الخصومة في الدين: هل لها مبرر؟
تعكّر الخصومات صفو حياة الأفراد، وتزوّر من اهتمامات المجتمع، وتزّيف من توجهاته.
حيث تستهلك الخصومة جانباً كبيراً من اهتمام الإنسان، وتستنـزف الكثير من طاقته، فيصرف فيها جهداً، ويبذل من أجل تسجيل الانتصار فيها فكراً وأعصاباً، كان الأجدر به أن يوجهه للبناء والتنمية والرقي نحو الخير..وكلما تخلصت المجتمعات من سطوة الخصومات، وأزمة النزاعات، استطاعت أن تركز جهودها من أجل تحقيق المصلحة الإيجابية العامة، والهدف الأكبر النبيل.
أرضية الخصومة
والخصومة قد يكون سببها الاعتداء على الحقوق، أو وهم الاعتداء..
فإذا ما اعتدى طرف ما على حقوق الآخرين، فإن ذلك سيحّرض عندهم غريزة الدفاع عن النفس لردّ الاعتداء، والإسلام يؤكد أهمية احترام حقوق الآخرين، المادية والمعنوية، ويحّرم بشدة أي اعتداء أو جور، وإذا ما حصلت إساءة أو اعتداء بين أبناء المجتمع، فإنه يشجع على العفو والتسامح ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾[سورة الشورى: الآية40]. ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾[سورة آل عمران: الآية134].
وعنه : «تعافوا تسقط الضغائن بينكم»[1] .
وتارة يكون سبب الخصومة مجرد الوهم بأن الطرف الآخر قد اعتدى، أو أنه ربما يقوم باعتداء في المستقبل، مما يدخل تحت عنوان سوء الظن بالآخرين، أو الشعور بالحسد من موقعيتهم، والغيرة على الذات منهم، يقول الإمام علي : «سوء الظن يفسد الأمور ويبعث على الشرور»، «من غلب عليه سوء الظن لم يترك بينه وبين خليل صلحاً»[2] .
ويمكن تصنيف الخصومات والعداوات إلى نوعين:
ـ خصومات دينية.
ـ خصومات مصلحية، لنزاع على مال أو موقع أو لذة.
وقد حوت سجلات التاريخ أحداثاً داميةً جرت بسبب خلاف ديني عقائدي، وإن كان في الكثير من الأحيان يخفي تحته خلافاً مصلحياً مادياً، ويكون الدين مجرد واجهة أو عنواناً أو سلاحاً في المعركة.
الخصومة في الدين
هل في الدين ما يبرر الخصومة؟ وبعبارة أخرى، هل يجوز لمن يختلفون لأسباب دينية عقائدية أن يعبروا عن اختلافاتهم تلك بالحروب والمعارك؟
في الحقيقة إننا حينما نتتبع أحكام الشريعة نجد أنه لا يوجد ما يبرر الخصومة في الدين على الإطلاق وذلك للأسباب التالية:
أولاً: إن الدين شأن قلبي، ولا يمكن إخضاع الناس لعقيدة ما، ما لم يقتنعوا بها. ولقد خلق اللَّه الناس أحراراً ولم يجبرهم حتى على الإيمان به، ولم يخوّل حتى الأنبياء والرسل أن يفرضـوا على الناس الإيمان ﴿لاَ إِكـْرَاهَ فِي الـدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشـْدُ مِنْ الغَيِّ﴾.
﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ.لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ﴾ [سورة الغاشية، الآية21 ـ 22].
﴿وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [سورة الكهف، الآية29].
ثانياً: إن الخيار الوحيد المتاح للإنسان من أجل إقناع الغير بما يعتقد به هو، ويراه صحيحاً، هو الحوار والمجادلة، أما العداوة والمخاصمة فإنها ليست عاجزة عن إقناع الطرف الآخر فحسب، بل ومن شأنها أن تحوله إلى عدو لدود، وعندما تنعكس المعادلة تنعكس النتيجة ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ [سورة فصلت، الآية24].
ويؤكد القرآن الكريم أن الجدال والنقاش مع أهل الكتاب، إما أن يكون بالتي هي أحسن، أو لا يكون أصلاً ﴿وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [سورة العنكبوت، الآية46]. ويقول تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ [سورة النحل، الآية125].
ثالثاً: إذا جاز لك أن تعادي الناس وتخاصمهم لأنهم تمسكوا بقناعاتهم دون قناعتك، فإن ذلك يعني أن لهم نفس الحق في التعامل معك بالأسلوب نفسه، والحال أنك لا تقبل بذلك، وتود لو أن الناس يحترمون عقيدتك وقناعاتك، وما دمت كذلك فـ «عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به».
يقول الإمام علي : «اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك، أحبب لغيرك ما تحب لنفسك واكره له ما تكره لها».
