تقدم الفرد وتقدم المجتمع
يطمح كل إنسان سوّي أن يحقق لنفسه التقدم والعزة في هذه الحياة، وأن يحمي ذاته عن المكاره والنوائب، وهو طموح سليم مشروع، ولكن ما هو الطريق إلى التقدم؟ وكيف يحقق الإنسان أهدافه ومصالحه في هذه الحياة؟
إن الطريق الطبيعي هو أن يفجّر الإنسان طاقاته وقدراته، ويتعب على نفسه لنفسه، فيتعلم ويفكر ويخطط، ويعمل ويتحرك ويجتهد، وكلما اجتهد أكثر كانت فرصه في التقدم أكبر.
لكن السؤال المطروح هو عن مدى العلاقة بين تقدم الفرد وتقدم المجتمع الذي ينتمي إليه، فهل لواقع المجتمع تأثير على مستوى الفرد وواقعه؟ أم أن الفرد يمكنه أن يشكّل حالة منفصلة، فيحقق لنفسه التقدم بغض النظر عن واقع مجتمعه متقدماً كان أو متخلفاً؟
إن الأكثرية من الناس مستغرقون في همومهم الذاتية، ومتجهون إلى تحقيق مصالحهم الشخصية، دون أن يكون الهمّ الاجتماعي العام حاضراً في تفكيرهم، أو مدرجاً في جدول اهتماماتهم، ولسان حال كل واحد منهم: أني معني بنفسي، ببناء مستقبلي، وترتيب أمور حياتي.
والنظرة الواعية للحياة، تكشف للإنسان أن هناك علاقة وثيقة بين واقعه وواقع المجتمع، فمهما كانت قدراته وكفاءاته، ومهما حقق من تقدم وإنجاز، فسيبقى متأثراً بالوضع العام لمجتمعه، لذلك ينبغي أن يكون تفكيره واهتمامه ضمن دائرتين ومحورين: البناء الذاتي لنفسه، والإسهام في البناء العام للمجتمع.
ولمزيد من التوضيح نشير إلى بعض النقاط والحقائق، التي تظهر عمق الارتباط بين تقدم الفرد وتقدم المجتمع.
توفير فرص التقدم
صحيح أن الإنسان يتقدم بجده واجتهاده، وبكفاءاته وقدراته، لكن توفّر الفرص وتهيؤ الظروف، هو الذي يمكنه من تفجير طاقاته، وتفعيل نشاطه، والمجتمع المتقدم يوفر لأبنائه فرص التقدم، بينما المجتمع المتخلف تنعدم أو تقل فيه تلك الفرص.
فمثلاً في مجال التعليم، ليس طلابنا في البلاد العربية أقل ذكاءً أو نبوغاً من نظرائهم في أمريكا واليابان وأوروبا، والبعض من أبنائنا متفوق في جده واجتهاده، لكن آفاق التقدم العلمي، ومستوى البرامج التعليمية، والاهتمام بمستويات الذكاء والنبوغ، وتوفّر مجالات التعليم في جميع الحقول والتخصصات، هو الذي يعزز فرص الطالب هناك أكثر.
وفي المجال الفكري والمعرفي توجد في البلاد الإسلامية عقول جبارة، وأذهان وقّادة، لكن قلة مراكز البحوث والدراسات، وضعف وسائل التعبير عن الرأي، تجعل فرص التقدم العلمي ضئيلة، وكشاهد على ذلك فإن بعض أبنائنا في المجتمعات المتقدمة، قد حققوا تقدماً كبيراً في حقول علمية وتكنولوجية مختلفة، وأول عربي ينال جائزة نوبل في مجال علمي هو الدكتور (أحمد زويل) المصري الذي يعيش في أمريكا، ونال الجائزة لعام 1999م في الكيمياء.
