الشعائر الدينية والسلم المجتمعي
يقول تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا﴾ [سورة الحج، الآية: 40].
الشعائر في كلّ دين، هي العلامات والرموز التي تشعر الناس بالدين في حياتهم، وتدلّ على انتمائهم لذلك الدين.
فهي تعبّر عن حضور الدين في وجودهم، كما تقول: شعرت بالشيء، إذا علمته وفطنت له، وتقول: ليت شعري، أي ليتني علمت. ومن دون الشعائر قد يغفل الناس عن دينهم، إذا بقي مجرّد فكرة مستكنّة في نفوسهم.
والشعائر تكون علامة على انتمائهم الديني، تميّزهم عمّن سواهم، فهي بمثابة العلامة الفارقة لهويتهم الدينية. لذلك يقال: شعار الدولة، أو شعار المؤسسة، وكان للعرب في حروبهم هتافات يتنادون بها في كلّ فرقة من المعسكر، ليعرف بعضهم بعضًا، يطلقون عليها شعارًا.
ممارسة الشعائر حق طبيعي
وإذا كان الانتماء الديني حقًّا طبيعيًّا من حقوق الإنسان، لا يصح سلبه ولا منعه منه، فإنّ ذلك يترتب عليه حقّه في ممارسة شعائره الدينية، وحقّه في الدفاع عنها، كما يدافع عن سائر مصالح وجوده الذاتية.
ومن دون هذا الحقّ قد يفقد أتباع الأديان معالمهم ورموزهم الدينية، بفعل اعتداء الآخرين عليها.
وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة، التي جاءت في سياق تبيين فلسفة الجهاد والدفاع عن الدين.
يقول تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ﴿﴾ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ﴾ [سورة الحج، الآيتان: 39-40].
فقد كان المسلمون في مكة وفي بداية الهجرة للمدينة، يتلقّون اعتداءات المشركين، لا لشيءٍ إلّا لأنهم يعبّرون عن انتمائهم الديني ﴿إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ﴾، دون قدرة على ردها، ثم أذن الله لهم بالرد والمواجهة حينما تشكّلت لهم قدرة وقوة.
وهنا تشير الآية إلى أنّ الدفاع عن المقدسات والشعائر الدينية، هو جزء من حقّ الإنسان في الدفاع عن ذاته ووجوده في هذه الحياة، عبر سنة التدافع بين بني البشر، ولولا هذه السنة الفطرية الطبيعية، لما توفرت الحماية للمعابد والشعائر الدينية.
يقول تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا﴾ [سورة الحج، الآية: 40].
الاحترام المتبادل للشعائر
إنّ الآية الكريمة تذكّر الأماكن العبادية لمختلف الديانات، لتؤكد مبدأ الاحترام المتبادل بين أتباع الديانات، لأماكن العبادة والشعائر الدينية.
والصوامع هي أماكن العبادة التي يعتزل فيها الرهبان والزهاد، في الجبال والبراري، والبِيَع والصلوات، هي معابد وكنائس اليهود والنصارى، يذكرها الله تعالى في سياق ذكر المساجد.
ثم تصف الآية هذه الأماكن الدينية بأنها محلٌّ لذكر الله ﴿يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا﴾.
بعض المفسرين يرى أنّ هذا الوصف يعود إلى المساجد فقط، لتكرار برامج العبادة فيها يوميًّا، بخلاف الأماكن العبادية عند اليهود والنصارى، حيث تكون مرة واحدة في الأسبوع.
لكنّ مفسرين آخرين يرون أنّ الوصف يعود إلى كلّ الأماكن العبادية المذكورة.
يقول ابن عاشور: وَجُمْلَةُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا صِفَةٌ، وَالْغَالِبُ فِي الصِّفَةِ الْوَارِدَةِ بَعْدَ جُمَلٍ مُتَعَاطِفَةٍ فِيهَا، أَنْ تَرْجِعَ إِلَى مَا فِي تِلْكَ الْجُمَلِ مِنَ الْمَوْصُوفِ بِالصِّفَةِ. فَلِذَلِكَ قِيلَ بِرُجُوعِ صِفَةِ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ إِلَى: صَوامِعُ، وَبِيَعٌ، وَصَلَواتٌ، وَمَساجِدُ، لِلْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَاتِ قَبْلَهَا، وَهِيَ مَعَادُ ضَمِيرِ فِيهَا[1] .
