ذوو الرأي ومسؤولية الحوار
لكي تتجاوز شعوبنا حالة التنافر السائدة في علاقات فئاتها وتجمعاتها مع بعضها البعض، وتصل إلى مستوى الانفتاح والتواصل والتعاون، لا بد من إطلاق عملية حوار مفتوح جاد، يستهدف التعرف المباشر من كل جهة إلى الأخرى، بدل الاعتماد على المعلومات غير الدقيقة، والشائعات والمواقف المسبقة، ويتوخى اكتشاف القواسم المشتركة، والتركيز على المصالح العليا للأمة، ومواجهة التحديات الخطيرة للمجتمع والوطن.
فبينما تفرض العولمة نفسها على الحياة، ويتحول العالم إلى قرية صغيرة واحدة، تتضاءل فيها تأثيرات الحدود الجغرافية والسياسية، لا يصح لنا أن نحافظ على هذه الحواجز والجدران المعززة بالعوازل، لكي تفصل بين أبناء هذه الأمة، تحت عناوين قومية أو مذهبية أو حزبية أو قبلية.
ومن اللافت للنظر، أن تكون خطوط الاتصال بين كل فئة منا والعالم، أكثر منها مع أبناء محيطها وشركائها في الدين والوطن.
والحوار بعد ذلك فريضة يلزمنا بها ديننا، الذي يأمرنا بالتثبت في أحكامنا وآرائنا، ومواقفنا تجاه الآخرين، فلا يصح لنا أن نكوّن صورة للآخر عن طريق الظنون والشائعات ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً﴾[سورة الإسراء الآية36]. ولا أن نستقي معلوماتنا عن بعضنا البعض من مصادر وجهات غير موثوقة، تزرع بيننا الفتن والعداوات ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾[سورة الحجرات الآية6].
والمسلم الملتزم هو من يتقصد الاطلاع على وجهات النظر، ويسعى ليتعرف الآراء، بحثاً عن الحقيقة ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِي.الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾[سورة الزمر الآية 17 ـ 18].
وواضح أن استخدام صيغة ﴿يَسْتَمِعُونَ﴾ في الآية الكريمة بدل يسمعون، تشير إلى نوع من العناية والقصد.
ولكن.. من يطلق عملية الحوار؟ وعلى من تقع مسؤولية المبادرة إلى تفعيله؟
يبدو لي أن المفكرين وذوي الرأي من أبناء الأمة، هم الشريحة التي يجب أن تتحمل هذه المسؤولية، فلأنهم أصحاب رأي وفكر يفترض أن يكونوا أكثر إدراكاً لعمق التحديات التي تعيشها الأمة، وأقدر على إدارة الحوار بموضوعية وإخلاص.
كما أن موقعيتهم تتيح لهم إمكانية التأثير في أوساط الفئات التي ينتمون إليها، وتوجهات الرأي العام.
فلو بادر بعض ذوي الرأي من كل جهة، للانفتاح على أمثاله من الجهة الأخرى، ومناقشة موضوع العلاقات الداخلية بين الجهات والفئات، وكيفية تأطيرها في الإطار الإسلامي والوطني، لقطعت مجتمعاتنا شوطاً متقدماً، على طريق الوحدة والانسجام والتعاون، ولوفرّنا على أمتنا خسائر القطيعة والنزاع والاحتراب.
ونقصد بذوي الرأي أصحاب الكفاءة العلمية والفكرية، ممن يمارسون دور التوجيه والتأثير في المجتمع كعلماء الدين، والمفكرين المنتجين، والقيادات الاجتماعية.
إن تقاعس ذوي الرأي الغُيَر على مصلحة الدين والوطن، عن المبادرات الإيجابية، وعن رفع الصوت عالياً بالدعوة إلى الانفتاح والحوار، هو الذي يفسح المجال، ويترك الساحة فارغة، لأصوات دعاة الكراهية والمتطرفين، من الجهات المختلفة.
