ليلة القدر: قرارات التحوّل والتغيير
يصف اللَّه تعالى ليلة القدر بأنها ﴿خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ وأنها ليلة التقدير ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ حيث تتقرر الأحداث والأقدار والقضايا المصيرية، التي ترتبط بالإنسان والحياة، في هذه الليلة، من قبل اللَّه تعالى.
فعن ابن عباس «أن اللَّه يقدر ما يكون في كل تلك السنة من مطر ورزق وإحياء وإماتة إلى مثل هذه الليلة من السنة الآتية»[1] ، وعن الإمام علي بن موسى الرضا : «ليلة القدر يقدر اللَّه عز وجل فيها ما يكون من السنة إلى السنة، من حياة أو موت أو خير أو شر أو رزق»[2] .
فليلة القدر إذاً ليلة التقدير الإلهي، لما يجري على الناس في سنتهم القادمة، وليلة القرارات الإلهية الكبيرة، فلتكن ـ إذن ـ هذه الليلة ليلة القرارات الحاسمة عند الإنسان.
فكم يكون التوافق مباركاً، وذا قيمة عظيمة، أن يوقت الإنسان لنفسه، اتخاذ قراراته المصيرية والرئيسة، في تلك الليلة المباركة، التي جعلها اللَّه سبحانه وتعالى موعداً وميقاتاً لقدره الذي يقدره على الناس.
ثم تأتي الأجواء الروحية العظيمة التي تكتنف هذه الليلة، لتزيد من حظوظ الإنسان في اتخاذ قرارات مصيرية صائبة موفقة.
وليس من شك أن دائرة قرارات الإنسان في هذه الليلة المباركة، ينبغي أن تتسع بحيث تشمل كل ما له دور وتأثير في استقامته وصلاحه، وأن تشمل طموحات الإنسان الدنيوية والأخروية، فيضع لنفسه مخططاً وبرنامجاً عملياً وسلوكياً يسير عليه في سنته القادمة.. ثم يعاهد اللَّه في تلك الليلة، بل وفي ليالي القدر المحتملة كلها، على أن يستمر في تطبيق ذلك البرنامج، ويطلب من اللَّه المدد والعون، وأن يجعل قضاءه وقدره جل وعلا موافقاً لأمنياته وطموحاته الخيرة.
فلسفة الاستغفار
إن واحداً من أهم الأعمال في هذه الليلة هو الاستغفار، فقد ورد في مستحباتها أن يستغفر اللَّه سبعين مرة.
وعن أمير المؤمنين علي أنه قال: «عليكم في شهر رمضان بكثرة الاستغفار والدعاء، فأما الدعاء فيدفع البلاء عنكم، وأما الاستغفار فتمحى به ذنوبكم»[3] ، ويندد النبي الأكرم بمن يحرم نفسه من الحصول على مغفرة اللَّه في هذا الشهر العظيم بقوله : «الشقي من حرم غفران اللَّه في هذا الشهر العظيم»، ويقول : «من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له فأبعده اللَّه»، وقال أيضاً: «من لم يغفر له في شهر رمضان ففي أي شهر يغفر له».
وليس رمضان سوى مدرسة روحية، ودورة تربوية يتخرج فيها الإنسان وقد تخلق بخصال الخير والصلاح، ليمارسها في بقية سنته، من هنا فإن التوجيهات الإسلامية بضرورة كثرة الاستغفار، تؤكد أهمية ذلك في كل حياة الإنسان..
يقول الرسول : «أكثروا من الاستغفار فإن اللَّه عز وجل لم يعلمكم الاستغفار إلا وهو يريد أن يغفر لكم»[4] وقال الإمام الصادق : «كان رسول اللَّه يتوب إلى اللَّه في كل يوم سبعين مرة من غير ذنب»[5] .
إن الاستغفار الحقيقي ليس هو مجرد قول: «أستغفر اللَّه» وتحريك اللسان بهذه الألفاظ، بل إن هذه الألفاظ ينبغي أن تكون شعاراً ظاهراً، لقرار عميق الجذور في نفس المستغفر.
إن مصداقية الاستغفار ـ في الحقيقة ـ مرهونة باشتماله على خطوتين رئيستين مهمتين:
الأولى: اكتشاف الخطأ، والإقرار بوجوده، وأنه خطأ لا يجوز الاستمرار عليه.
