منطلقات التجديد

يمتاز تاريخ حياة الإنسان بأنه حافل بالتطورات والتغيرات، بينما سائر الكائنات الحيّة، تتسم حياتها بنسق واحد، وطريقة واحدة، طوال التاريخ، إن بعض الحيوانات قد تقوم بمهام، وتؤدي أدواراً تبهر الإنسان بروعتها وإتقانها، لكنها تقوم بذلك ضمن وضع رتيب، وكيفية ثابتة، لا يطرأ عليها أي تجديد أو تغيير.

فالنحلة مثلاً، هذه الحشرة الجميلة النافعة، التي تنتج لنا العسل، وتنتج شمع العسل، الذي نستخدمه في منتجات عديدة، كالصمغ والشموع ومستحضرات التجميل، كما تنقل حبوب اللقاح من زهرة إلى أخرى، فتساعد النباتات على التكاثر.

هذه النحلة تعيش ضمن مستعمرة نموذجية، في قفائر أو خلايا نحل، على شكل صندوق يحتوي على قرص العسل، وهو كتلة من الحجيرات السداسية الشكل، تبنيه شغالات النحل، من الشمع الذي تنتجه أجسامها، وتحتوي كل 10 سم على نحو 60 خلية سداسية وتضم بعض المستعمرات ما بين 50 ألف و60 ألف نحلة. من بينها ملكة واحدة، مهمتها الوحيدة، وضع البيض بمعدل 2000 بيضة في اليوم في الربيع، أي بيضة واحدة كل نحو 43 ثانية، وتضم المستعمرة بضع مئات من الذكور من نسل الملكة، لا عمل لها إلا إخصاب الملكة فقط، لكن ليس الملكة التي أنجبتها، لأنها تتزاوج في العادة من ذكور مستعمرة أخرى. وهناك آلاف من النحل الشغالات، تقوم بأعمال تنظيف الخلية، وتغذية نحل العسل وتنميته وإنتاج الشمع، وبناء خلايا قرص العسل، وحراسة مدخل الخلية، وتسلم الرحيق المجموع عن طريق النحل.

وتستطيع النحلة الشغالة أن تطير بسرعة 25 كم في الساعة، وتجمع في حياتها رحيقاً يكفي لصناعة 45 جم من العسل.

هذا الترتيب الرائع والتنظيم المتقن لحياة النحل، هو وضع ثابت مضى عليه الآن منذ وجود النحل ما يقرب من 80 مليون سنة حسب تقدير العلماء، لم يلامسه تغيير أو تطوير[1] .

1 ـ التطور ميزة الإنسان

الإنسان وحده يملك العقل، وبه يتمكن من التطوير والتجديد في حياته، أما سائر الحيوانات والكائنات، فتسيّرها غرائزها وطبيعتها التي خلقها اللَّه تعالى عليها، ولا قدرة لها على التفكير والتغيير، لذا تبقى طريقتها في الحياة ثابتة رتيبة، بينما تستمر التطورات والتحولات في حياة الإنسان.

وكلما اتجه الإنسان لعقله، واستخدم فكره، وارتقى بعلمه ومعرفته، زادت وتيرة التجديد والتغيير في حياته. وبذلك يرتفع إلى مستوى تميزه كإنسان.. وإذا ما تجاهل قدراته العقلية، وجمّد تفكيره، ولم يُنَمِّ علومه ومعارفه، عاش حياة الركود والجمود، ليقترب من حضيض عالم الحيوانات الرتيب.

والدارسون لتاريخ التحولات في حياة البشر، يلحظون مدى علاقتها بالمستوى الفكري والعلمي للإنسان، لذا فإن جيلنا الحالي يبدو كأنه قد ولد في منتصف التاريخ، لأن ما حدث لجيلنا منذ ولادته حتى الآن، يعادل تقريباً كل ما حصل في التاريخ البشري منذ آدم حتى اللحظة الراهنة.