تأثير الأجواء
من طبيعة الإنسان التأثر بالأجواء التي يعيشها مجتمعه، فإذا كانت أجواءً صالحة، تعبق بالقيم الرفيعة، وتدفع نحو الفاعلية والرقي، فإنها تشكل أرضية مساعدة لانطلاق الفرد وتقدمه، وإذا كانت أجواء المجتمع سيئة يهيمن عليها التخلف، وتحكمها حالة الكسل والتبرير، وتشوبها المفاسد والفتن، فإنها ستترك آثارها وبصماتها على نفسية الفرد وسلوكه في الأعم الأغلب.
الفرد لا يعيش في جزيرة معزولة، أو صحراء نائية، بل هو جزء من مجموع، يتفاعل ويتناغم مع الحالة السائدة عادةً، وهذا واضح في المجال الصحي مثلاً، حيث إن اختلاطه بالناس المصابين ببعض الأمراض، يعرّضه للإصابة عن طريق العدوى، وهكذا فإن كثيراً من الأفكار والسلوكيات، يأخذها الفرد ويتطبع عليها من خلال تكيفه الاجتماعي.
النتائج والمضاعفات
إذا ما حلت بالمجتمع مشكلة أو فتنة، فإن النتائج والمضاعفات ستشمل الجميع، دون فرق بين المشارك والمحايد، فوجود حالة فقر في المجتمع، قد تفرز آثاراً تطال الأغنياء، وانتشار المعاصي والمنكرات، ينذر بالخطر حتى على المتدينين الصالحين.
لذلك يقول اللَّه تعالى ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً﴾[سورة الأنفال الآية25]، ومن هنا أوجب اللَّه تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحمّل الإنسان ليس مسؤولية إصلاح نفسه فقط، وإنما السعي لهداية الآخرين وإصلاحهم أيضاً، لحماية أجواء المجتمع من التلوث والفساد.
ويشبّه رسول اللَّه نتائج أعمال الفاسدين على المجتمع كله، بمن يخرق سفينة فيعرضها للغرق بجميع من فيها، يقول : «مثل القائم على حدود اللَّه والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً»[1] .
وكمثال شاخص أمامنا ما يعانيه أبناء الشعب العراقي، حينما ابتلوا بحكم صدام، وسياساته الفاسدة، حيث لم يسلم من مضاعفات ونتائج هذا الفساد أحد منهم، وحتى من يرى نفسه بعيداً، وغير متدخل في شأن من الشؤون، فإنه لم يكن بمنجى من تلك المعاناة والمآسي.
موقعية المجتمع
إذا كنت تنتمي لأمة قوية، وترتبط بمجتمع عزيز، فإن ذلك يوفّر لك الحماية والمنعة، ويفسح أمامك مجالات الفرص الرابحة، أما إذا كانت أمتك مهيضة الجناح، أو كان مجتمعك ضعيفاً مستضعفاً، فلن تحظ بنظرة محترمة من الآخرين، ترعى حقوقك، وتحترم كفاءتك، وبالتالي فموقعية مجتمعك ومكانته بين المجتمعات، لها دخل في تحديد موقعيتك، ومكانتك شئت أم أبيت.
إننا نرى الآن بوضوح كيف تحسب أي جهة في العالم ألف حساب للتعامل مع أي يهودي، أو شأن من شؤون اليهود، لأنهم أصبحوا في موقعية تتيح لهم ذلك، فقبل فترة قررت الحكومة المصرية شق طريق دائري حول القاهرة، بطول 95 كم، لتخفيف ازدحام السير في عاصمة يحتشد في شوارعها يومياً زهاء 15 مليون شخص، لكن هذا الطريق يمر بمقبرة قديمة لليهود، في منطقة (البساتين) مضى عليها أكثر من سبعين عاماً، وتضم حوالي 350 قبراً، وأرض المقبرة في الأصل ليست ملكاً لليهود، بل هبة من الحكومة المصرية، وقد عرضت الحكومة إزاحة المقبرة بمقدار 30 متراً فقط، إلا أن اليهود أثاروا ضجة كبرى في العالم، وشكلوا وفداً من رؤساء الجاليات اليهودية في العالم لمقابلة الرئيس المصري والمسؤولين، وأقاموا دعاوى بمختلف العناوين أمام القضاء المصري، لمنع أي مساس بمقبرة أمواتهم، وكانت النتيجة إبقاء المقبرة وبناء جسر فوقها!!
