الانفتاح على الشباب
لا يصح لنا أن نترك أبناءنا وشبابنا فريسة لوسائل الإعلام والاتصالات وقنوات البث الفضائي، وهي تبشّر بثقافة مادية استهلاكية، وأنماط سلوك غريبة مخالفة لقيمنا وأمن مجتمعنا.
ولا ينبغي أن ننفر منهم ونبتعد عنهم حينما تزعجنا بعض تصرفاتهم الطائشة، فهم ضحايا بيئة تعاني من خلل في أساليبها التربوية، وأجوائها الاجتماعية.
كما لايمكن المراهنة على القمع والردع وحده، فقد يدفعهم إلى المزيد من التحدي ويدخلنا في دوامة الفعل ورد الفعل، إننا نحتاج إلى الردع والتأديب، ضمن حدود معينه، لكن المراهنة يجب أن تكون على الاقتراب من الشباب أكثر، وفهم ظروفهم ومعاناتهم، وتوفير الأجواء الصالحة لهم.
إن الحاجة ماسة في مجتمعاتنا إلى الانفتاح على الشباب وتجسير العلاقة معهم، من قبل العائلة، وعلماء الدين، والمسؤولين، لمساعدتهم على تجاوز هذه المرحلة الحرجة التي يمرون بها، والظروف الصعبة التي يعاني منها بعضهم في تسيير أمور حياته، ولتطمينهم ومعالجة ما يساورهم من قلق على بناء مستقبلهم، وتأمين متطلبات الحياة.
وهنا لابد من الإشارة إلى ضرورة تطوير الخطاب التربوي والديني مع الشباب، بحيث يكون أقدر على التأثير فيهم، فشباب اليوم منفتحون على لغة وسائل الإعلام الجذابة، ومطلعون على كثير من المعارف والعلوم المعاصرة، وهم يشاهدون أساليب التخاطب الوجداني والعاطفي، وإتاحة الفرصة للنقاش والحوار وتفهم الرأي الآخر .
وبهذا لا يستقطبهم التخاطب الفوقي بأسلوب الأمر والنهي، والردع والزجر، والاسترسال في ذكر النصوص والأقوال، ومصادرة حق الاعتراض والتساؤل.
ولنا في منهج رسول الله خير قدوة وأسوة فقد جاءه غلام شاب فقال: يا رسول الله إيذن لي في الزنا! فصاح به الناس وقالوا: مه.
فلم يرض رسول الله بمجابهتهم له، بل دنا منه وأقبل عليه يحاوره بهدوء وقال له: «أتحب الزنا لأمك؟ »أجاب الغلام: لا. فقال :« وكذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم. أتحبه لأختك؟» قال: لا. قال :« وكذلك الناس لا يحبونه لأخواتهم. أتحبه لابنتك؟» قال: لا قال :« وكذلك الناس لا يحبونه لبناتهم. فاكره لهم ماتكره لنفسك وأحب لهم ماتحب لنفسك. »ثم وضع رسول الله يده على صدر الغلام الشاب ودعا له قائلاً: «اللهم كفِّر ذنبه وطهِّر قلبه وحصِّن فرجه.»
النضج الجسمي والتوهج العاطفي في مرحلة الشباب يبعث لدى الشاب طاقة هائلة من القوة والنشاط، تحتاج إلى تصريف وتفعيل، فمرحلة الشباب هي منطقة القوة في حياة الإنسان، التي تعقب ضعف الطفولة، وتسبق عجز الشيخوخة. كما تشير إلى ذلك الآية المباركة: [q] اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً[/q]
إن هذه القدرات والطاقات الهائلة من النشاط لدى جيل الشباب تشكل رصيداً هاماً للتنمية في المجتمع، ولتحقيق قفزات التقدم في مستواه العلمي والعملي، إذا ما أتاح المجتمع للشباب فرص العمل والحركة، وفتح أمامهم أبواب الفاعلية والإنتاج، في الميادين المختلفة.
وقد كان للشباب في تاريخنا الإسلامي دور بارز في بناء الحضارة الإسلامية، وصنع المكاسب والإنجازات، حين كانت قيادة المجتمع تدفع بالشباب الكفء إلى الواجهة، وتمنحه الفرصة لإبراز مواهبه وقدراته القيادية.
فحينما أراد رسول الله أن يختار أميراً لمكة وحاكماً عليها بعد الفتح، اختار من دون كبار صحابته شاباً في حوالي الثالثة والعشرين من عمره يقال له « عَتّاب بن أسيد» مع حداثة عهده بالإسلام، حيث لم يسلم إلا يوم الفتح، وعينه أميراً لمكة، المدينة الأهم قداسة ومكانة في الجزيرة العربية كما أن آخر مهمة عسكرية أمر بها رسول الله ، كانت بعث فرقة من الجيش لغزو الروم، تضم كبار الصحابة من وجوه المهاجرين والأنصار، كأبي بكر وعمر بن الخطاب وأبي عبيدة بن الجراح وسعد بن أبي وقاص وقتادة بن النعمان وأمثالهم، تحت إمرة شاب لم يبلغ العشرين من العمر، هو «أسامة بن زيد بن حارثة» وحينما اعترض بعض المسلمين على ذلك، وقال أحدهم وهو عيّاش بن أبي ربيعة المخزومي: يستعمل هذا الغلام على المهاجرين؟ وبلغ ذلك رسول الله غضب غضباً شديداً، وتحامل على مرضه وخرج الى المسجد وخطب الناس قائلاً: «أما بعد أيها الناس فما مقالة قد بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة ولئن طعنتم في إمارتي أسامة لقد طعنتم في إمارتي أباه من قبله، وأيمُ الله كان للإمارة لخليقا وإن ابنه من بعده لخليق للإمارة....» وكرر وهو على فراش مرضه عدة مرات: «أنفذوا جيش أسامة».