ونتساءل هنا: لماذا تنعدم في الساحة ـ أو تقل ـ مبادرات ذوي الرأي في الانفتاح على بعضهم البعض، والتحاور من أجل رأب الصدع، والاهتمام بالمصلحة العامة، متجاوزين انتماءاتهم الفكرية والاجتماعية؟
وفي الجواب عن هذا التساؤل يمكن القول: إن هناك مجموعة من الأسباب والعوامل، تضعف توجه ذوي الرأي، وتقلّل مبادراتهم باتجاه الحوار، ومن أبرزها ما يلي:
1ــ ضعف الاهتمام بالشأن العام
إذا وفقّ اللَّه تعالى الإنسان لنصيب من العلم والمعرفة، وقدر من الوعي والخبرة، فإنه بنفس الدرجة يكون مسؤولاً عن توظيف ذلك في خدمة المجتمع والمصلحة العامة، لكن بعض ذوي الرأي يعيشون همومهم الخاصة، ويسعون لتأمين مصالحهم الذاتية. فإذا كان الحوار والانفتاح على الآخر لا يحقق كسباً شخصياً، فإنه لا يكون من دائرة اهتماماتهم، ولا ضمن سلّم أولوياتهم.
لقد طرحت على أحد علماء الدين موضوع علاقته مع عالم آخر، يختلف معه في التوجه، ويعمل معه في نفس الساحة الاجتماعية، فأجابني قائلاً: لا أجد نفسي بحاجة للعلاقة معه، فأموري مستقرة وأوضاعي مرتبة!!
وهذا هو منطق الكثيرين من علماء الدين أو المفكرين في مجتمعاتنا. إنه لا يشعر بحاجة شخصية، ولا يتوقع مكسباً ذاتياً من خلال الانفتاح على الآخر والحوار معه. ولكن ماذا عن المصلحة العامة؟
إنك قد لا تكون محتاجاً للآخر على المستوى الذاتي الشخصي، وهو قد لا يكون محتاجاً لك كذلك، ولكن الوطن والمجتمع يحتاج إلى تلاقح الآراء، وتضافر الجهود، وسد ثغرات الفتن والنزاعات، وترسيخ الوحدة الوطنية والاجتماعية.
2ــ مشاعر الاستعلاء أو الرهبة
حينما يكون ذو الرأي في موقع متقدم، من حيث القوة أو المنصب، أو الإمكانات المادية والاجتماعية، فإنه قد يهيمن عليه شعور بالاستعلاء والتفوق على أمثاله، من ذوي الرأي الذين لا يصلون إلى مستوى مكانته وقدرته، فيعزف عن الانفتاح عليهم، ويترفع عن الحوار معهم، لأنه لا يجدهم أنداداً، ويرى أن عليهم الخضوع له، والإقرار بأحقيته وأفضليته.
وقد لا يكون ذو الرأي شخصياً في موقع قوة، لكن انتماءه إلى فئة تكون في موقع القوة، يكفي لمنحه ذلك الشعور بالاستعلاء.
وعلى العكس من ذلك، فقد يكون الشعور بالضعف والرهبة من الطرف الآخر سبباً للعزوف عن الانفتاح والحوار، فمن لا يكون واثقاً من نفسه، أو من علمه ورأيه، فإنه يتلكأ في التواصل مع الآخرين، خوفاً من ظهور ضعفه، أو رهبة من احتوائهم له. أو أن يفتح ذلك منافذ للتأثير على جمهوره وقاعدته.
3ــ التصنيف والأحكام المسبقة
في أجواء التشنج والخصام، وحينما تتضخم مسائل الخلاف، يصنّف الناس بعضهم بعضاً تصنيفاً حاداً، ويصدرون على بعضهم البعض أحكاماً غيابية قاسية، فهذا كافر، وهذا مشرك، وهذا مبتدع، وهذا فاسق، وهذا رافضي، وهذا علماني، وهذا عميل!!! وحتى تقليد المراجع تحوّل إلى سبب للتصنيف، يُنظر إلى الناس من خلاله.