الثانية: التصميم على الإقلاع عنه والتخلص منه.
فإذا ما عرفت الخطأ وشخصته، ثم صممت على تجاوزه والإقلاع عنه، فتعلن حينئذ عن قرارك القلبي ذلك، بلسانك وتقول: «أستغفر اللَّه ربي وأتوب إليه».
إن الاستغفار بهذا المعنى يتحول من ذكر مجرد، إلى نقلة نوعية نحو واقع أفضل وأصوب، ويصبح دواءً لأمراض الإنسان وعلله، يقول : «ألا أدلكم على دائكم ودوائكم؟ ألا إن داءكم الذنوب ودواؤكم الاستغفار»[6] .
ولو سألنا رسول اللَّه : أي نوع من الاستغفار هذا الذي تصفه لنا دواءً يا رسول اللَّه؟ لقال كما في الحديث عنه : «خير الاستغفار عند اللَّه الإقلاع والندم»[7] .
أما إذا كان الاستغفار مجرد تحريك اللسان، ولا يكشف عن أي تصميم داخلي للإقلاع عن الذنب، فإنه ـ والحال هذه ـ يتحول إلى ذنب يؤاخذ عليه الإنسان، وما أبلغ قول الإمام علي في الإشارة إلى هذه الحقيقة: «الاستغفار مع الإصرار ذنوب مجددة»[8] ذلك أن هذا الاستغفار عبارة عن وعد قولي قاطع، مع عزم داخلي على عدم الوفاء به، واللَّه تعالى مطلع على ما في نفسك.
ويقول الإمام علي الرضا في كلمة رائعة: «من استغفر بلسانه ولم يندم بقلبه فقد استهزأ بنفسه»[9] ، ويقول في حديث آخر: «المستغفر من ذنب ويفعله كالمستهزئ بربه»[10] .
قرار التحّول والتغيير
إن كل إنسان معرض للخطأ ولا ينجو من الوقوع فيه إلا من عصم اللَّه، يقول تعالى: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾[سورة يوسف: الآية53] والتوفيق هو أن يتنبه الإنسان لنفسه أنه يسير على خطأ ما، أو أنه لم يتوفق بعد للوصول إلى كمال من الكمالات السامية، وهذه هي بداية التوفيق الإلهي، حيث هي نقطة التحول نحو الهداية. يقول : «إن كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون»[11] .
وهنا يحتاج الإنسان أن يقوم بمكاشفة صريحة مع نفسه، من أجل تصحيح الخطأ، ويتساءل: كيف أتمكن من الإقلاع عن ذنوبي؟ وكيف أستطيع أن أغير أخطائي ونواقصي؟
وتزداد أهمية المكاشفة، وضخامة المهمة، كلما كان الخطأ قد تحول إلى عادة، ذلك لأن «العادة طبع ثان»، «وللعادة على كل إنسان سلطان»، وبذلك تتحول العادة إلى خصم غالب على الإنسان، «العادات قاهرات» كما في كلمات أمير المؤمنين علي بن أبي طالب [12] .
والاستغفار تصميم على تغيير السلوكيات الخاطئة، وإن تحولت إلى عادة ألفها الإنسان فترة طويلة.
ولعل في الأمر شيئاً من الصعوبة، ولكن ما أعطاه اللَّه للإنسان من إرادة وعزم، وعقل وقدرة على الاختيار، كل ذلك يتيح للإنسان التغلب على نواقصه وأخطائه.
صحيح أن التوفيق الإلهي لا بد من حصوله حتى يتمكن الإنسان من التغيير، ولكن التوفيق تابع لإرادة الإنسان واختياره، فالذين يختارون الصلاح بإرادتهم أولاً يوفقهم اللَّه للصلاح.
﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾[سورة العنكبوت: الآية69]، ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ﴾[سورة محمد: الآية17].
أما الذين لم يختاروا الهداية فإن اللَّه لا يهديهم ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ﴾[سورة الجاثية: الآية23].
إن هداية اللَّه للإنسان تعقب اختيار الإنسان لها.. كما لا يصح للإنسان أن يحتج بتحكم عادته منه، لأن بإمكانه أن يستخدم سلاح الإرادة ضد عادته.