وتأسيساً على هذه الحقائق، فإن الإسلام لم يشرع الجهاد والحرب مع الكفار إلا في حالة الدفاع، إذا ما قاموا بالاعتداء على المسلمين، أو في حالة صدهم وتعويقهم لنشر الإسلام والدعوة إليه. وفي غير ذلك فإن الإسلام يدعو إلى حسن التعامل مع الآخرين، يقول تعالى: ﴿لاَ يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [سورة الممتحنة، الآية8].
في الدائرة الإسلامية
وإذا كانت الخصومة مع أصحاب الديانات الأخرى مرفوضة، فهي مع أصحاب المذاهب الأخرى في الدين الواحد أولى بالرفض..
حيث ينطبق عنوان الإسلام على جميع المسلمين و «كل المسلم على المسلم حرام ماله ودمه وعرضه».
بل المطلوب من أصحاب كل مذهب أن ينفتحوا على المذاهب الأخرى، وقد أدّب أئمة أهل البيت تلامذتهم على ذلك.
عن معاوية بن وهب قلت للإمام جعفر الصادق : «كيف ينبغي لنا أن نصنع فيما بيننا وبين قومنا وبين خلطائنا من الناس ممن ليسوا على أمرنا؟ قال: تنظرون إلى أئمتكم الذين تقتدون بهم، فتصنعون ما يصنعون، فواللَّه إنهم ليعودون مرضاهم، ويشهدون جنائزهم، ويقيمون الشهادة لهم وعليهم، ويؤدون الأمانة إليهم»[3] .
والدائرة الأضيق ضمن الدائرة الإسلامية هي الدائرة المذهبية، حيث قد تتعدد المدارس والتوجهات ضمن المذهب الواحد، ففي المذهب الجعفري مثلاً هناك التمايز بين الأخباريين والأصوليين في مناهج الاستنباط، وهناك الاختلاف بين الشيخية وغيرهم في بعض الآراء المرتبطة بمقام أهل البيت . ثم هناك الانتماءات السياسية والاجتماعية، وتعدد مراجع التقليد.
لكن هذا الاختلاف والتمايز، لا يصح أبداً أن يكون مبرراً للخصومة والعداء، بين أبناء المذهب الواحد، والدين الواحد.
إن المجتمع حينما يكون ملتزماً بالآداب الإسلامية، ومدركاً لضرر الخصومة عليه، وحينما يكون ناضجاً في تعامله مع تكاليفه الشرعية، فإنه سوف يحوّل كل مسألة مختلف عليها علمياً، إلى نقطة قوة تضاف إلى رصيده، لا عنصر تفجير وأزمة.
وأمامنا نموذج الاختلاف في إثبات الهلال، وهي مسألة أضحت هذه الأيام مثار اهتمام الشعوب المسلمة كلها، حيث من الممكن جداً أن تعلن بعض الدول الإسلامية العيد في يوم، والدول الإسلامية الأخرى في يوم آخر..
وحتى داخل المذهب الواحد يمكن أن يختلف الرأي حول ثبوت الهلال أو عدم ثبوته.
فهل يصح أن يكون مثل هذا الاختلاف سبباً لخصومة أو نزاع داخل المجتمع؟
نظرة فقهية
ولكي نعالج الموضوع من زاويته الفقهية، لا بد لنا من ذكر مقدمة..
وهي أن المكلف أمامه خطاب تكليفي واضح، بالصوم في حالة عدم ثبوت هلال شوال، والإفطار في حالة ثبوته، وما لم يحصل له الاطمئنان بثبوت الهلال، فلا يجوز له الإفطار، بل عليه إكمال عدة الشهر ثلاثين يوماً.
أما الاطمئنان فإنه يحصل بأحد الطرق الشرعية المذكورة في الكتب الفقهية، وهي أن يرى الهلال بنفسه، أو يشهد عادلان، أو يحصل شياع وتواتر.
وبما أن الحكم دائر مدار الاطمئنان عبر أحد الطرق المذكورة، فمن أيها حصل وجب على المكلف ترتيب الأثر عليه.
وحيث إن أكثرية المكلفين لا يرون الهلال غالباً، كما أنه ليس من الميسور لكل أحد أن يستمع إلى شهادة عادلين برؤيته، وقد لا يحصل الشياع في حالات كثيرة، لكل ذلك اعتاد الناس على الركون إلى رأي العلماء المتصدين لهذه القضية، الذين هم موضع ثقتهم واطمئنانهم، وإذا ما أثبته عالم يُطمئن بالتزامه بالضوابط اللازمة، فإن الناس الواثقين به يرتبون الأثر العملي على كلامه..
وهنا يجب التأكيد على قضيتين مهمّتين جداً..