هذه التصنيفات الحادّة، وما تستبطنه من أحكام قاسية، ثم التسرع في وضع الناس ضمن هذه الخانات والقوالب الضيقة، كل ذلك يمثل حالة متخلفة، تهدم الثقة بين أبناء الأمة، كما لا تنسجم مع سماحة الإسلام، وأُفقه الأخلاقي الواسع.
وأين هؤلاء المتسرعون في تكفير الناس، واتهامهم في دينهم من قول اللَّه تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾[سورة النساء الآية94].
يقول الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور في تفسيره لهذه الآية:
«وقد دلت الآية على حكمة عظيمة في حفظ الجامعة، وهي بث الثقة والأمان بين أفراد الأمة، وطرح ما من شأنه إدخال الشك لأنه إذا فُتِح هذا الباب عَسُرَ سَدّه، وكما يتهم غيره فللغير أن يتهم من اتهمه، وبذلك ترتفع الثقة، ويسهل على ضعفاء الإيمان المروق، إذ قد أصبحت التهمة تظلُّ الصادق والمنافق، وانظر معاملة النبي المنافقين معاملة المسلمين. على أن هذا الدين سريع السريان في القلوب فيكتفي أهله بدخول الداخلين فيه من غير مناقشة، إذ لا يلبثون أن يألفوه، وتخالط بشاشته قلوبهم، فهم يقتحمون على شك وتردد فيصير إيماناً راسخاً، ومما يعين على ذلك ثقة السابقين فيه باللاحقين بهم»[1] .
وينقل ابن أبي شيبة في مصنفه أنه: سئل علي عن أهل الجمل ـ الذين تمردوا عليه فحاربهم ـ قال: قيل: أمشركون هم؟ قال: من الشرك فروا. قيل: أمنافقون هم؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون اللَّه الا قليلا. قيل: فما هم؟ قال: إخواننا بغوا علينا[2] .
وورد عن الإمام جعفر الصادق ما يؤكد مضمون هذه الرواية حيث يروي عن أبيه : أن علياً لم يكن ينسب أحداً من أهل حربه إلى الشرك ولا إلى النفاق، ولكنه كان يقول: هم إخواننا بغوا علينا[3] .
وحينما يصنف الإنسان الآخرين عدائياً، ويحكم عليهم بالإدانة سلفاً، فإنه بالطبع لا يندفع للانفتاح عليهم والحوار معهم.
ولكن حتى إذا غضضنا النظر عن خطأ التصنيف والحكم المسبق، فإنه لا يصح أن نتجاهل أن تطوراً واضحاً في مستوى الوعي، والثقة بالذات، والاستقلالية في الرأي، قد حصل في ساحة المجتمع، نتيجة للتطورات العلمية والاجتماعية، وهذا يعني أن الأيديولوجيات والمذاهب والمدارس الفكرية، ما عادت تحكم سيطرتها في جميع الآراء والمواقف على المنتمين لها، لذا لا يصح أن تحاكم شخصاً أو تدينه من خلال ما تكونه من انطباع عن الاتجاه أو الجهة التي ينتمي إليها، فالأحكام التعميمية والشمولية الكاسحة لم تعد دقيقة ولا صائبة.
ثم إن كون الآخر منتمياً لهذا الاتجاه أو ذاك، ومهما كان تصنيفك له، فإنه لا يصح أن يمنعك من إشادة جسر العلاقة الإنسانية والاجتماعية معه، وخاصة مع وجود مصلحة مشتركة، ولقد عاهد رسول اللَّه يهود المدينة ونصارى نجران، وتعاطى الخلفاء من بعده مع مختلف أتباع الديانات، وجرت اللقاءات والحوارات بين زعاماتهم والقيادات الإسلامية، ويكفينا قولـه تعالى: ﴿لاَ يَنْهـَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجـُوكُمْ مِنْ دِيَارِكـُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهـِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحـِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾[سورة الممتحنة الآية8].