وكمثال على ذلك: في سنة 6000 قبل الميلاد، كانت أسرع وسيلة نقل للمدى البعيد، متوفرة لدى الإنسان هي الجمال، بمتوسط 8 أميال في الساعة، وظل هذا المستوى إلى حوالي1600 سنة قبل الميلاد، حين اخترعت العربة ذات العجلات، وارتفع معدل السرعة إلى حوالي 20 ميلاً في الساعة، وبقي هذا المستوى آلاف السنين، وفي الثمانينيات من القرن الماضي، وبفضل القاطرات البخارية المتطورة، استطاع الإنسان أن يصل إلى سرعة 100 ميلٍ في الساعة. لكنه بعد 58 عاماً على استخدام القاطرات البخارية، استطاع في سنة 1938م أن يطير بسرعة 400 ميلٍ في الساعة، أربعة أضعاف المستوى السابق، وبعد عشرين عاماً، في الستينيات من هذا القرن وصلت سرعة الطائرات الصاروخية إلى 4000 ميلٍ في الساعة، واستطاع الإنسان أن يدور حول الأرض في كبسولات الفضاء التي تسير بسرعة 18000 ميل في الساعة[2] .

إذاً، فالتطور والتجديد علامة على ارتقاء الإنسان في مستوى تميزه عن سائر الكائنات، ومؤشر على استثماره لنعمة العقل التي حباه اللَّه تعالى بها.

2 ـ الكون تجدّد مستمر

هذا الكون الذي نعيش فيه، هو في حالة صيرورة دائمة، وتجدد مستمر، فهناك نجوم جديدة تنشأ في الفضاء باستمرار، ويقرر الفلكيون أنهم لا يعرفون مدى اتساع الكون، فربما يمتد إلى ما لا نهاية، واكتشف الفلكيون أن معظم المجرات يتحرك بعضها بعيداً عن بعض بسرعة فائقة، وبالإضافة إلى ذلك يبدو أن المجرات الأكثر بعداً عن الأرض هي الأسرع تحركاً، ولهذا فإن معظم العلماء يعتقدون أن الكون يتسع باطراد، ففضاء العالم المتشكل من ملياردات المجرات في حالة انبساط سريعة، والبحوث الفضائية أشارت إلى وجود أدلة على أن هناك حالة تكون لمجرات جديدة في أعماق الفضاء..

وتلك حقيقة يقررها القرآن الكريم يقول تعالى: ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ[سورة الذاريات الآية47]. وفي آية أخرى يقول تعالى: ﴿يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ[سورة الرحمن الآية29]. فحالة الصيرورة في الكون مستمرة بيد اللَّه تعالى، وفي كل يوم، والمقصود باليوم هنا الوقت، أي كل وقت ولحظة، وليس الوقت الخاص من الفجر إلى آخر الليل. ففي كل لحظة هناك شأن عظيم وحدث مهم يحصل في الكون.

قال الآلوسي: فإنه تعالى لا يزال ينشئ أشخاصاً، ويفني آخرين، ويأتي بأحوال، ويذهب بأحوال، حسبما تقتضيه مشيئته عز وجل المبنية على الحكم البالغة، وأخرج البخاري في تاريخه، وابن ماجه، وابن حبان، وجماعة عن أبي الدرداء عن النبي أنه قال في هذه الآية: «من شأنه أن يغفر ذنباً، ويفرج كرباً، ويرفع قوماً، ويضع آخرين»[3] .

وجاء في خطبة للإمام علي : «الحمد للَّه الذي لا يموت ولا تنقضي عجائبه، لأنه كل يوم هو في شأن من إحداث بديع لم يكن»[4] .

وأجسامنا كجزء من هذا الكون تعيش حالة من التغيير والتجديد الدائم، فالمواد الزلالية التي توجد في خلايا دمائنا تتلف ثم تتجدد، ومثلها جميع خلايا الجسم تموت وتحل محلها خلايا جديدة، وتفيد البحوث العلمية أن دم الإنسان يتجدد تجدداً كلياً خلال ما يقرب من أربع سنين، وتتغير جميع ذرات الجسم في بضع سنين، فالجسم كنهر جارٍ. ففي كل دقيقة تموت في جسم الإنسان نحو ثلاثة بلايين خلية، وفي نفس الدقيقة يتولد عدد جديد مماثل من الخلايا، بالانقسام الخلوي، عوضاً عن الخلايا الميتة، وخلايا الجلد الميتة تتقشر، بينما تمر الخلايا الميتة من خلايا الأعضاء الداخلية إلى خارج الجسم مع الفضلات، ويتفاوت المدى الزمني للخلايا، فخلايا الدم البيضاء مثلاً تعيش لمدة 13 يوماً، بينما تعيش خلايا الدم الحمراء لمدة 120 يوماً، وخلايا الكبد حوالي 18 شهراً، أما الخلايا العصبية فتعيش حوالي 100 سنة[5] .

