العطلة الصيفية ووقت الفراغ
تتفق كل أنظمة التعليم في جميع دول العالم، على منح طلابها إجازة سنوية خلال فترة الصيف، تقارب ثلاثة أشهر يطلق عليها «عطلة الصيف».
واقرار نظام العطلة الصيفية جاء محصلة ونتيجة لتطور تجارب المجتمع البشري، في مجال علم التربية والاجتماع.
فالدراسة الأكاديمية المنتظمة، تستلزم بذل جهد ذهني ونفسي من الطالب، وتقيد حريته وحركته ببرنامجها اليومي الرتيب، مما يجعله في حاجة الى فترة من الراحة، بالتوقف عن التزاماته الدراسية، وشعوره بالحرية والانطلاق.
محطة التوقف هذه أثناء العطلة الصيفية تؤدي عدة وظائف لصالح العملية التعليمية.
فهي [e]أولا:[/e] تعطي الطالب فرصة لتجديد نشاطه الذهني والنفسي، حتى لا يستنزفه العناء، ولا يسيطر عليه الإرهاق والملل، فيستأنف بعدها عامه الدراسي الجديد برغبة وشوق.
[e]ثانيا:[/e] تشكل العطلة الصيفية فاصلة بين المراحل والبرامج التعليمية، تنبه الطالب إلى حركة مسيرته الدراسية، وتجاوزه لأشواطها، ومستوى خطواته في طريقها، وتهيئه للاستعداد لكل مرحلة جديدة.
[e]ثالثا:[/e] تمنحه المجال لاستكمال بعض نواقصه، ومعالجة ثغرات تحصيله، ليواكب مسيرة المنهج الدراسي، ولا يتخلف عن مستوى زملائه وأقرانه.
[e]رابعا:[/e] تتيح الفرصة لتنمية شخصيته الإنسانية، في أبعادها المختلفة، فهو إنسان ذو مشاعر وأحاسيس، وله مواهب وقدرات، فلابد له من أفق مفتوح أمامه، لإشباع مختلف حاجاته، وممارسة رغباته المتعددة.
لكل هذه الأغراض وأمثالها اتفقت أنظمة التعليم على إقرار العطلة الصيفية، ومن نفس المنطلق، اعتمدت أنظمة العمل في جميع الدول، حق الإجازة السنوية لكل عامل.
صحيح أن العمل ذهنيا كان كالدراسة، أو عضليا كسائر مجالات الإنتاج، هو القيمة الأساس في الحياة، وهو يعني الفاعلية والنشاط المباشر، لتوفير المتطلبات، وتحقيق الطموحات، لكن وقت العطلة والفراغ، هو الآخر لا يخرج عن هذا الإطار، حيث يقصد منه تحديد رغبة العمل، وتنمية دوافعه، وتوفير مستوى من الارتياح والرضا النفسي.
وهو الوقت الذي يتحرر فيه الإنسان من التزامات العمل وواجباته، أو التزامات الدراسة ووظائفها بالنسبة للطالب، وهناك عدد كبير من التعريفات والتصنيفات، وأساليب القياس لوقت الفراغ، تناولتها الدراسات المختصة.
ويمثل موضوع "وقت الفراغ" ميدانا لبحوث مكثفة من قبل علماء الاجتماع، ورغم حداثة الاهتمام بهذا الموضوع علميا، إلا أنه سرعان ما جذب اهتمام العلماء، واستقطب جهودهم، فأصبح منافسا لكثير من فروع علم الاجتماع، مع أسبقيتها عليه.
وذلك لما لهذا الموضوع من آثار تمتد لتشمل مختلف جوانب حياة الإنسان، التربوية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية. مما جعل الاهتمام بوقت الفراغ ليس مسألة جانبية أو هامشية، بل جزءا أساسيا من الاهتمام بشخصية الإنسان، وبالنظم الاجتماعية القائمة في الحياة المعاصرة.