إن طاقات الشباب تأبى على الكبت، وترفض الجمود، وإذا لم تجد أمامها قنوات سليمة للتصريف والتفعيل، واذا لم تفتح أمامها الخيارات المناسبة لممارسة الحركة والنشاط، فستتفجر في الاتجاهات الخاطئة، وعبر الطرق المخالفة للقانون والنظام.
وما اهتمام دول العالم اليوم برعاية الأنشطة والفعاليات الشبابية وتشجيعها كالنشاط الرياضي.إلا من أجل احتواء هذه الطاقات الفائضة لدى جيل الشباب.
إن الأندية الرياضية، وسائر المؤسسات التي تعنى باستيعاب قدرات الشباب ومهاراتهم العلمية والفنية والاجتماعية، أصبحت من الضرورات في عالم اليوم. والمجتمع الأرقى هو الأكثر اهتماماً بطاقات أبنائه وشبابه.
مرحلة الشباب هي مرحلة صقل الشخصية، وبلورة الطاقات والمواهب، وذلك لا يتم إلا عبر برامج ومؤسسات تستوعب الشباب وتنمي قدراتهم ومهاراتهم، بما ينفع مستقبلهم ومستقبل الوطن، ويتيح لهم مجال تصريف فائض القوة والنشاط، والاستفادة من أوقات الفراغ.
وكلما توفرت البرامج والمؤسسات لاحتضان الشباب، كانت ضمانة أكبر لصلاحهم وتقدمهم. بينما الضعف والفراغ في هذا المجال يعني توقع بروز توجهات سلبية، في وسط هذا الجيل.
لذلك تهتم كل دولة بإنشاء مؤسسة خاصة تعنى بشؤون الشباب بمسمى وزارة أو وكالة أو مديرية حسب اختلاف التنظيمات الحكومية في البلدان.
وقبل نصف قرن من الزمان استحدثت في المملكة العربية السعودية إدارة لرعاية الشباب تابعة لوزارة الداخلية سنة 1372هـ ثم انتقلت إلى وزارة المعارف سنة 1380هـ ثم أصبحت ضمن مهام وزارة العمل والشؤون الاجتماعية سنة 1382هـ وحتى صدور قرار مجلس الوزراء سنة 1394هـ بأن تصبح جهازاً مستقلاً باسم (الرئاسة العامة لرعاية الشباب) والتي ترعى الآن أكثر من اثنين وسبعين منشأة رياضية وثقافية في مختلف مناطق المملكة.
إن مجتمعنا السعودي يعتبر في طليعة المجتمعات الشابة حيث تصل نسبة الفئة التي تقل عن 25سنة إلى 55% من عدد السكان.
ويواجه شباب المملكة اليوم تحدياً كبيراً في الحفاظ على قيم دينهم وتقاليد مجتمعهم، في ظل العولمة الثقافية، والانفتاح الإعلامي الهائل. كما أن سنوات الطفرة الاقتصادية أوجدت تغييراً في بعض أنماط السلوك والعادات الاجتماعية، أضعفت التماسك العائلي والعلاقات الأسرية.
و بعض الصعوبات الحادثة في مجال التعليم وخاصة لجهة قدرة الجامعات على استيعاب الراغبين في الالتحاق، أو في مجال تأمين فرص العمل والوظائف للخريجين،أو لزيادة التعقيد في متطلبات بناء الحياة من زواج وسكن.. كل هذه الصعوبات تشكل ضغوطاً على من يتعرض لها من جيل الشباب.
وليس بعيداً أن يكون مجتمعنا مستهدفاً من قبل جهات معادية تسعى لتشجيع حالات الميوعة والانفلات في أوساط أجيالنا الناشئة.
من هنا يجب النظر بعمق واهتمام لما يواجه شبابنا من تحديات، وأن نتعامل مع ما يطفو على السطح من تصرفات خاطئة تصدر من بعض فئات الشباب على أنها جرس إنذار وعلامة خطر. فلا ننشغل بتلك الظواهر عن الجذور والخلفيات، حيث لا تفيد معالجة أعراض المرض الخارجية إن لم يتم تشخيصه ومداواته.
إن العائلة والجهات الحكومية، والمؤسسات الأهلية، وعلماء الدين المرشدين وكل واع في المجتمع، مطالبون جميعاً بمضاعفة الجهد والاهتمام لرعاية هذا الجيل الشاب، ومساعدته على مواجهة تحديات عالم اليوم.