السلم الاجتماعي .. مقوماته وحمايته
السلم كلمة واضحة المعنى، تعبر عن ميل فطري في أعماق كل إنسان، وتحكي رغبة جامحة في أوساط كل مجتمع سوي، وتشكل غاية وهدفاً نبيلاً لجميع الأمم والشعوب. والسلم من السلام وأصله السلامة أي البراءة والعافية والنجاة من العيوب والآفات والأخطار. ويطلق السلم بلغاته الثلاث السِلم والسَلم والسَلَم على ما يقابل حالة الحرب والصراع.قال ابن منظور: السَلم والسِلم: الصلح، وتسالموا: تصالحوا، والخيل اذا تسالمت تسايرت لا تهيج بعضها بعضا.
والتسالم: التصالح. والمسالمة: المصالحة. وحكي السلم والسلم: الاستسلام وضد الحرب. وكمثال على إطلاق السلم كحالة مقابلة للحرب والقتال يمكن الاستشهاد بقول عباس بن مرداس: السلم تأخذ ما رضيت به والحرب تكفيك من أنفاسها جزع وتقول العرب: أسلم أم حرب، أي أنت مسالم أم محارب. قد يكون الحديث عن السلم أو الحرب على صعيد علاقة المجتمع بمجتمعات أخرى. أو يكون على مستوى الوضع الداخلي للمجتمع والعلاقات القائمة بين أجزائه وفئاته. فهناك مجتمع يعيش حالة احتراب وصراع داخلي، ومجتمع تسوده أجواء الوئام والانسجام والوفاق. وحديثنا عن السلم الاجتماعي نقصد به حالة السلم والوئام داخل المجتمع نفسه وفي العلاقة بين شرائحه وقواه. ان من أهم المقاييس الأساسية لتقويم أي مجتمع، هو تشخيص حالة العلاقات الداخلية فيه، فسلامتها علامة على صحة المجتمع وامكانية نهوضه، بينما اهتراؤها دلالة سوء وتخلف.
يقول المفكر مالك بن نبي: نستطيع ان نقرر ان شبكة العلاقات هي العمل التاريخي الأول الذي يقوم به المجتمع ساعة ميلاده. ومن اجل ذلك كان أول عمل قام به المجتمع الاسلامي هو الميثاق الذي يربط بين الانصار والمهاجرين. ثم يشير بن نبي الى أنه كما كانت العلاقات الداخلية السلمية هي نقطة الانطلاق في تاريخ المسلمين، فإن تدهورها كان مؤشر السقوط والإنحطاط: لقد كان المجتمع الاسلامي ابان افوله غنياً، ولكن شبكة علاقاته الاجتماعية قد تمزقت. وهكذا الأمر دائما، فإذا تطور مجتمع ما على أية صورة، فإن هذا التطور مسجل كماً وكيفاً في شبكة علاقاته.. وعندما يرتخي التوتر في خيوط الشبكة، فتصبح عاجزة عن القيام بالنشاط المشترك بصورة فعالة، فذلك أمارة على أن المجتمع مريض، وانه ماض الى النهاية. أما اذا تفككت الشبكة نهائياً، فذلك إيذان بهلاك المجتمع. وحيئنذ لا يبقى منه غير ذكرى مدفونة في كتب التاريخ. ولقد تحين هذه النهاية والمجتمع متخم بالأشخاص والأفكار والأشياء. كما كانت حال المجتمع الاسلامي في الشرق، في نهاية العصر العباسي، وفي المغرب في نهاية عصر الموحدين. جاء الإسلام دعوة للسلم والسلام على مستوى العالم اجمع والبشرية جمعاء (والله يدعو الى دار السلام) وقد تكرر الحديث عن السلم والسلام في اكثر من خمسين آية في القرآن الكريم. يقول تعالى: (يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام). ويقرر القرآن الكريم أن المبدأ الأساس في العلاقات بين البشر هو مبدأ السلم والتعاون يقول تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند الله اتقاكم). كما يوجه الاسلام الأمة المسلمة الى انشاء العلاقات السلمية القائمة على البر والقسط والاحسان مع الأمم الاخرى، أما المواجهة فهي محصورة في حدود من يمارس العدوان ضد الاسلام والمسلمين، أو يمنع حركة الدعوة الى الله تعالى، يقول تعالى: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا ان الله لا يحب المعتدين). ويقول تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا اليهم ان الله يحب المقسطين) وحتى لو نشبت الحرب والمعركة مع المعادين المعتدين فإن الاسلام يشجع على اغتنام أي فرصة لايقاف الحرب والقتال اذا ما اظهر الطرف الآخر ارادته في التراجع عن عدوانه والرغبة في اقامة علاقات سلمية. يقول تعالى: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله).