دور الفرد في تقدم المجتمع:
من كل ما سبق يتجلى لنا الارتباط الوثيق بين واقع الفرد وواقع المجتمع، وأن من يفكر في بناء مستقبله، وإنجاز التقدم لذاته، عليه أن يستحضر التفكير والاهتمام بواقع مجتمعه، وأن يجعل ذلك جزءاً أساساً في برنامج حركته وسعيه.
كيف يسهم الفرد في تقدم مجتمعه؟
1 ـ إن اهتمام الفرد ببناء ذاته، واجتهاده في إحراز الرقي والتقدم لنفسه، هو في حقيقته إسهام منه في تقدم المجتمع، ذلك أن تقدم المجتمع حصيلة لتقدم الأفراد، فكل فرد ينجز تقدماً، يضيف قوة لرصيد المجتمع، شريطة إحساسه بانتمائه الاجتماعي، وتفاعله مع الحركة العامة للمجتمع.
2 ـ يمكن للفرد أن يوجه نشاطه وفاعليته ضمن مسعاه الذاتي، ليصب في قناة خدمة المجتمع، وإنجاح خطط تقدمه، فالطالب إذ يختار تخصصاً علمياً لدراساته العليا، عليه أن يتلمّس حاجة مجتمعه، ورجل الأعمال حين يفكّر في الاستثمار، عليه أن يتجه للمشاريع التي تنشّط حركة اقتصاد المجتمع، وتعالج بعض مشاكله، والأديب والمفكر يوظف موهبته الأدبية، وإبداعه الفكري، في استنهاض المجتمع، وتطوير واقعه..
3 ـ كدور مباشر يقوم به الفرد في تقدم المجتمع، عليه أن يقتطع جزءاً من إمكاناته الفكرية والعملية والمادية، ليصرفه في خدمة الصالح العام، وذلك عبر المشاركة في المؤسسات الاجتماعية، والنشاط التطوعي.
ومهما كان انشغال الإنسان بشؤونه الخاصة، فإن بإمكانه صرف شيء من الوقت يومياً أو أسبوعياً من أجل الخدمة العامة.
ويتصور البعض أن تحملّهم لشيء من المسؤوليات الاجتماعية، وبذلهم بعضاً من وقتهم أو جهدهم أو مالهم، سيكون على حساب شؤونهم وقضاياهم الخاصة، لكن هذا التصور ليس دقيقاً، فإن مردود ما ينفقونه في المصلحة العامة سينعكس عليهم، لما سبق بيانه من آثار ونتائج تقدم المجتمع على واقع الفرد، لذلك يقول اللَّه تعالى: ﴿إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ﴾[سورة الإسراء الآية7]. كما أن ما نعتقده من لطف اللَّه وكرمه، يعطينا الثقة والاطمئنان بتعويضه على من بذل في سبيل اللَّه، ولمساعدة عباده أضعافاً مضاعفة، يقول تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾[سورة البقرة الآية261].
وروي عن الحبيب المصطفى أنه قال: «خير الناس من ينفع فكن نافعاً لهم»[2] .
إن اللَّه تعالى يبارك للإنسان في وقته، حينما يصرف جزءاً منه في خدمة المجتمع، ويزيد في رزقه إذا بذل منه في أمور الخير، ويمنحه القوة والنشاط، لسعيه في حوائج الناس وقضاياهم، يقـول اللَّه تعالى: ﴿وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهـُوَ يُخْلِفـُهُ وَهُوَ خَيْرُ الـرَّازِقِينَ﴾[سورة سبأ الآية39]، والآية وعدٌ صادقٌ من اللَّه سبحانه وتعالى، بالتعويض على من أنفق في سبيله.
