوان.

حفظ الله أبناءه وأحفاده وأسرته، ليكونوا امتداداً لسيرته الطيبة العطرة في المجتمع.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

 

كلمة سماحة الشيخ حسن الصفار في تأبين المرحوم الحاج محمد حسن آل قريش، بتاريخ 5 جمادى الآخرة 1440هـ الموافق 11يناير 2019م في حسينية المهدية بصفوى.

[1]  نهج البلاغة، حكمة رقم: 333.
[2]  نهج البلاغة، حكمة رقم: 357.
[3]  بحار الأنوار، ج71، ص165.