4ــ ضغوط التعبئة الجماهيرية
يبالغ بعض القادة الدينيين أو المفكرين أحياناً، في تعبئة جمهوره ضد الرأي الآخر، والطرف الآخر، وإلصاق مختلف التهم والعيوب فيه، والتشكيك في نياته وأصله وفصله، ويرتب على ذلك تحريم وتجريم أي نوع من التواصل معه، أو التعاطي ولو في الحدود الإنسانية الدنيا.
ويحصل حتى ضمن المذهب الواحد، أن يعبأ المنتسبون لمرجع معين جمهورهم ضد أتباع مرجع آخر، بحيث لا يتواصلون ولا يأتّمون ببعضهم في صلاة الجماعة، ولا يتعاونون في مشاريع مشتركة.
إن مثل هذه التعبئة تصبح أسراً وقيداً على حركة منتجيها، ويجعل من الصعوبة بمكان أن يتجرؤوا على الانفتاح على الطرف الآخر، أو الحوار معه، لأن جمهورهم قد تربى على منحى مخالف.
ولا أدري ما هو المبرر الشرعي لهؤلاء في تربية جمهورهم على الأحقاد والأضغان، وسوء الأخلاق؟ مع أن القرآن الكريم يأمر المسلمين أن يتعاملوا مع الكفار المشركين بالتي هي أحسن، لإظهار وجه الإسلام الحضاري الإنساني، يقول تعالى: ﴿وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾[سورة فصّلت الآية34].
إن التعامل الحسن مع الآخرين يساعدك على استقطابهم والتأثير فيهم، بينما إساءة التعامل والأخلاق تنفّر الآخرين من الحق الذي تعتبر نفسك داعية له!!
كما يأمر اللَّه تعالى عباده المؤمنين أن يستقبلوا الناس ـ كل الناس ـ بحسن المعاشرة وطيب الكلام، يقول تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾[سورة البقرة الآية83] وفي تفسير هذه الآية الكريمة يقول عالم نجد الشيخ عبد الرحمن السعدي: «ثم أمر بالإحسان إلى الناس عموماً، فقال: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ ومن القول الحسن أمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وتعليمهم العلم، وبذل السلام، والبشاشة وغير ذلك من كل كلام طيب. ولما كان الإنسان لا يسع الناس بماله، أمر بأمر يقدر به على الإحسان إلى كل مخلوق، وهو الإحسان بالقول، فيكون في ضمن ذلك النهي عن الكلام القبيح للناس حتى الكفار»[4] .
5ــ مراكز القوى
هناك مراكز قوى خارجية وداخلية، لا يعجبها أن تسود أجواء الوئام والانسجام في شعوب الأمة، ولا أن تتصلب الوحدة الوطنية في بلاد المسلمين، لذلك تستخدم كل أساليبها ووسائلها للإبقاء على حالة التفرقة والنزاع، ولمنع أي تقارب جادّ بين الجهات والاتجاهات المختلفة.
تلك هي أبرز العوامل ـ فيما يبدو لي ـ ، التي تعيق انطلاق مبادرات الانفتاح والحوار بين ذوي الرأي من علماء ومفكري هذه المجتمعات، لكن الواعين المخلصين قادرون على تجاوزها بإذن اللَّه تعالى.
لقد آن أن يتحمل ذوو الرأي في مجتمعاتنا، وخاصة علماء الدين، مسؤوليتهم في تجاوز حالة القطيعة مع بعضهم البعض، وأن يتحلّوا بالجرأة والشجاعة في الانفتاح والحوار، وأن ينقذوا المجتمع من مشاكل الصراع والنزاع، فالتحديات والأخطار التي تواجهها أجيالنا المعاصرة، أكبر من القضايا الجانبية التي يتم على أساسها التصنيف والافتراق.