ومما يؤيّد هذا الرأي ما نقله الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد، أنّ أمير المؤمنين عليًّا ، في طريقه إلى صفّين، لما وصل إلى المدائن طلب ماءً ليغتسل به، فدخل إلى مكان مهجور، فإذا صور في الحائط، قال: «كَأَنَّ هَذِهِ كَانَتْ كَنِيسَةً؟»
قَالُوا: نَعَمْ! كَانَ يُشْرَكُ فِيهَا اللهِ كَثِيرًا؟ قَالَ : «وَكَانَ يَذْكُرُ اللهِ فِيهَا كَثِيرًا»[2] .
وقد تعهّد رسول الله لنصارى نجران بضمان حريتهم الدينية في عباداتهم وشعائرهم في رسالته إليهم، حيث ورد ما نصّه: «من محمد النَّبيّ للأسقف أبي الحارث وأساقفة نَجْرَانَ وَكَهَنَتِهِمْ وَرُهْبَانِهِمْ وَكُلِّ مَا تَحْتَ أَيْدِيهِمْ من قليل وكثير، جِوَارُ اللهِ وَرَسُولِهِ لَا يُغَيَّرُ أُسْقُفٌّ مِنْ أُسْقُفَّتِهِ، وَلَا رَاهِبٌ مِنْ رَهْبَانِيَّتِهِ، وَلَا كَاهِنٌ مِنْ كَهَانَتِهِ، وَلَا يُغَيَّرُ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِهِمْ»[3] .
ومن المعروف تاريخيًّا أنّ أتباع الديانات كانوا يتمتعون في ظلّ حكومات المسلمين المتعاقبة بحريتهم الدينية في إقامة عباداتهم وشعائرهم، يقول الباحث الألماني آدم متز (توفي: 1917م): ولم تكن الحكومة الإسلامية تتدخل في الشعائر الدينية لأهل الذمة، بل كان يبلغ من بعض الخلفاء أن يحضر مواكبهم وأعيادهم، ويأمر بصيانتهم، وفي حالة انقطاع المطر كانت الحكومة تأمر بعمل مواكب يسير فيها النصارى وعلى رأسهم الأسقف واليهود ومعهم النافخون في الأبواق[4] .
ضرورة لتحقيق السلم الاجتماعي
إنه لا يتحقق السلم المجتمعي، في كلّ مجتمع متنوع دينيًّا أو مذهبيًّا، إلّا بالاحترام المتبادل للشعائر الدينية؛ لأنّ المنع والتضييق على الشعائر الدينية لأيّ فئة، يعني سلبها أعزّ الحقوق عليها وأعمقها في وجودها، وهو حرية الانتماء الديني. وهذا ما قد يؤدي إلى الفتن والاضطراب.
إنّ ممارسة الشعائر الدينية يجب أن تكون جزءًا من النظام العام للمجتمع، بمعنى إقرارها ضمن النظام العام، وممارستها في إطار النظام العام، فلا يكون في ممارسة الشعائر إخلال بالنظام أو إساءة للآخرين.
وقد ابتُليت مجتمعاتنا الإسلامية بتيارات التشدّد والتطرف التي تريد مصادرة حرية الشعائر الدينية من مخالفيها في الدين أو المذهب، وتعبّئ ضدّهم، ومن الحوادث المؤسفة في هذا السياق، ما تناقلته وسائل الإعلام أخيرًا، عن أحد أئمة المساجد في الكويت، من تهجّم على المذهب الإباضي، ووصف عقيدة الِإباضيّة بأنها «عقيدة إلحادية». وقد قرّرت وزارة الشؤون الإسلامية في الكويت إنهاء خدماته من مهام الإمامة والخطابة[5] .
وفي داخل بعض الجماعات الدينية والمذهبية، هناك من يتطرّف في ممارسة شعائره، فيستفزّ الآخرين أو يسيء إلى مقدّساتهم ورموزهم، كما في بعض الخطابات أو بعض الأشعار يقرؤها الرواديد، وقد أدّى هذا التطرّف والتشدّد المتبادل إلى أن تصبح مواسم الشعائر الدينية مصدر قلق واستنفار أمني واجتماعي.