ويقول تعالى: (فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا اليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا). ويقول الامام علي (عليه السلام) في عهده لمالك الاشتر: «ولا تدفعن صلحاً دعاك اليه عدوك ولله فيه رضى، فإن في الصلح دعة لجنودك، وراحة من همومك، وأمنا لبلادك».
السلم الداخلي وإذا كانت هذه دعوة الاسلام على المستوى العالمي وفي العلاقة بين الأمة وسواها، فمن الطبيعي ان تكون اكثر تأكيدا والحاحا على الصعيد الداخلي. لذلك تناولت العديد من آيات القرآن الكريم وتشريعات الاسلام قضية الوحدة والوئام والسلم ضمن الكيان الإسلامي.
يقول تعالى: (إن هذه امتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) ويقول تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم اذ كنتم اعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته اخوانا). وفي اشارة واضحة الى الآثار التدميرية للنزاع الداخلي يقول تعالى: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا ان الله مع الصابرين). فنتيجة النزاع الفشل وانهيار القوة. أما الآية الكريمة رقم 208 من سورة البقرة فهي أمر واضح ودعوة صريحة للالتزام بالسلم الاجتماعي، وتقرير له كشعار للمجتمع، وتحذير من الانزلاق عن مساره. يقول تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين).
ورغم ان اكثر المفسرين قالوا بأن المقصود من السلم في الآية الكريمة هو الإسلام والطاعة لله، الا ان بعض المفسرين رجح ان يكون المقصود هو السلم بمعناه اللغوي أي الصلح والمسلمة وترك النزاع والاحتراب داخل المجتمع. وهو الرأي الراجح بالفعل. ونقتطف من كلام الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في تفسير التحرير والتنوير حول هذه الآية الكريمة الفقرات التالية: حقيقة السلم الصلح وترك الحرب. وقالوا يطلق السلم بلغاته الثلاث (السلم، السلم، السلم) على دين الاسلام ونسب الى ابن عباس ومجاهد وقتادة وانشدوا قول امرئ القيس بن عابس الكندي في قضية ردة قومه: دعوت عشيرتي للسلم لما رأيتهموا تولوا مدبرينا فلست مبدلا بالله ربا ولا مستبدلا بالسلم دينا وهذا الاطلاق انفرد بذكره اصحاب التفسير ولم يذكره الراغب في مفردات القرآن ولا الزمخشري في الأساس وصاحب لسان العرب وذكره القاموس تبعا للمفسرين، وذكره الزمخشري في الكشاف حكاية قول في تفسير السلم هنا فهو اطلاق غير موثوق بثبوته، وبيت الكندي يحتمل معنى المسالمة أي المسالمة للمسلمين ويكون قوله (دينا) بمعنى العادة اللازمة كما قال المثقب العبدي يذكر ناقته: تقول وقد درأت لها وضيني أهذا دينه أبداً وديني والوضين: بطان منسوج بعضه على بعض يشد به الرحل على البعير، أراد أنه سريع الحركة.فكون السلم من أسماء الصلح لا خلاف فيه بين أئمة اللغة فهو مراد من الآية لا محالة وكونه يطلق على الإسلام اذا صح ذلك جاز أن يكون مرادا ايضاً ويكون من استعمال المشترك في معنييه. ويجوز ان يكون المراد من السلم هنا المعنى الحقيقي ويراد السلم بين المسلمين يأمرهم الله تعالى بعد ان اتصفوا بالايمان بأن لا يكونوا بعضهم حرباً لبعض كما كانوا عليه في الجاهلية.
وممن رجح هذا الرأي الشيخ محمد جواد مُغنية من علماء الإمامية. قال في التفسير الكاشف: قيل المراد بالسلم هنا الإسلام، وقيل: معنى السلم الصلح، والمعنى ادخلوا في الصلح جميعاً. والذي نراه أن الله سبحانه وتعالى أمر من يؤمن به ايماناً صحيحاً ان يدخل في ما فيه سلامته في الدنيا والآخرة، وطريق السلامة معلوم لدى الجميع، وهو التعاون والتآلف، وترك الحروب والخصام. ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى: (ولا تتبعوا خطوات الشيطان انه لكم عدو مبين) بعد قوله بلا فاصل (ادخلوا في السلم كافة) حيث اعتبر الله سبحانه خطوات الشيطان الطريق المضاد للسلم، ووضع الإنسان أمام أمرين لا ثالث لهما: إما الدخول في السلم، وإما اتباع خطوات الشيطان التي هي عين الشقاق والنزاع والشر والفساد.