لقد استخدم المسلمون الأوائل إراداتهم، وتخلصوا من الشرك، واعتنقوا الإسلام، رغم أن عادات الشرك كانت قد تحكمت فيهم، وأصبحت جزءاً لا ينفك من حياتهم.
وهؤلاء الذين يدخلون الإسلام حديثاً كيف يستطيعون أن يتخلصوا من عاداتهم المشابهة؟..
وقد نقلت جريدة الشرق الأوسط تقريراً عن خواطر بعض المسلمين الذين أسلموا حديثاً، وكان من بينهم السفير الألماني السابق الدكتور (مراد هوفمان) ذكر فيه:
أنه كان مولعاً بشرب الخمر، وكان خبيراً بأنواعه المختلفة، وكان يتصور أن من الصعب عليه جداً أن يترك الخمر، وأنه لن يستطيع أن ينام جيداً دون جرعة من الخمر!! ولكنه حينما اقتنع بالإسلام والتزم بأوامره، تسلح بالإرادة وتغلب على تلك العادة الخاطئة المتأصلة في حياته[13] .
قوة الدعاء
والأدعية التي يقرؤها المؤمن في هذا الشهر الكريم ليست هي بذاتها ـ كما يظن البعض ـ العلة التامة لحصول المغفرة، بل إنها وسيلة لتذكير الإنسان، وصرخة لدفعه، وأرضية روحية تهيئه للتغيير والتحول، فإن كان ثمة خطأ يحتاج إلى التغيير فليكن قرارك الآن بتغييره.
فمثلاً: كيف تتعامل مع أداء الصلاة؟ هل تؤديها لوقتها أم تتساهل فيها؟
وهل تواظب على صلاة الجماعة أم لا؟
وإذا كنت مستطيعاً للحج ولم تحج فكيف يجب أن تصل إلى قرار بالحج؟
وماذا عن أداء الحقوق الشرعية كالخمس والزكاة؟ إذا كنت لم تحاسب نفسك لأداء الخمس فلتتخذ قرارك هذه الليالي، لتكون أموالك طاهرة، وأكلك وشربك حلالاً، وبيتك الذي تصلي فيه، وثياب صلاتك لتكون مباحة، فذلك شرط لصحة الصلاة، ولا يتم كل ذلك إذا لم تؤدِّ الحقوق الشرعية.
وفي الجانب السلوكي كيف تعاملك مع عائلتك؟ هل أنت قائم بواجباتك تجاه والديك وزوجتك وأولادك؟ وأين هو مجال التقصير والنقص؟
وفي العلاقات الاجتماعية هل لديك عداء مع أحد؟ ولماذا تستمر في العداء مع آخرين من أبناء مجتمعك؟
وحتى في العادات الشخصية كالتدخين، والعادات غير المناسبة صحياً أو اقتصادياً، عليك أن تتحلى بالشجاعة لاتخاذ قرارات التغيير والتحول تجاهها.
صعوبة القرار
إن تلاوة القرآن وقراءة الأدعية المأثورة، والوعي بقيمة الزمن المبارك كليلة القدر، كل ذلك يحفز إرادة الإنسان، ويستنهض شجاعته، ويستثير ثقته بنفسه، ليتخذ القرارات الصعبة التي يغيّر بها الخطأ من عاداته وممارساته.
كما أن للأجواء المحيطة بالإنسان إن كانت صالحة أثراً في مساعدته على التحّول إلى الخير والصلاح. وعلى العكس من ذلك لو كان ضمن أجواء سلبية فاسدة.
فليكن قراره الأول هو مغادرتها والتخلص منها.
نرجو أن يوفق اللَّه الجميع لاغتنام فرصة هذه الليالي المباركة لاتخاذ القرارات التغييرية نحو الأفضل، ولو اتخذ كل إنسان منا ولو قراراً واحداً صالحاً، والتزم به طوال السنة لأدركنا خيراً كثيراً.
إن البعض قد يقرر ولكنه يضعف ويتراجع عند التنفيذ، والبعض يلتزم بقراره لفترة ثم يتساهل ويميّع قراره، وهذا يكشف أنه لا يحترم نفسه، ولا يقدّر التزاماته تجاهها.
يقول الإمام الصادق : «من عمل عملاً من أعمال الخير فليدم عليه سنة ولا يقطعه دونها»[14] .