النجاح في العلاقات الاجتماعية
يتعرض الإنسان من خلال علاقاته وتعامله مع الناس إلى امتحان دائم، فهو من جهة يواجه أمزجة مختلفة ونفسيات متفاوتة، ومن جهة أخرى يحتاج إلى التعامل والتعاطي الدائم معهم، ولكي يكون الإنسان ناجحاً في هذا التعامل ينبغي أن يمتلك صدراً منشرحاً ونفسية سمحة.
فالتعامل مع البشر تختلف قوانينه عن التعامل مع الطبيعة، إذ قوانين الطبيعة ثابتة بينما البشر أمزجة مختلفة، وعقول متفاوتة، ومصالح شتى، وأكثر من ذلك أن مزاج الفرد الواحد لا يكون ثابتاً دائماً بل يتقلب بتقلب الظروف والأجواء التي تحيط به، مما يضفي على الصعوبة الموجودة أصلاً صعوبة أخرى، فقد تلتقي شخصاً يوماً فيكون فيه سعيداً فرحاً مسروراً، ثم تلتقيه يوماً آخر فتجده على عكس ذلك تماماً.
وليس صحيحاً أن يلقي الإنسان باللائمة في مشكلات التعامل على الآخرين، فيعتبر نفسه بريئاً من كل نقص، أو يرى أن النقص والعيب في الآخرين فقط..، فيقول إن الناس لا يفهمونه ولا يقدرونه، وأنهم غير جديرين بالاحترام والتقدير، وإنهم لو كانوا كذا لكان تعامله معهم أفضل، ولو كانوا مثل فلان وفلان، لكنت ناجحاً معهم.
والواقع أن الناس لا يمكن أن يكونوا كما يتمنى أي شخص ويريد، فهل يتصور هذا أن اللَّه يخلق الخلق حسب مزاجه ورغبته هو؟ وهل الناس لباس تفصّله على ذوقك حتى تلبسه؟ أم أثاث تريد أن تستعمله فتعطي قياسه للنجار فيصنعه لك؟ إن الناس هم الناس.. في كل مكان تذهب إليه وسيبقون كذلك.
ولم يحقق اللَّه لأحدٍ من خلقه، حتى من أنبيائه ورسله، أن يخلق له أناساً من صفات معينة حتى ينجح في تعامله معهم.
فكيف ينجح الإنسان في تعامله مع الناس رغم اختلاف نفسياتهم؟ هذا ما تجيب عنه الآية 63 من سورة الفرقان حيث يقول اللَّه تعالى: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا﴾.
حيث تؤكد الآية أن ﴿عِبَادُ الرَّحْمَنِ﴾ الذين يخضعون لأوامره ونواهيه، يتصفون بصفة مهمة تساعد في إنجاح علاقتهم مع الآخرين وتأثيرهم عليهم، وهذه الصفة هي أنهم ﴿يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا﴾ فلا يمشون بخيلاء وتكبر وتجبر، وأنهم لا ينظرون إلى أنفسهم بتميز عن الآخرين ولا يشعرون بأنهم أرقى من بقية الناس.
وهذه النفسية المتكبرة لا يمكن أن تنجح في التعامل مع الغير، لأن أهم أسس النجاح أن يكون الإنسان قادراً على التسامي على ردات الفعل، ومتمكناً من ضبط النفس أمام كل إثارة وتهييج، وأنى للمتكبر أن يصل إلى هذا المستوى.
ثم تقول الآية الكريمة: ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا﴾ والجاهلون ليسوا بالضرورة طبقة الأميين أو غير المتعلمين بل قد يكونون أناساً متعلمين وعلماء متخصصين، غير أنهم جهّال في كيفية التعامل مع غيرهم، وهم ليسوا بالضرورة صغاراً في السن بل قد يكونون كباراً في السن إلا أن تصرفاتهم طفولية.
فالذين هم من عباد الرحمن المطيعين لا يستجيبون لإثارات الجاهلين بل يكون ردهم كما تؤكد الآية ﴿سَلاَمًا﴾.
وسلاماً هنا تعني الوداع، أي إن هذا وقت الافتراق بيننا، أي إننا لن نستجيب لكم في الوقوف عند كل تصرف جاهل تقومون به، بل سنمر عليه مرور الكرام، كما تشير إلى ذلك آية أخرى حيث يقول عز وجل: ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾[سورة الفرقان: الآية 72]. وفي آية أخرى: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ﴾[سورة القصص: الآية 55]. فليس يليق بشأنهم أن يردوا على كل تصرف جاهل، بل هم أرفع وأعلى، وهم منصرفون إلى مهماتهم وأعمالهم الطيبة الأساسية، لا ينشغلون عنها بالترهات والخصومات الجانبية.
وهذه هي الصفة التي تميزت بها الشخصيات الناجحة في التعامل مع الآخرين.
ويعطي لنا الإمام علي بن الحسين نموذجاً لتلك الشخصية فقد حدث «أن لئيماً اعتدى عليه فسبه، فأشاح بوجهه عنه، فانتفخت أوداج اللئيم وراح يقول له: إياك أعني. وأسرع الإمام قائلاً وعنك أغضي.. وتركه الإمام وانصرف»[1] .
وخرج من المسجد ذات مرة فسّبه رجل فأسرع إليه الناس للانتقام منه فنهاهم عن ذلك، وأقبل عليه قائلاً: ما ستره اللَّه عنك أكثر ألك حاجة نُعينُك عليها؟ وخجل الرجل وود أن الأرض قد ساخت به، ولما نظر إليه الإمام أشفق عليه فألقى إليه خميصة كانت عليه، وأمر له بألف درهم[2] .