وقد تبلورت ظاهرة وقت الفراغ لدى الانسان المعاصر، في أعقاب الثورة الصناعية في مجتمعاتها، بعد أن كان العامل في عصور الاقطاع مسخرا، لا يتمتع بشيء من حقوقه الانسانية، فضلا عن حق الاجازة والعطلة السنوية، وفي معظم المجتمعات البدائية والزراعية، يضطر الانسان للاستمرار في الكدح والعمل طوال السنة، لتوفير احتياجات حياته، والتي تكاد تخلو من الفراغ بالشكل السائد اليوم.
وكشفت دراسات علماء الأنثروبولوجيا، لأساليب الحياة اليومية، للمجتمعات البسيطة والتقليدية، انه لم يكن يوجد في هذه المجتمعات خط فاصل تماما، بين العمل والفراغ، ذلك أن العمل يستنفد طاقاتهم، وتختلط أنشطته بأنشطة الترويح والتسلية، حيث كانوا يقومون ببعض العادات والتقاليد الترويحية أثناء العمل، كالرقص أو الغناء أو المزاح أو العمل التعاوني، وبعض هذه العادات والتقاليد كان ذا طابع ديني.
لكن باحثين من علماء الاجتماع، يذهبون إلى عراقة ظاهرة وقت الفراغ، في كل الحضارات، عبرتاريخ البشر، لكنها كأي ظاهرة إنسانية أخرى تعرضت للتغير والتطور، حتى أصبحت الآن أكثر تقنينا وانتظاما، بفعل تطور الحياة، وتجارب الزمن.
ونجد في كتابات أرسطو وأفلاطون، وسائر فلاسفة اليونان، مؤشرا على وجود ظاهرة وقت الفراغ في تلك المجتمعات، حيث لم تخل تلك الكتابات من تناول هذه الظاهرة، والحديث عنها بدقة وعمق، باعتبارها فرصة للتربية، وتنمية النفس أو الروح.
على أن بعض علماء الاجتماع، يرون أن ظاهرة وقت الفراغ آنذاك، كانت محصورة في إطار الطبقة الممتازة، صاحبة المكانة الرفيعة في المجتمع الإغريقي، ولم تكن حالة عامة لدى سائر الطبقات.
أما في العصر الحديث فيتمتع كل عامل أو طالب بوجود وقت فراغ، نظرا للأنظمة السائدة في العالم، القائمة على تحديد ساعات الدراسة والعمل، وإقرار نظام الإجازات والعطل، ونظرا لتقدم مستوى المعيشة والحياة، مما جعل وقت الفراغ جزءا من نظام حياة الناس غالبا.
في وقت مبكر اهتم فلاسفة اليونان بوقت الفراغ، وأكدوا على ضرورة توظيفه روحيا، حيث ركز أرسطو على أهمية استغلال الفراغ في الموسيقى والتأمل، انطلاقا من رؤيته لدور الأنشطة الموسيقية في تنمية العقل وملكة التفكير، ولمحورية التأمل في بناء شخصية الإنسان و تحقيق إنسانيته.
أما في العصر الحديث فإن الاهتمام بوقت الفراغ أحرز تقدما كبيرا، وشغل مساحة واسعة، على الصعيد المعرفي والثقافي. فمنذ العشرينيات والثلاثينيات للقرن العشرين، ظهرت كتابات ودراسات كثيرة، في أوروبا وأمريكا، عن وقت الفراغ.
وفي عام 1924م نظم مكتب العمل الدولي أول مؤتمر عالمي عن وقت فراغ العامل، شارك فيه أكثر من 300 عضو يمثلون نحو ثماني عشرة دولة.
وفي أوروبا حقق علم اجتماع الفراغ تقدما كبيرا، إذ عمل «جورج فريدمان» بوجه خاص، على تنمية الاهتمام بدراسة دور الفراغ في إعادة وضع الإنسان، وتكييفه مع الحضارة التي تسيطر عليها التكنولوجيا.
وفي إنجلترا كان للدراسة التي أجراها كل من «روانتري» و«لافيرز» بعنوان «حياة الإنجليز والفراغ» أثرها في توجيه الاهتمام نحو تحرير عدد من المقالات «السوسيولجية»، والبحوث المتخصصة. كما بدأ «جو فردي مازدييه» في هولندا بحوثه عام 1953م لعل أهمها أطلق عليه «نحو حضارة الفراغ» وكذلك دراسته بعنوان «الفراغ الحضري».