الوازع الديني أقوى أثراً في النفوس من القانون والعلم
الكاتب: حسن الصفار *
للدين أبعاد مختلفة تستوعب جوانب الانسان والحياة. وقد يهتم بعض المتدينين بناحية معينة من الدين ويعتبرونها الجانب الاهم فيه، وانها تشكل عمقه وجوهره. فمثلاً يركز بعض على الجانب العقيدي، ويولون قضاياه ومسائله الاهمية القصوى، باعتبار ان العقيدة هي الاصل والاساس. بينما يوجه آخرون عنايتهم نحو شعائر الدين وعباداته، كالصلاة والصيام والحج والزكاة، لما ورد فيها من النصوص آيات وأحاديث.
ويؤكد بعض ثالث على تطيبيق انظمة الاسلام وقوانينه في ادارة المجتمع، لأن اسلمة الحياة العامة تجسد حاكمية الدين ونفوذه.
وكل تلك الابعاد مهمة وأساسية. غير ان هناك بعداً آخر يحق لنا ان نعتبره عمق ا لدين، وجوهر التدين، وهو الحال التي يستهدف الدين خلقها وايجادها في نفس الانسان، وهو الوازع الديني، او ملكة التقوى، بحسب منطق القرآن والنصوص الدينية.
وما العقيدة الا ارضية لانتاج هذه الحال. فإذا لم تحصل اصبحت العقيدة مجرد معلومات مختزنة في ذهن الانسان، غير فاعلة ولا مؤثرة في حياته. وتلك هي مشكلة بعض الكافرين، الذين لا تنقصهم العقيدة كمعلومات وحقائق، لكنهم لايذعنون لها في حياتهم لغياب هذا الوزارع من نفوسهم.
وهؤلاء يقول القرآن الكريم فيهم: ﴿قل من يرزقكم من السماء والابصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الامر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون﴾ ﴿قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم. سيقولون الله قل افلا تتقون﴾. فإن تعلم وتعترف بالله تعالى لا يكفي، وإنما المطلوب ان يثمر ذلك حال التقوى في نفسك.
وعبادات الاسلام ليست مقصودة بذاتها ولذاتها وإنما هي، حسبما يبدو من نصوص الدين، برامج ووسائل لتمكين حال التقوى في نفس الانسان. فيقول الله تعالى في الصلاة: ﴿إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر﴾، فهي تهدف الى خلق هذا الوازع الذي يردع عن الانحراف، وإذا لم يتحقق هذا الهدف فلا قيمة لتلك الصلاة، كم روي عن الرسول: «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا».
والصوم حكمة تشريعية الوصول الى درجة التقوى. يقول تعالى: ﴿يا ايها الذين امنوا كتب عليكم الصيام كما على الذين من قبلكم لعلكم تتقون﴾.
والحج ما المقصود بمناسكه وشعائره؟ وهل لله تعالى غرض فيها؟ إنه عز وجل في الحديث عن الاضحية في الحج يشير الى ان ما يريده منها هو زرع ملكة التقوى عند الانسان، يقول تعالى: «لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم». وحتى الانظمة والقوانين العامة غرضها تعزيز هذا الوازع الديني في النفوس، كما يقول تعالى حول تشريع نظام القصاص والعقوبات: ﴿ولكن في القصاص حياة يا أولي الالباب لعلكم تتقون﴾. إذاً فالتقوى هي الجوهر والغاية والحصيلة من كل جوانب الدين: عقيدة وعبادة ونظاماً. ورائع جداً ما قاله أمير المؤمنين علي: «التقوى منتهى رضى الله عباده وحاجته من خلقه».
وفي نفس الانسان مجموعة كبيرة من الدوافع المتعددة والمتناقضة.