يقول الإمام علي : «مُرْ أهلك أن يروحوا في كسب المكارم، ويدلجوا في حاجة من هو نائم، فوالذي وسع سمعه الأصوات ما من أحد أودع قلباً سروراً إلاَّ وخلق اللَّه له من ذلك السرور لطفاً، فإذا نزلت به نازلة جرى لها كالسيل في انحداره حتى يطردها كما تطرد غريبة الإبل».
4 ـ لدعم مسيرة التقدم في المجتمع، على الأفراد أن يشجعوا كل مبادرة ونشاط إيجابي، ينبثق من أرض مجتمعهم، فالتشجيع والتفاعل أمر ضروري لتحفيز الإنتاجية، وتطويرها في مختلف المجالات، فالعالم إذا التف حولـه أبناء مجتمعه، والخطيب إذا تجاوب معه المستمعون، والمفكر إذا لاحظ الاستقبال لأفكاره، والأديب إذا أحس بأصداء عطائه، والمصنّع إذا راجت بضاعته، والمزارع إذا اشترى الناس إنتاجه، كل ذلك يشكل ديناميكية للتقدم والتطور في حركة المجتمع.
أما الاستهانة بالإنتاج المحلي، والطاقات الوطنية، لصالح الاستيراد من الخارج، والانشداد لما وراء الحدود، فتلك حالة انهزامية أنانية، قد تبتلى بها بعض المجتمعات، حتى شاع عند الناس المثل القائل: حمامة الحي لا تطرب.
وأصبح البعض يتفاخر بأنه يتسوق من خارج بلده، أو يستهلك المنتجات من خارج وطنه، وقد يحتج بجودتها أو إتقانها، لكن الأمر في بعض الأحيان، لا يخلو من الانبهار بالخارج، والتأثر بالدعاية والإعلام، ولكي يرتفع مستوى الجودة وتتطور الإنتاجية في الوطن، لا بد من التشجيع والدعم، مع تقديم الملاحظات التطويرية، والنقد البناء.
ومرة أخرى نضطر للإتيان بشاهد من حالة معادية، هي الحالة اليهودية، من أجل أخذ العبرة والدرس، فاليهود في كل مكان، يهتمون بتشجيع بعضهم البعض، ودعم إنتاجيتهم المحلية، وحينما بدأ السيّاح الإسرائيليون يتوافدون على الأردن، في أعقاب اتفاقية السلام بين الأردن وإسرائيل، فوجئ الوسط السياحي في الأردن ـ كما تحدثت الصحف ووسائل الإعلام ـ بسياسة التقتير الذي يتميز به السائح الإسرائيلي، فهم يحضرون معهم وجبات الطعام الخاص بهم، تحت زعم أنهم يحافظون على طقوس تناول الطعام اليهودية، التي تحتم عليهم تناول الطعام اليهودي الحلال، أو الكوشر، لكنها ليست سوى تبريرات، إذ إنهم لا يحضرون مأكلهم الحلال فقط، بل وزجاجات الماء، فهل هناك ماء حلال وآخر حرام؟ وقد تحدث رئيس وزراء الأردن السابق عبد السلام المجالي مع المسؤولين الإسرائيليين حول الموضوع، مشيراً إلى أن زجاجات الماء في الأردن أرخص منها في إسرائيل، ومع ذلك فالسياح الإسرائيليون وهم من المقتدرين الأثرياء، يحضرون معهم زجاجات الماء!! [3]
الاهتمام الاجتماعي
وأخيراً، فإن اللَّه تعالى لا يقبل أن نعيش الأنانية نفكر ونسعى في حدود الدائرة الشخصية الذاتية، إن ذلك لا يتوافق مع التدين الحقيقي الصادق، حيث يؤكد القرآن الكريم، أن تجاهل قضايا المجتمع، ومناطق الضعف فيه، دليل وعلامة على كذب ادعاء الدين، يقول تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ* فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ*وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾[سورة الماعون الآية1، 3] إن مجرد إهمال الأيتام وتركهم، وعدم الحث على الاهتمام بحاجات الفقراء، يعني أن التدين كاذب زائف. والرسول محمد يعتبر غير المهتم بأمور الأمة خارجاً عن دائرة الإسلام «من أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم»[4] .