هذا في حين أنك تجد بعض الناس يتفاعلون حتى مع الكلام الذي ينقل إليهم عن الآخرين رغم أن النقل قد لا يكون دقيقاً.
وينقل عن الشيخ الآخوند محمد كاظم الخراساني رحمه اللَّه، أنه كان آية في تعامله حتى مع المناوئين له وكان يهتم خصوصاً بمبادلتهم الإساءة بالحسنى..
وذات مرة دخل عليه أحد الخطباء المعروفين، ممن كانوا يعارضون الشيخ الآخوند في تزعمه لحركة المشروطة، التي تطالب الملك القاجاري في إيران بوضع دستور للبلاد وإنشاء مجلس للشورى، وكان ذلك الخطيب ينتمي إلى مجموعة أخرى كانت تسمى بالمستبدة، تطالب بأن يبقى الوضع كما هو، خوفاً من دخول القوانين غير الإسلامية في الدستور، أو نفوذ رجال من خارج الوسط الديني في مجلس الشورى، ولوجود حالة الخلاف هذه فكثيراً ما تناول ذلك الخطيب من على منبره الشيخ الآخوند بالنقد والتجريح على موقفه، وشاء القضاء أن يحتاج هذا الخطيب أن يبيع بيته حتى يسدد ديناً عليه، فقال له المشتري: إذا وقّع الآخوند على سند بيتك أشتريه وإلا فلا.. فجاء إلى النجف. والتقى الشيخ الآخوند.. احترمه الشيخ كثيراً وأجلسه في صدر المجلس وعبر له عن سروره بلقائه، فقال الخطيب: أرجو أن توقِّع هذا السند لأستطيع أن أبيع بيتي، فأخذ الشيخ السند ثم بعد فترة قام الشيخ وأخرج من خزانته عدة أكياس من الليرات، ودفعها إلى الخطيب وقال: أنت من أهل العلم وأنا لا أرضى أبداً بضغط الحاجة على أهل العلم، خذ هذا المبلغ وأدِّ ديونك ولا تبع بيتك فتشرد عائلتك. فخجل الخطيب من تصرف الشيخ ولكنه أصبح بعد ذلك من أنصار الشيخ ومحبيه[3] .
الأقربون أولى:
ومهما كانت الحاجة إلى ممارسة هذا الخلق مع الناس ماسة وشديدة، إلا أن التعامل بها مع المحيط القريب من الإنسان أهم وأكبر. فالعفو والصفح له قيمة عظيمة إذا مارسته مع الأبعدين، ولكن قيمته تزداد حينما يمارس وسط العائلة والأسرة والدائرة الأقرب للإنسان، مع الوالدين الكبيرين، ومع الزوجة والأبناء، مع الفقراء والضعفاء ومن لا حول لهم ولا قوة.
ذلك أن القوي قد يندفع الإنسان للتنازل معه بدافع من الخوف والهيبة وتجنباً للمشاكل، أما الضعيف الذي لا يملك حولاً ولا قوة، فإن التنازل له لا يحركه الخوف، بل رغبة للثواب والأجر من اللَّه وانطلاقاً من طيب الذات والمعدن.
أما بعض الناس، ونحن نسمع أحياناً شيئاً من هذه القصص، إذا أخطأ في حقهم بعض إخوانهم، فإنهم يكشرون عن أنيابهم فينتقمون منهم بشراسة. وإذا تجاوز عليهم أناس غرباء عنهم، أو أقوياء في مراكزهم، فإنهم يخنعون ويركعون ويدفنون رؤوسهم في الرمال.. ثم لا يفتأ يكرر عليك كلمات الصبر والتحمل (ما عليه، بسيطة، ما يخالف، نتحملها، شدة وتزول)، وبذلك يكونون مصداقاً لقول الشاعر:
أسد عليَّ وفي الحروب نعامة
ربداء تجفل من صفير الصافر
هلا برزت إلى غزالة في الضحى
بل كان قلبك في جناحي طائر
وليت شعري، أين كانت هذه الكلمات حينما أخطأ في حقك أخوك في النسب أو الإيمان؟ ولماذا اعتبرت ثورتك هناك استرداداً لعزتك وكرامتك التي تصورت أنها انتهكت وأهينت، أما هنا فتحولت إلى صابر محتسب؟ فأينك إذاً من قول اللَّه عز وجل: ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾؟[سورة المائدة: الآية 54].
إن طريق الفرد، والمجتمع للنجاح في تحدي العلاقة مع الآخرين، يمر حتماً عبر هذه المقدمة، وما لم يكن الإنسان قادراً على التحكم في ردات فعله على تصرفات الغير، فإنه لن يكون ناجحاً في تعامله، ولنا في سيرة النبي وأهل بيته خير أسوة وقدوة، ولنستفيد من سيرة العظماء الذين بلغوا أعلى المناصب لكنهم تغلبوا على حس الانتقام، فهذا يوسف الصديق يخاطب إخوته حينما دخلوا عليه مصر وهو ملك عليها، بعد أن أساءوا في حقه كثيراً، حسدوه، وألقوه في غيابة الجب، ثم بيع كعبد في مصر، وتعرض للسجن والاتهام، لكنه كان أسمى وأكبر من الانتقام والحقد، بل خاطبهم: ﴿قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾[سورة يوسف: الآية 92].
إن سعة الصدر صفة ضرورية للنجاح في الحياة الاجتماعية، ولتجاوز مشاكل التعاطي والتعامل مع الآخرين من القريبين والبعيدين، وهي تجعل نفس الإنسان في راحة من التفاعل مع إساءات الآخرين، كما توفر على أعصاب الإنسان ومشاعره حالة الاضطراب والتشنج الناتج من ردات الفعل على الاستفزازات المعادية.