أولاً: حينما يرتب كل مكلف الأثر الشرعي الناشئ من اطمئنانه أو عدمه، فلا يجوز في حالة الاختلاف أن يعادي هذا ذاك أو العكس، لأن كلاً من الطرفين قد عمل بتكليفه الشرعي، والالتزام بالحكم الشرعي في مسألة، لا يجوز أن يكون سبباً للخصام، فلو استضاف إنسان شخصاً مسافراً في بيته، وصلى المسافر قصراً، فلا يجوز لصاحب البيت أن يعاديه لذلك!! ولو اختلف جماعة في تحديد جهة القبلة، وصلى كل منهم إلى الجهة التي يعتقد أو يظن أنها القبلة، فلا يجوز أن يكون ذلك سبباً للخصومة. نعم، يمكن لكل منهم أن يبين سبب تمسكه بهذا الرأي دون ذاك، مع مراعاة أدب الحوار وفقه الاختلاف.
ثانياً: إن اعتماد الناس على آراء العلماء في إثبات الهلال أو عدمه، لأنهم أقدر على تطبيق الموازين الشرعية، غير أن ذلك لا يصح أن يكون دافعاً لتحويل عملية إثبات الهلال أو نفيه إلى حالة فئوية، تذهب فيه كل فئة إلى رأي العالم الذي تميل إليه، مع غض النظر عن أقوال بقية العلماء..
وهذا لا يمكن أن يتم، إلا إذا كان ذلك العالم هو الوحيد في نظرهم الذي يمكن أن يورث رأيه الاطمئنان، أمّا غيره من العلماء فلا قيمة لكلامهم.
إنه لا يصح تحويل هذه المسألة الشرعية إلى قضية فئوية، فإذا ما حصل الاطمئنان للمكلف بهلال شوال، من إثبات أي عالم موثوق لديه، فيجب عليه أن يرتب الأثر على ذلك، وإذا لم يحصل له الاطمئنان بثبوته، فلا يرتب الأثر، ولو كان من أثبته مرجع تقليده، فليس هناك ارتباط بين مرجع التقليد والمكلف في هذه القضية الموضوعية، فقد يطمئن المكلف بأحد الطرق الشرعية فيفطر، بينما يكون مرجعه صائماً وبالعكس، اللَّهم إلا على مبنى نفوذ حكم الحاكم الشرعي إذا لم يعلم خطأ مستنده.
وإذا ما انطلق كل مكلف من التزامه الشرعي، فإنه يجب أن يقدر التزامات الآخرين أيضاً، ويحسن الظن بهم.
عيد المحبة والصفاء
المفروض أن نعمل جميعاً ليكون العيد مناسبة لنشر أجواء المحبة والصفاء، وتعميق المودة والإخاء، بين المؤمنين والمسلمين. لذا من المهم الالتفات إلى الأمور التالية:
1 ـ الاهتمام بموضوع الاستهلال، فهو سنّة ينبغي المواظبة عليها، فكلما ازداد عدد المستهلين، كانت فرص رؤية الهلال أكبر في الليلة المحتملة.
2 ـ أن يدلي من رأى الهلال بشهادته عند كل العلماء المتصدين في بلده، ولا يقتصر على الذهاب لبعضهم دون بعض، ليكون جميع العلماء المتصدين في جو متقارب، يساعد على وحدة الموقف.
3 ـ أن ندفع ونشجع باتجاه أن يلتقي العلماء المتصدون لإثبات الهلال مع بعضهم، ويتشاوروا فيما بينهم، لاتخاذ موقف موحد، يريح الناس من عناء الاختلاف.
4 ـ أن تحترم كل جهة رأي الجهة الأخرى عند الاختلاف في ثبوت الهلال، فمن أفطر أو صام فذلك تكليفه الشرعي بينه وبين ربه، ولا يصح اتهام النيات، ولا إساءة الظن، ولا الاعتداء على حقوق الآخرين، وتشويه سمعتهم، أو التهريج ضدهم.
5 ـ أن ننشر ثقافة التسامح، وتعاليم الإسلام في حسن العشرة، والتعامل مع الناس، وإن اختلفوا في أديانهم ومذاهبهم وآرائهم وانتماءاتهم، فهناك أحاديث عديدة وردت عن الأئمة الطاهرين ، تنهى عن الخصومة في الدين، ولا أدري لماذا نتجاهل هذه الأحايث ولا نتداولها مع حاجة الساحة إليها.؟؟
فعن الإمام جعفر الصادق : «فلا تخاصموا الناس لدينكم فإن المخاصمة ممرضة للقلب»[4] .
وعنه أيضاً : «إياكم والخصومة في الدين فإنها تشغل القلب عن ذكر اللَّه عز وجل وتورث النفاق وتكسب الضغائن»[5] .
وعن علي بن يقطين قال: قال أبو الحسن الإمام موسى بن جعفر : «مر أصحابك أن يكفوا من ألسنتهم ويدعوا الخصومة في الدين ويجتهدوا في عبادة اللَّه عز وجل»[6] .
وفي هذه الروايات إشارة إلى مضاعفات الخصومة في الدين، فهي:
أ ـ تؤذي الإنسان نفسياً (ممرضة للقلب).
ب ـ تسبب الأحقاد والعداوات في المجتمع (تكسب الضغائن).
جـ ـ تشغل الإنسان عن الاهتمامات الحقيقية (تشغل القلب عن ذكر اللَّه).