وعلى المستوى الاجتماعي، يجب أن يحرص القائمون بالشعائر الدينية على رعاية النظام وحفظ مصالح الناس.
إنّ مهمّة الدين وغرضه إقامة العدل والسلام، ونشر الطمأنينة والانسجام بين الناس، والشعائر الدينية يجب أن تخدم هذا الغرض، لا أن تؤدي إلى نقيضه.
زيارة الأربعين
وفي هذه الأيام يتابع العالم إحياء مناسبة أربعين الإمام الحسين في العراق، حيث توافد هذا العام (1447هـ/ 2025م) أكثر من 21 مليون زائر[6] من أكثر من 140 دولة، لزيارة الإمام الحسين
في كربلاء، وتحدثت الأخبار عن اكتشاف الجهات الأمنية في العراق لخلايا إرهابية تستهدف الزائرين في هذه المناسبة، نسأل الله تعالى أن يحمي الزائرين من كلّ مكروه.
إنّ زيارة الحسين شعيرة من أبرز الشعائر في أوساط أتباع أهل البيت ، حيث وردت عن أئمة أهل البيت
مئات الروايات في الحثّ على زيارة الإمام الحسين، وتبيين فضلها وآدابها وفوائدها، وآثارها في الدنيا والآخرة.
وتتفاوت هذه الروايات في اعتبارها السندي، ففيها ما هو صحيح ومعتبر السند، وفيها ما هو ضعيف السند، وكثرتها يوجب القطع والاطمئنان بتأكيد الأئمة على أهميتها وفضلها.
ورد عن الإمام علي بن موسى الرضا عن أبيه عليهما السلام قال: «سُئِلَ الصادق عَنْ زِيَارَةِ قَبْرِ اَلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ
، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي
: أَنَّ مَنْ زَارَ قَبْرَ اَلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ
عَارِفًا بِحَقِّهِ كَتَبَهُ اَللهُ فِي عِلِّيِّينَ»[7] .
لذلك ترسّخت هذه الشعيرة في تاريخ أتباع أهل البيت ، وتوارثتها أجيالهم عبر القرون والعصور. وكلّفتهم أثمانًا باهظة وتضحيات كبيرة في بعض الأزمنة والعهود.
إنّ زيارة الحسين شعيرة لتعزيز مشاعر الارتباط بنهج الإمام الحسين ، والولاء للمبادئ التي التزم بها وضحى من أجلها. وهذا ما تؤكّد عليه نصوص الزيارات الواردة عن الأئمة
.
ورد في الزيارة المروية عن الإمام محمد الباقر : «اَللَّهُمَّ اِجْعَلْنِي فِي مَقَامِي هَذَا مِمَّنْ تَنَالُهُ مِنْكَ صَلَوَاتٌ وَرَحْمَةٌ وَمَغْفِرَةٌ، اَللَّهُمَّ اِجْعَلْ مَحْيَايَ مَحْيَا مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وَمَمَاتِي مَمَاتَ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ»[8] .
وورد في الزيارة عن الإمام الصادق : «أُشْهِدُ اَللهَ وَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي بِكُمْ مُؤْمِنٌ وَلَكُمْ تَابِعٌ فِي ذَاتِ نَفْسِي وَشَرَائِعِ دِينِي وَخَاتِمَةِ عَمَلِي وَمُنْقَلَبِي وَمَثْوَايَ»[9] .
وعنه : «اَللَّهُمَّ اِجْعَلْ لِمَا أَقُولُ بِلِسَانِي حَقِيقَةً فِي قَلْبِي وَشَرِيعَةً فِي عَمَلِي، اَللَّهُمَّ اِجْعَلْنِي مِمَّنْ لَهُ مَعَ اَلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ
قَدَمٌ ثَابِتٌ»[10] .
ومن الصفات التي تذكرها الزيارات في سيرة الإمام الحسين لتحفيز الزائر على الاقتداء والتأسي بالإمام فيها، ما ورد في أكثر من زيارة: «أشْهَدُ أنَّكَ قَدْ أقَمْتَ الصَّلاةَ، وَآتَيْتَ الزَّكاةَ، وَأمَرْتَ بالمعْرُوفِ وَنَهَيْتَ عَنِ المنْكَرِ، وَعَبَدْتَ اللهَ مُخْلِصًا حَتّى أتاكَ الْيَقين»[11] .