واخيراً: فإن صفاء اجواء المجتمع من العداوات والصراعات، يجعله مهيئاً للتعاون والانطلاق، ويحفظ قوته من الهدر والضياع، لذلك كان من الطبيعي ان تسعى القوى المناوئة لأي مجتمع من اجل تمزيق وحدته واثارة العداوات بين فئاته، يقول تعالى: (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء).
مقومات السلم الاجتماعي ـ العدل والمساواة: المجتمع الذي يتساوى الناس فيه أمام القانون، وينال كل ذي حق حقه، ولا تمييز فيه لفئة على أخرى، هذا المجتمع تقل فيه دوافع العدوان، وأسباب الخصومة والنزاع.
ويصور لنا الحديث الذي أورده البخاري في صحيحه تحت رقم 2587 مدى اهتمام الرسول صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم بتربية أصحابه على التزام العدل والمساواة بين أولادهم حتى لا يكون التمييز بين الأبناء سبباً للعداوة والضغائن في ما بينهم.
يقول الإمام علي (عليه السلام) مخاطباً أحد ولاته: «استعمل العدل واحذر العسف والحيف، فإن العسف يعود بالجلاء، والحيف يدعو إلى السيف». وهكذا فإن العدل يقي المجتمع أخطار التمزق والفتن، وجميل جداً ما رواه المجلسي في بحار الأنوار في الجزء 74 والصفحة 165 منسوباً إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآل وصحبه وسلم أنه قال: «العدل جنة واقية وجنة باقية» فالعدل في الدنيا وقاية من الأخطار، وفي الآخرة نعيم وثواب في جنان الخلد.
ـ ضمان الحقوق والمصالح المشروعة لفئات المجتمع: فإذا كان المجتمع يعيش نوعاً من التنوع والتعدد، في انتماءاته العرقية أو الدينية أو المذهبية أو ما شاكل ذلك من التصنيفات، فيجب أن يشعر الجميع وخاصة الأقليات بضمان حقوقها، ومصالحها المشروعة، في ظل النظام والقانون ومن خلال التعامل الاجتماعي وفي حديث آخر: «من ظلم معاهداً، أو انتقصه حقاً، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس منه، فأنا حجيجه يوم القيامة» (رواه أبو داود والبيهقي). هكذا يرعى الإسلام حقوق ومصالح من ينتمي إلى دين آخر ويعيش في كنف المجتمع الإسلامي.
أما عن التعامل مع فئة من المسلمين لها مذهب أو مسلك مخالف، ففي سيرة الإمام علي (عليه السلام) مثل إنساني حضاري رائع، حيث كان حريصاً على حماية حقوق ومصالح مناوئيه من الخوارج، مع ما أظهروه من معتقدات مخالفة لما عليه جمهور الأمة، كاعتبارهم مرتكبي كبائر الذنوب كفاراً، مخلدين في نار جهنم، وكتكفيرهم بعض الصحابة كعثمان وعلي وطلحة والزبير، وأصحاب الجمل، والحكمين ومن رضي بحكمهما وكاستحلالهم دماء المسلمين وأموالهم، إلا من خرج معهم، ومع ما ورد من أحاديث عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم في ذمهم وأنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية. لكن الإمام علياً وهو الخليفة الحاكم نهى أصحابه أن يسطوا على الخوارج حتى يحدثوا حدثاً. كما في مصنف ابن أبي شيبة صفحة 308 جـ 15 حديث رقم (19739). وجاء تحت رقم (19762) عن عبد اللّه بن الحارث عن رجل من بني نضر بن معاوية قال: كنا عند علي فذكروا أهل النهر فسبهم رجل فقال علي: «لا تسبوهم، ولكن إن خرجوا على إمام عادل فقاتلوهم وإن خرجوا على إمام جائر فلا تقاتلوهم فان لهم بذلك مقالاً». كما تكشف هذه المواقف عن عظمة نفس الإمام علي (عليه السلام)، وسيطرته الكاملة على عواطفه وانفعالاته، وإلا فأي حاكم في مكانه غالباً ما يندفع للانتقام من المناوئين الصلفين، وخاصة في مثل انحراف الخوارج وطيشهم. بهذه المقومات يتجذر السلم في المجتمع، وتوصد أبواب الفتن والنزاع، وإذا حصلت بادرة من بوادر الشر أمكن تطويقها ومحاصرتها، وهبّ الجميع لمقاومتها.
* ملخص كلمة ألقاها في ديوانية الدكتور راشد المبارك بالرياض