ثقافة حقوق الإنسان
إن أول خطوة في طريق إحقاق حقوق الإنسان والدفاع عنها، هي التعريف بتلك الحقوق، ونشر ثقافتها. ذلك أن الكثيرين في مجتمعاتنا لا يعرفون الحقوق التي لهم والتي عليهم تجاه الآخرين، فلا يطالبون بما لهم، ولا يلتزمون بما عليهم، بسبب الجهل وانعدام المعرفة.
إن ثقافة الحقوق ليست جزءاً من نظام حياتنا ومعارفنا على مختلف الأصعدة والمستويات، حيث نمارس حياتنا الاجتماعية والسياسية بعفوية واسترسال وخضوع للواقع المعاش، دون التفات إلى ما قد ينطوي عليه هذا الواقع من انتهاكات لحقوق الإنسان وتجاهل لكرامته.
فليس هناك برنامج يتعرف من خلاله الطالب على حقوقه ضمن المؤسسة التعليمية.
وقد لا يطلع الموظف على ضوابط علاقته بدائرة عمله.
وفي الحياة العائلية يقترن الزوجان دون أن يتعرفا على نظام الحقوق في العلاقات الزوجية.
وعلى الصعيد السياسي لا يعرف الناس حقوقهم كمواطنين، وفي تعاملهم مع أي مؤسسة من مؤسسات الدولة، لا يطلعون على الأنظمة الخاصة بتلك المؤسسة.
لا شك في أن هناك أنظمة وقوانين لمختلف تلك الجوانب والمؤسسات، بغض النظر عن درجة الكمال أو النقص فيها، لكن المشكلة تكمن في انعدام برامج التوعية والتثقيف في مجتمعاتنا بالقضايا الحقوقية.
أما في المجتمعات المتقدمة فإن الثقافة الحقوقية جزء أساس في مناهج التعليم، وبرامج الإعلام، والتنشئة العائلية، ونظام العلاقات المهنية، وفي صيغة أي تعامل أو تعاقد بين طرفين.
فقلم المرور هناك ـ مثلاً ـ حين يسجّل عليك مخالفة مرورية، يخبرك بالخيارات التي يتيحها لك القانون للتعامل مع الموقف، وحينما تستوقف للاستجواب يطلعونك على حقوقك، وأن بإمكانك أن تطلب كذا وأن ترفض كذا.. ولا ينضم موظف إلى مؤسسة إلا بعد أن يقرأ نظام التعاقد معها ويوقع على البنود الواردة فيه.. وهكذا في مختلف المجالات.
إننا بحاجة إلى جهود كبيرة لنشر ثقافة الحقوق في مجتمعاتنا، بدراسة وثائق حقوق الإنسان، والاطلاع على الأنظمة والقوانين الوطنية، ومعرفة الضوابط والحدود في علاقاتنا الاجتماعية.
وفي ثقافتنا الإسلامية حث واهتمام كبير بحقوق الإنسان ونظام العلاقات الاجتماعية. إن أبواب الفقه الإسلامي زاخرة بالمبادئ والتقنينات للحقوق المتبادلة بين الناس. بين الحاكم ومواطنيه، وبين رب الأسرة وأفراد العائلة، وبين فئات المجتمع مع بعضهم.
لكن هذه الثقافة الإسلامية الحقوقية بحاجة إلى بلورة جديدة، وحسن صياغة وعرض، لتواكب لغة العصر، وتطور المعرفة الإنسانية على هذا الصعيد.
وفي كثير من الأحيان يكون الطرح الحقوقي في خطابنا الديني أحادياً، حيث يتم التركيز على حقوق طرف وتجاهل حقوق الطرف الآخر، بما يخدم نظام الهيمنة، تحت هاجس الخوف من التمرد، فمثلاً يجري التأكيد على حقوق المعلم دون تبيين حقوق الطالب، والتأكيد على حقوق الوالدين مع إغفال حقوق الولد، وتضخيم حقوق الزوج مع إهمال حقوق الزوجة، والتركيز على حقوق الحاكم على حساب حقوق المحكومين.
وهو أسلوب خاطئ لا يخدم حقوق الإنسان، بل يشجع ويغطي على انتهاكها. بينما نجد في تراثنا الإسلامي أن الإمام علي بن أبي طالب حينما تولى الخلافة، كان في أغلب خطبه وكتبه للولاة على الأمصار، يتحدث بتوازن عن الحقوق المتبادلة بين الحاكم والشعب.
فقد جاء في أوائل خطبه: «أيها الناس إن لي عليكم حقاً، ولكم عليّ حق: فأما حقكم عليّ فالنصيحة لكم، وتوفير فيئكم عليكم، وتعليمكم كيلا تجهلوا، وتأديبكم كيما تعلموا. وأما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة، والنصيحة في المشهد والمغيب، والإجابة حين أدعوكم، والطاعة حين آمركم».
وحينما أعلن الخوارج معارضتهم له، بادر هو إلى الإقرار بحقوق المعارضة، وتحدث عنها أمام الجمهور. جاء في تاريخ الطبري (ج4 ص53) أنه: قام علي في الناس يخطبهم ذات يوم، فقال رجل من جانب المسجد: لا حكم إلا لله، فقام آخر فقال مثل ذلك، ثم توالى عدة رجال يحكمّون. فقال علي : الله أكبر، كلمة حق يلتمس بها باطل! أما أن لكم عندنا ثلاثاً ما صحبتمونا: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسمه، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تبدؤونا». هكذا يعلن الإمام ابتداءً حقوقهم وضمانته لها، فمن الناحية الأمنية لن يتعرض لهم بسوء ما لم يمارسوا العنف، ومن الناحية الاقتصادية لن ينقطع عطاؤهم من بيت المال، وعلى الصعيد الاجتماعي لن يحاصروا ولن يقاطعوا، بل يحضرون جماعة المسلمين.
وفي نفس السياق كتب الإمام علي بن الحسين زين العابدين «عليهما السلام» رسالة الحقوق تحدث فيها عن خمسين حقاً، مراعياً فيها التقابل والتوازن، حيث عرض لحق الحاكم وحقوق الرعية، وحق الوالدين وحق الولد، وحق المدعي وحق المدعى عليه، وحق المعلم وحق المتعلمين، وحق المسلمين وحق غير المسلمين.. وهي من روائع تراثنا الإسلامي.