فكما يقول الفيلسوف البريطاني، برتراند راسل، «الانسان اكثر تعقيداً في نزعاته ورغباته من أي حيوان آخر، وتنشأ الصعوبات التي يواجهها من هذا التعقيد، فهو ليس اجتماعياً تماماً مثل النمل والنحل، ولا هو انفرادي تماماً مثل الاسود والنمور، انه حيوان شبه اجتماعي، وبعض رغباته ونزعاته اجتماعي، وبعضها انفرادي فهو مخلوق مادي روحي خلقه الله تعالى من قبضة من تراب ونفخة من روح، وللتراب انشداداته وميوله، كما للروح طموحاتها وتطلعاتها، ما يجعله ميدان تجاذب بين الاتجاهين».
ومع هذه التجاذبات والانشدادات المتضادة، يحتاج الانسان الى قوة تمكنه من التحكم السليم في رغباته وميوله، وتوجهها لصالح نفسه ومجتمعه. ولا قوة تتمكن من القيام بهذا الدور افضل من قوة الدين. وما نصطلح على تسميته بالوازع الديني هو قوة تدفع الانسان للخير وتمنعه عن الانحراف والشر.
وقوة القانون ليست قادرة على ذلك، لان القانون طوع واضعه، ويمكن التحايل والالتفاف عليه، ولأنه يتعامل مع ظاهر الانسان وخارجه، ولا ينفذ الى عمقه وباطنه. ويستطيع الانسان ان يفلت من عقوبة مخالفته للقانون. القانون قد يعاقب المسيىء لكنه لا يكافئ المحسن. وقال تعالى:QQ ﴿ولا تعملون من عمل الا كنا عليكم شهوداً اذ تفيضون فيه﴾، وكان رسول الله اذا قرأ هذه الآية بكى بكاء شديداً.
وقد يرى بعضهم ان تقدم وعي الانسان، وتطوره العلمي، كفيلان بضبط سلوكه وتصرفاته. لكن شاهد الواقع شيء آخر. فعلى المستوى العام تطورت وسائل العنف وأساليب التخريب والفساد، وانتشرت الاسلحة الفتاكة وأسلحة الدمار الشامل، ووظف العلم لدى الدول الكبرى لمزيد من السيطرة والهيمنة على الشعوب.
وعلى المستوى الفردي يمكننا التحدث على مشكلة التدخين.
فأضراره ومساوئه واضحة وثابتة علمياً، ألزمت شركات التدخين أن تكتب على كل علبة منه تحذيراً.
لكن العلم والوعي لم يؤثرا في انتشار التدخين وتسويقه.
ويشير تقرير عن وزارة التموين والتجارة الداخلية في مصر إلى أن أنفاق الفرد على التدخين في القاهرة يفوق أنفاقه على التعليم والترفيه والثقافة والرياضة وشركة واحدة تعمل في صناعة السجائر هي « فيليب موريس» تحقق موارد تبلغ «30» بليون دولار سنوياً وفي المملكة العربية السعودية تحدث تقرير لوكالة الأنباء السعودية عن تضاعف استهلاك سكان السعودية من التبغ ومصنوعاته لاكثر من ضعف في العالم 1995م عن العام السابق وبلغ الاستيراد 22 ألف طن ، بقيمة 844 مليون ريال.
وكان بلغ في السنة السابقة 9 آلاف طن وتحتل المملكة المركز الرابع بين أول 15 دولة مستوردة للسجائر ويقدر إجمالي ما تستورده بنحو 47 مليون سيجاره يومياً . وتبلغ الوفيات بين المدخنين ثلاثة أضعافها بين غير المدخنين ، وفي كل الأعمار ابتداء من وقت البلوغ والشباب وتقدر المنظمة العالمية عدد المدخنين في العالم ببليون ومئة مليون إنسان ، وإذا استمرت اتجاهات الاستهلاك الحالية على نفس المنوال فإن أكثر من 500 مليون شخص ممن هم اليوم على قيد الحياة سيقتلهم التبغ فيموت نصف هؤلاء وهم في سن الكهولة ويخسر واحدهم في المتوسط ما بين 20 و 25 عاما من عمره المتوقع . أما العدد الإجمالي للذين تتوقع وفاتهم بسبب التبغ فيبلغ عشرة أضعاف مجموع من لاقوا حتفهم بسبب الحرب العالمية الثانية أما التدين الصادق فأنه يوجد في نفس الإنسان وازعاً دينياً يجعله مندفعاً للخير ممتنعاً من الشر متجاوزاً ضغط الرغبات والأهواء والشهوات .
