التديّن والتعقّل
تدور في أوساط بعض المتدينين، أفكار تخالف العقل والمنطق، هي أشبه بالأساطير والخرافات.. وينظر البعض منهم إلى الحياة والأشياء والأحداث نظرة ساذجة متخلفة.. كما تصدر من بعض الجهات الدينية ممارسات ومواقف سيئة شائنة.. والمؤلم في الأمر أن تلك الأفكار والنظرات والمواقف، تنسب إلى الدين، مما أوجد إشكالاً وتساؤلاً حول مدى التوافق والعلاقة بين الدين والعقل.. فهل يعني التدين تغييب العقل؟ وهل الدين بديل عن العقل؟
إن البعض من أولئك المتدينين، حينما تناقشهم حول آرائهم وأفكارهم وممارساتهم، على ضوء العقل والمنطق، يغلقون باب النقاش والحوار، على أساس أن قضايا الدين تعبدّية، وأن دين اللَّه لا يصاب بالعقول، فما هي حقيقة العلاقة بين الدين والعقل؟ وهل التدين يعني تجميد دور العقل وإلغائه؟
التلازم بين الدين والعقل
العقل نعمة كبرى ميّز اللَّه تعالى بها الإنسان على سائر المخلوقات، والدين رسالة وهدي إلهي، أنعم اللَّه تعالى به على الإنسان، فمصدر العقل والدين واحد، وهو اللَّه سبحانه وتعالى، وهما متلازمان لا ينفصل أحدهما عن الآخر، وإذا ما رأينا انفكاكاً وانفصالاً بين الدين والعقل، فيجب أن ندقق النظر، لنكتشف نقطة غموض واشتباه، فيما اعتبرناه ديناً أو عقلا، فالدين الصحيح لا يصادم العقل السليم.
والعلاقة بين الدين والعقل، علاقة تكامل ودعم متبادل، حيث يرشد العقل إلى الدين، ويوجه الدين إلى العقل.
لذا تكرر في القرآن الكريم قوله تعالى: ﴿لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾[سورة البقرة الآية164].
والوحي الإلهي إنما يخاطب العقلاء، ويستنهض عقولهم ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾[سورة الزخرف الآية2]، ويقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ.هُدًى وَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ﴾[سورة غافر الآية53 ـ 54] أي ذوي العقول.
ولو استقرأنا نصوص السنة النبوية، وأحاديث أئمة أهل البيت ، لوجدناها تؤكد التلازم الوثيق بين الدين والعقل.
فعن رسول اللَّه أنه قال: «دين المرء عقله ومن لا عقل له لا دين له»[1] .
وعنه : «إنما يدرك الخير كله بالعقل ولا دين لمن لا عقل له»[2] .
وعن الإمام علي : «العقل رسول الحق»[3] «أصل الإنسان لبه، وعقله دينه»[4] .
وعن الإمام موسى الكاظم : «إن للَّه على الناس حجتين: حجة ظاهرة، وحجة باطنة، فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة ، وأما الباطنة فالعقول»[5] .
التدّين والتعقّل
وإذا كانت العلاقة بين الدين والعقل علاقة تلازم، لا انفصال فيها ولا انفكاك، فكيف نفسّر إذاً تلك الظواهر السيئة في حياة المتدينين؟
في الواقع إن بعض المتدينين يسيئون فهم الدين، ويجمدون عقولهم لجهلهم ولسوء فهمهم، ثم يحسبون أنفسهم وتصرفاتهم على الدين، وبذلك يضرون أنفسهم، ويشوّهون الدين، وهذا ما حذّرت منه الأحاديث والنصوص الدينية، التي تؤكد أهمية التعقل في حياة الإنسان المتدين، وإلا فمن ينتسب إلى الدين، ويحمل شعاره وعنوانه، ويمارس عباداته وطقوسه، لكنه غير مستخدم لعقله، ولا مستثمرٍ لفكره، فإن تدينه سيكون مبتوراً ناقصاً، بل مشوهاً قاتماً.
عن أنس بن مالك قال: أثنى قوم على رجل عند رسول اللَّه . فقال : كيف عقله؟ قالوا: يا رسول اللَّه نخبرك عن اجتهاده في العبادة وأصناف الخير، وتسألنا عن عقله؟! فقال : إن الأحمق يصيب بحمقه أعظم من فجور الفاجر، وإنما يرتفع العباد غداً في الدرجات وينالون الزلفى من ربهم على قدر عقولهم[6] .
والحديث الشريف يفضح تصرفات بعض المتدينين الحمقى، الذين انعدم لديهم الوعي، وغاب العقل، فأصبحت ممارساتهم أسوأ من فجور الفاسقين، لأنها تشوّه صورة الدين، وسمعة المتدينين، وما يحصل الآن في الجزائر وأفغانستان وباكستان، من مذابح وفظائع واحتراب، يمارس باسم الدين، شاهد على ذلك.
