الدين بين الانتماء والتطبيق
الدين ليس قبيلة ينتمي إليها الإنسان، ولا جنسية بلد يحملها، إنه قيم ومبادىء ومنهج وسلوك، والتدين الصادق هو الالتزام بقيم الدين، والسير على نهجه، بيد أن المبتلين بمرض الغرور الديني، يخدعون أنفسهم بالاكتفاء بالانتماء الرسمي والاسمي للدين، دون العمل بمبادئه وتشريعاته، ويدعون لانفسهم الأفضلية وضمان النجاة في الدنيا والآخرة .
لكن الله تعالى لا يخدع عن جنته، والمقياس هو الالتزام والعمل، وليس الشعارات والادعاءات، وحينما ادعى جمع من الحاضرين في مجلس رسول الله ذات يوم أنهم غارقون في حب الله تعالى، وزايدوا على الآخرين في دعواهم، نزل الوحي من قبل الله تعالى مطالباً لهم بتصديق دعواهم عمليا باتباع تعاليم الرسول يقول تعالى: ﴿قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله﴾.
لذلك لا تكاد تجد آية في القرآن تتحدث عن الإيمان إلا وتردفه بالحديث عن عمل الصالحات، لأن الإيمان يجب أن يتجسد في سلوك الإنسان وممارساته.
حينما يتحدث القرآن الكريم في العديد من آياته، عما أصاب اليهود والنصارى، من غرور في دينهم، فإنه لا يقصد مجرد الذم والتشهير بهم، وإنما يريد تقديم الدرس والعبرة، وتحذير المجتمع المسلم من الوقوع في ذات المنزلق، والسقوط في نفس الهاوية.
لذلك جاء الحديث منفصلا عن ادعاءاتهم النابعة من الغرور مع تسليط الاضواء على منطلقاتها الخاطئة وكشف ثغراتها الجذرية.
1ـ فهم يدعون أن الجنة حكر عليهم وملك لهم، لا يدخلها غيرهم وقد يدعي غير اليهود والنصارى مثل هذه الدعوى، لذلك جاء الرد القرآني مفندا هذاالادعاء بشكل عام، من أي جهة انطلق، فالجنة لا تنال بالأماني، وإنما يجب أن يبرهن الانسان على استحقاقه لها، بالإخلاص لله تعالى في توجهاته، وبالإحسان في سلوكه، ومن اتصف بهاتين الصفتين كان أهلا لدخول الجنة، من أي أمة كان يقول تعالى: ﴿وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه﴾.
2ـ وكانوا يرون لأنفسهم صلة خاصة بالله تعالى، فهم أبناء الله وأحباؤه دون سائر الخلق، لكن سنن الله تعالى في الحياة الدنيا، وحكمه في الآخرة، تناقض مثل هذه الادعاءات فجميع البشر محكومون بسنن واحدة، ونظام إلهي عادل، لذلك يتعرض المخالف لسنن الله وتعاليمه للعذاب والجزاء دنيا وآخرة، من اي أمة كان، فليس بين الله وبين أحد من خلقه قرابة، وفهم خلقه وعباده جميعاً ..
يقول تعالى: ﴿وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق﴾.
3ـ ويخدعون أنفسهم بأن الله تعالى سيتساهل في مجازاتهم، ويتسامح معهم، فلا ينالهم عذاب النار، إلا بشكل محدود، وضمن فترة قصيرة، لخصوصيتهم وامتيازهم على الآخرين.
ويدحض الله تعالى قولهم، بأن ذلك نابع من غرورهم، وأن كل إنسان سيحاسب وفق عمله، وليس حسب انتمائه.
يقول تعالى ﴿ذلك بانهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون﴾ . هكذا يفضح القرآن الغرور الديني بمنطلق إلهي واضح، يقوم على أساس تساوي الخلق أمام الله تعالى، وأن التفاضل هو بالتزام القيم، وتطبيق المبادىء، وليس بالانتماء الاسمي، ولا بالأمنيات والادعاءات والشعارات.
وهو المنطق المعتمد في الخطاب الإلهي لكل الأمم وأتباع الديانات من يهود ونصارى ومسلمين وغيرهم.
نحن لا نعيش في صحراء فارغة، نردد في أجوائها ادعاء الأفضلية فلا يسمعنا أحد، بل نعيش ضمن عالم مزدحم بالأديان والمذاهب والنظريات والمناهج، وإذا كنا ندعي أحقية ديننا على سائر الأديان، وأفضلية مذهبنا على بقية المذاهب، فعلينا أن نثبت ذلك ونحققه عبر طريقين:
الأول:الإثبات العلمي المعرفي بعرض ادلتنا وبراهيننا وتقديم البرامج والمناهج الأفضل، لمعالجة مشاكل الحياة، ورفع مستوى البشرية.
أما إذا كنا عاجزين وفاشلين في وضع البرامج والمناهج التي نحتاجها لتيسير شؤون حياتنا، فكيف نقنع العالم بأننا نمتلك أفضل منهج، وخير سبيل ؟
الثاني: السلوك الحضاري المتميز، فإن الله تعالى جعل خيرية الأمة الإسلامية، مشروطة بدورها الريادي في العالم ﴿وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس﴾.
وبحمل رسالة الإصلاح على مستوى البشرية جمعاء ﴿كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر﴾. والمعروف مفهوم شامل لكل ما ينفع الناس، والمنكر عنوان عام لكل ما ينكره العقل والوجدان، إن من المؤسف جداً أن تنطلق المبادرات الإنسانية والحضارية من مجتمعات اخرى، بينما يعيش اغلب مجتمعاتنا الإسلامية حالة التخلف والجمود، والعجز حتى عن إصلاح شؤونها، وترتيب أوضاعها، مما يناقض الموقعية التي أرادها الله تعالى لهذه الأمة.