فكان الإسراف في شرب الخمر عادة سائدة في الجاهلية ويعتبرونها من المفاخر التي يتسابقون عليها في مجالسهم ولكن لما نزلت آيات تحريم الخمر سنة ثلاث للهجرة ، لم يحتج الأمر إلى أكثر من مناد في نوادي المدينة ﴿ألا أيها القوم إن الخمر قد حرمت﴾ فمن كان في بده كأس حطمها ومن كان في فمه جرعة مجها وشقت زقاق الخمر ، وكسرت قنانيه… وانتهى الامر كان لم يكن سكر ولا خمر.
هكذا يكون الوازع الديني حاكماً على تصرفات الإنسان على رغم سلطان العادة وقوة الرغبة وكمثال نشير إلى قصة تحريم التبغ والتنباك في إيران سنة 1312هـ ففي تلك السنة أعطى شاة إيران ناصر الدين القاجاري امتياز شراء التبغ وتصنيعه لشركة إنكليزية على حساب استقلال البلاد ومصلحة اقتصادها فأصدر المرجع الديني انداك ، والميرزا محمد حسن الشيرازي فتوى بتحريم التبغ والتنباك بيعاً وشراء واستعمالاً فالتزم الشعب الإيرانيين يزيد على العشرين مليوناً ، وكسرت كل نارجيلة وكل آلة تستعمل للتدخين فلما طلب الشاة أن يؤتي له بنارجيلة ، على العادة أخبروه أنه لم يبق في لاقصر نارجيلة واحدة ، لأن المرجع الديني قد حرم ذلك ما أضطره إلى فسخ امتياز الشركة الإنكليزية .
والمورد الأخر : أن يكون الإنسان في موقع قوة تجاه آخرين فأن ذلك قد يسوغ له استخدام قوته بغير حق معهم وهنا يحتاج إلى التقوى والوازع الديني ليتعامل مع الخاضعين لسلطته باحترام وأنصاف فالرجل في عائلته والرئيس مع مرءوسته والحاكم مع رعيته كلهم معرضون لهذا المنزلق ما لم يكن الوازع الديني حاضراً في نفوسهم وقد أوصى الأمام علي مالك الأشتر حينما ولاه مصر قائلاً : وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً.
وفي عهد عمر بن عبد العزيز كتب إليه وإليه على البصرة : « إن أناسً من العمال قد اقتطعوا من مال الله ، ولست أرجوا استخراجه منه ألا أمسهم بشيء من العذاب ، فأن رأي أمير المؤمنين في أن يأذن لي بشيء من ذلك فعلت ...» فكتب إليه العجب كل العجب من استئذانك اياي في عذاب بشر كأني لك جنة من عذاب الله ، وكان رضاي عنك ينجيك من سخط الله عز وجل فانظر من قامت عليه البينة ، أو أقر فخده بما أقر وأيم الله لأن يلقوا الله عز وجل بخيانتهم .
احب إلى من أن ألقى الله بدمائهم وكتب إليه وال آخر : « إني قدمت الموصل فوجدتها من أكثر البلاد سرقاً ونهباً ، فأن أدنت لي أخذ الناس بالظنة وأضربهم على التهمة ، فعلت ولن يصلحهم غير ذلك » .
فكتب إليه « خذ الناس بالبينة وما جرت عليه السنة ، فأن لم يصلحهم الحق لا اصلحهم الله ».
فهذا هو عمق التدين ، وجوهر الدين وحقيقته وأما إذا فقد الوازع الديني أو ضعف ، فأن مجرد الإيمان بالمعتقدات أو أداء العبادات كمظهر لا يعنى تديناً حقيقياً ولا يجدي أمام الله سبحانه وتعالى ، فأنه ﴿إنما يتقبل من المتقين ﴾ .
و«إنما» تفيد الحصر في اللغة العربية.
* كاتب سعودي.