وفي حديث آخر يحذرنا رسول اللَّه من الاغترار بمظاهر التدين عند أي إنسان، إذا لم نتأكد من تعقلّه، لأن التعقّل هو مقياس التدين، وميزان التقويم، يقول : «إذا بلغكم عن رجل حسن حال فانظروا في حسن عقله، فإنما يُجازى بعقله»[7] .
وتطبيقاً لهذا التوجيه النبويّ قال سليمان: قلت لأبي عبد اللَّه جعفر الصادق : فلان من عبادته ودينه وفضله كذا وكذا. قال: فقال: كيف عقله؟ فقلت: لا أدري. فقال: إن الثواب على قدر العقل[8] .
إن مشكلة بعض المتدينين أنهم يحجّمون الدين بحدود فهمهم الضعيف، وإدراكهم الساذج، ثم يعتبرون ما عداه كفراً وفسقاً، كما ينقل عن أحد المشايخ الذي كان يشرح لتلامذته عبارة فقهية تقول: إذا وقعت الفأرة في السمن فخرجت حيّةً يبقى السمن طاهراً حلالاً. ومعنى العبارة أن الفأرة لم تمت في السمن، وإنما خرجت حيّة ـ أي على قيد الحياة ـ لكن الشيخ فسّرها: أن الفأرة تخرج حيّةً ـ أي ثعباناً، فناقشه أحد تلامذته: كيف تقع الفأرة في السمن ثم تخرج ثعباناً؟ وبدلاً من أن ينتبه الشيخ لخطئه، أصر على كلامه، وطرد التلميذ من الدرس، متهماً إياه بالكفر والتشكيك في قدرة اللَّه تعالى، أليس اللَّه قادراً على أن يحوّل الفأرة إلى ثعبان؟!
التعقل واتّباع الزعامات الدينية
تقوم بعض الزعامات الدينية بدور رئيس في تغييب حالة التعقل في الساحة الإسلامية، وتكريس حالة السطحية والتخلف على المستوى الديني، وذلك أما لمحدودية وعيها وفكرها، أو لأنها تستفيد من الوضع المتخلف، فتحافظ عليه، وتنمّيه بدافع مصلحي.
وهنا يحتاج التدين إلى التعقل في مسألة اتِّباع الزعامات، والقيادات الدينية والاجتماعية، فالمسلم ليس معذوراً في تسليم قياده، وأزمة أمور دينه، لأيّ أحد، ما لم يحرز عدالته واستقامته، وحتى العالم العادل، لا يصح اتباعه بعين مغمضة وثقة عمياء، ما دام ليس معصوماً، ومعرضاً للانحراف والخطأ.
فلابد من التفكير والتعقل في اختيار الجهة الدينية التي تتبعها، سأل ابن السكيت الكوفيN الإمام علي بن موسى الرضا : ما الحجة على الخلق اليوم؟ فأجاب الإمام : العقل، يعرف به الصادق على اللَّه فيصدّقه، والكاذب على اللَّه فيكذبه.
فقال ابن السكيت: هذا واللَّه هو الجواب[9] .
وعالم الدين محكوم بمبادئ الدين، وضوابط العقل، فينبغي أن نقوّم آراءه ومواقفه على ضوء ذلك، ولا يصح اتباعه وإطاعته فيما يخالف الدين، ويتنافى مع العقل.
جاء في صحيح البخاري عن أبى عبد الرحمن عن علي بن أبي طالب قال: بعث النبي سريّة ـ فرقة صغيرة من الجيش ـ فاستعمل عليها رجلاً من الأنصار، وأمرهم أن يطيعوه، فغضب، فقال: أليس أمركم النبي أن تطيعوني؟ قالوا: بلى. قال: فاجمعوا لي حطباً، فجمعوا، فقال: أوقدوا ناراً، فأوقدوها. فقال: ادخلوها، فهمّوا وجعل بعضهم يمسك بعضاً، ويقولون: فررنا إلى النبي من النار، فما زالوا حتى خمدت النار، فسكن غضبه، فبلغ النبي فقال: لو دخلوها ما خرجوا منها إلى يوم القيامة، الطاعة في المعروف[10] .
إن القرآن الحكيم يذمّ النصارى لأنهم قلّدوا زعاماتهم الدينية تقليداً أعمى، واتبعوهم اتباعاً مطلقاً، دون أية ضوابط من دين أو عقل، فكأنهم بذلك يؤلهونهم ويعبدونهم من دون اللَّه.
يقول تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾[سورة التوبة الآية31].
قال عدي بن حاتم: قلت لرسول اللَّه : إنا لسنا نعبدهم، قال : أليس يحرمون ما أحل اللَّه فتحرمونه، ويحلون ما حرم اللَّه فتستحلونه؟ قال: قلت: بلى. قال: فتلك عبادتهم[11] .
وعن الإمامين الباقر والصادقC أنهما قالا: أما واللَّه! ما صاموا لهم ولا صلوا، ولكنهم أحلوا لهم حراماً، وحرموا عليهم حلالاً، فاتبعوهم وعبدوهم من حيث لا يشعرون[12] .
