تقدير الكفاءة والإبداع
لا تقاس الشعوب والمجتمعات بوفرة عددها وبكثافتها السكانية، فقد تكون الكثرة الكمية عبئا يستنزف الموارد، ويعوق الحركة، كما عبر عن ذلك رسول الله . فيما رواه عنه مولاه ثوبان، قال: قال رسول الله : «يوشك ان تداعى عليكم الأمم، من كل أفق كما تداعى الأكلة على قصعتها، قال: قلنا: يا رسول الله أمن قلة بنا يومئذ قال: أنتم يومئذ كثير ولكن تكن غثاء كغثاء السيل» (ابن حنبل: الإمام أحمد/ مسند الإمام احمد بن حنبل ـ حديث رقم 22760).
وانما تقاس المجتمعات بقوتها النوعية، المتمثلة في كفاءات ابنائها، وقدراتهم المتميزة علميا وعمليا. من هنا اعتبر القرآن الكريم فردا واحدا بمثابة أمة كاملة، لما كان يتمتع به من صفات ومواصفات عظيمة، وهو نبي الله ابراهيم الخليل يقول تعالى: ﴿ان ابراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين﴾.
وكان العرب يقولون عن المتفوق في شجاعته وتدبيره: رجل كألف. فالكفاءة والإبداع هما مصدر قوة الأفراد والشعوب. والمجتمع الأقوى هو الذي تكثر الكفاءات وقدرات الإبداع بين أبنائه.
ولكن كيف تنمو الكفاءات؟ وكيف تتفجر الكفاءات؟ ولماذا تزخر بعض المجتمعات بالمبدعين والمتفوقين، بينما تعاني مجتمعات أخرى من القحط والفقر؟
هناك عوامل وأسباب عديدة تؤثر في مستوى حركة الإبداع والتفوق في أي مجتمع، لعل من أبرزها: مدى ما تجده الكفاءة من تشجيع واحترام، فالمجتمعات المتقدمة عادة ما تحرص على توفير أكبر قدر من الاحترام والتشجيع للطاقات والقدرات المتميزة من أبنائها، بينما تنعدم او تتضاءل مثل هذه الحالة في المجتمعات المتخلفة.
فالانسان السوي، يختزن في أعماق نفسه، مشاعر اعجاب وتقدير، لكل كفاءة متميزة، وإبداع خلاق، ودون ذلك لا يكون إنسانا سويا أبدا، لكن امتلاك قدرة التعبير عن تلك المشاعر، والمبادرة لإبرازها هو سمة الراقين المتحضرين.
ان من يظهر مشاعر تقديره للكفوئين المبدعين، انما يسجل احترامه لذاته أولا، بالتعبير عما تختزنه من انطباعات، ومنحها جدارة التقديم والعرض، بينما يشكك ضعفاء الثقة بذواتهم، في استحقاق مشاعرهم للاظهار والإبراز، ويبخلون على أنفسهم بفرصة التعبير عما يختلج فيها، لضعف احترامهم لها.
وقد تتراكم على نفس الإنسان حجب قاتمة من نوازع الأنانية والحسد، تمنعه من اعلان تقديره للمستحقين للتقدير، وذلك خلق سيء، وحالة مرضية لا علاج لها إلا بالوعي الصحيح، والتربية الفاضلة، وممارسة جهاد النفس، وهو الجهاد الأكبر.ان البعض تمتلىء نفسه بحب ذاته بشكل نرجسي، ويسيطر عليه الغرور، وتتضخم لديه الأنا بحيث لا يرى احدا غيره مستحقا للمدح والتقدير، بل وينزعج ويتذمر حينما يشاد بآخرين، وقد يكون ذلك ناتجا من شعور عميق بالنقص والضعف، يستثيره ذكر كمال الآخرين وتفوقهم.
وقد يشعر بعض من يجد في نفسه الكفاءة بالغبن حينما يرى تكريم غيره من المبدعين، والحقيقة انه يجب ان يغتبط ويفرح بذلك، لأن تقدير أي كفاءة في المجتمع، يعتبر تكريسا لمنهجية صحيحة، اذا تأكد وجودها، فستشمله بركاتها وآثارها كغيره من المؤهلين.
ولشيوع مثل هذه الأمراض في نفوس أبناء المجتمعات المتخلفة، عادة ما يتأجل تقدير الكفوئين، من العلماء والأدباء والمصلحين الى ما بعد وفاتهم، ومغادرتهم الدنيا الى الآخرة، عندها تعقد مجالس التأبين لذكر محاسنهم، وتعداد فضائلهم، واعلان الحسرة على فقدهم، بينما كانوا في حياتهم مجهولين او متجاهلين.
وكما قال الشاعر (عبيد بن الأبرص):
وذكروا في ترجمة احد العلماء ان تلميذا لعالم آخر سأله عن قيمة كتاب استاذه؟
فأجابه ذلك العالم الكبير عن سؤاله بما يلي: ما دام مؤلفه حيا فلا تساوي قيمته فلسا واحدا، واذا مات فأول من يكتبه أنا، وهذا إخبار عما في الضمير، ثم أنشد:
لج به الحرص علـى نكتة *** يكتبها عنه بمـاء الذهب
التفوق والإبداع لا يتأتى إلا ببذل جهد، وتحمل عناء، لذلك يكون المتفوقون قلة، لان أكثر الناس يتقاعسون ولا يرغبون في إتعاب أنفسهم واجهادها، وقديما قال المتنبي:
وهنا يأتي دور التشجيع والتقدير، في رفع معنويات رواد الإبداع والتفوق، وامتصاص آثار التعب والعناء الذي يواجهونه في طريقهم، مما يجعلهم أكثر عزما وتصميما على الإنجاز والتقدم.
ان تقدير الكفاءة يساعد على تنميتها وتطويرها، ويدفع أصحابها الى المزيد من العطاء والانجاز، ويكرس في نفوسهم حب مجتمعهم، والإخلاص اليه، والتفاني في خدمته، بينما تجاهل الكفاءات قد يثبط نشاطها، ويصيبها بالاحباط، وفي أحسن الفروض، تسلك طريق النزوح والاغتراب، وما يصطلح عليه الآن بهجرة الكفاءات والأدمغة