وحينما قرر طلحة والزبير، وهما صحابيان معروفان عند المسلمين، ومعهما أم المؤمنين عائشة، زوج رسول اللَّه ، مواجهة الخلافة الشرعية، المتمثلة في أمير المؤمنين علي ، التبس الأمر على بعض المسلمين، فجاء الحارث بن حوط إلى الإمام علي قائلاً: أتراني أظن أصحاب الجمل كانوا على ضلالة؟ فأجابه الإمام: يَا حَارِثُ إِنَّكَ نَظَرْتَ تَحْتَكَ ولَمْ تَنْظُرْ فَوْقَكَ فَحِرْتَ إِنَّكَ لَمْ تَعْرِفِ الْحَقَّ فَتَعْرِفَ مَنْ أَتَاهُ ولَمْ تَعْرِفِ الْبَاطِلَ فَتَعْرِفَ مَنْ أَتَاهُ[13] .
إن بعض المتدينين قد تبهرهم شخصية عالم ما، ويبالغون في تقديسه، فيرسلون قولـه إرسال المسلمات، دون وعي أو تفكير، وهذا خلاف توجيهات الدين. روي عن علي : «خذ الحكمة ممن أتاك بها، وانظر إلى ما قال ولا تنظر إلى من قال»[14] .
وفي رواية جميلة عن الإمام جعفر الصادق : «خذوا الحق من أهل الباطل، ولا تأخذوا الباطل من أهل الحق، كونوا نقّاد الكلام، فكم من ضلالة زخرفت بآية من كتاب اللَّه، كما زخرف الدرهم من نحاس بالفضة المموّهة، النظر إلى ذلك سواء، والبصراء به خبراء»[15] .
يا له من توجيه رائع يستنهض العقل لأداء دور النقد والتقويم، تجاه الآراء والأفكار «كونوا نقّاد الكلام» ويحذّر الإنسان من أن ينطلي عليه التمويه والتدليس «فكم من ضلالة زخرفت بآية» وعلى الإنسان أن يتحلى بالبصيرة والوعي، ليكون خبيراً مميزاً بين الصحيح والخطأ، على ضوء مبادئ الدين والعقل.
مرجعية العقل
1 ـ في المعتقدات الأساس للدين يكون العقل هو المرجع، وعبر النظر والفكر يتوصل الإنسان إلى الإيمان بأصول الدين، ويرى أكثر العلماء المحققين وجوب التزام العقيدة عن طريق العقل لا النقل والتقليد، بل ادّعى العلامة الحليD الإجماع على ذلك فقال: «أجمع العلماء على وجوب معرفة اللَّه، وصفاته الثبوتية، وما يصح عليه، وما يمتنع عنه، والنبوة، والإمامة، والمعاد، بالدليل لا بالتقليد»[16] .
2 ـ في التشريع الإسلامي يستقل العقل بمرجعية قسم من الفروع والأحكام، يقول السيد محمد تقي الحكيم: «إن العقل مصدر الحجج وإليه تنتهي، فهو المرجع الوحيد في أصول الدين، وفي بعض الفروع التي لا يمكن للشارع المقدس أن يصدر حكمه فيها، كأوامر الإطاعة، وكالانقسامات اللاحقة للتكاليف، من قبيل العلم والجهل بها، أو اعتبار التقرب بها، إذا أُريد اعتبارها بجعلٍ واحدٍ شروطاً للتكاليف، للزوم الدور أو التسلسل فيها، بداهة إن إطاعة أوامر الإطاعة مثلاً إما أن ترجع إلى العقل أو تتسلسل إلى غير النهاية، إذ لو كانت شرعية لتوجه السؤال عن لزوم إطاعتها، فإن كان شرعياً توجه السؤال عن لزوم إطاعته، وهكذا فلا بد أن يفترض فيها أن تكون عقلية، وما ورد من الأوامر الشرعية بالإطاعة، فإنما هو إرشاد وتأكيد لحكم العقل، لا أنها أوامر تأسيسية»[17] .
3 ـ وبالعقل يفهم الإنسان سائر أوامر الدين، ويستنبطها من نصوصه ومصادر تشريعاته، فهو لا يستقل فيها بالتشريع، لأن المشرع هو اللَّه سبحانه وتعالى، والوحي هو مصدر التشريع، لكن فهم كلام الوحي، ومعرفة مصاديقه، وموارد انطباقاته، وتشخيص موضوعاتها، يكون المرجع فيها إلى العقل.
وهناك ضوابط نقحها وحققها العلماء في مناهج استنباط الأحكام الشرعية، تنظم عملية الاجتهاد لتحصيل الحكم الشرعي.
ويلخص الأستاذ المدرسي الدور المرجعي للعقل، ومدى تكامله مع الوحي، في بحثه القيم عن التشريع الإسلامي فيقول: «وظيفة العقل التعرف على الوحي، وفهمه، ومعرفة حَمَلته ومعرفة كيفية تطبيقه على الحقائق الفرعية»[18] .