إذاً، فهناك حركة تجدد داخل جوهر الأشياء، وكان الفلاسفة يعتقدون أن الحركة غير ممكنة في جوهر ذات الجسم أبداً، لأنه في كل حركة يجب أن تكون ذات الجسم المتحرك ثابتة، إلا أن عوارضه قد تتغير، وإلا فإن الحركة لن يكون لها مفهوم. لكن الفلاسفة المتأخرين قد رفضوا هذه النظرية، واعتقدوا بالحركة الجوهرية، وقالوا: إن أساس الحركة هي الذات (الجوهر) التي تظهر آثارها في العوارض، وأول من بيّن هذه النظرية بشكل تفصيلي استدلالي هو المولى صدر الدين الشيرازي حيث قال: إن كل ذرات الكائنات وعالم المادة متحركة، أو بتعبير آخر، إن مادة الأجسام وجودية، كالماء الجاري الذي تكون ذاته متغيرة، وفي كل لحظة يصبح له وجود جديد، يختلف عن الوجود السابق له، ولكون هذه التغيرات متصلة مع بعضها فإنها تحسب شيئاً واحداً[6] .

أهداف التأمل والنظر في الكون

وحينما يأمرنا اللَّه تعالى بالتأمل والنظر في الكون، ويلفتنا إلى حالة التجدد والإبداع الدائم في الخلق، فذلك للأهداف التالية:

أولاً: إدراك عظمة الخالق القدير سبحانه.

ثانياً: الوعي بطبيعة السنن الحاكمة في الوجود فلا يصيبنا اليأس والقنوط.

ثالثاً: فهم دور التغيير والتجديد في حركة الحياة.

فنستوحي من ذلك الدرس والعبرة في تعاملنا مع أوضاعنا الاجتماعية، وسلوكنا الحياتي.

3 ـ سباق التطور

الحياة ميدان سباق يتفوق فيه رواد التطوير والتجديد، فالمجتمع الأكثر تجديداً، والأسرع تطوراً، يحرز التقدم ويفرض نفوذه وهيمنته، بينما المجتمع الراكد البطيء الحركة تتأسن أوضاعه، ويصيبه الهرم، ويصبح متخلفاً، يخضع لهيمنة المتقدمين.

وخاصة في هذا العصر، حيث انعدمت المسافات، وسقطت الحدود والحواجز، ولم يعد هناك مجال للتوقف والجمود، فإما أن تكون منتجاً لحركة التطوير والتجديد، أو متهيئاً لاستقبالها واستيعابها بدرجة ثانية، حتى لا تصطدم مع ثوابتك ومبادئك، وإلا فستعصف بك حركتها الجارفة، دون خيار منك، لتصبح تابعاً مستهلكاً لما ينتجه الآخرون، من سلع وأفكار وبرامج وسلوكيات.

4 ـ مواجهة التحديات

في مسيرة الحياة تواجه المجتمع مشاكل وتحديات، قد تتطلب مواجهتها نوعاً من التجديد في الأفكار، والتطوير في البرامج، والتحديث في الوسائل والأساليب، فإذا تلكأ المجتمع في حركة التغيير، وتشبث بما تعود عليه وألفه، فستهزمه التحديات، وتعرقل مسيرته المشاكل والأزمات.

ونلحظ كيف أن تحديات الطبيعة، ومشاكل الحياة، هي التي دفعت الإنسان للاكتشاف والاختراع، فابتدع الأساليب والوسائل في مختلف المجالات، وبذلك تجاوز تلك التحديات والمشاكل إلى حد كبير، وكذلك الحال على المستوى الاجتماعي، لابد من إبداع وتطوير، يمكن المجتمع من مقاومة سلبيات الواقع، والتغلب على إفرازات الظروف والأوضاع.

5 ـ الإسلام: دعوة للتجديد

واجهت رسالات السماء حالة الجمود في مجتمعاتها، والتشبث بما ورثوه من أسلافهم، وألفوه في حياتهم، ودعت المجتمعات إلى التحرر من أسر الماضي وأغلال الحاضر، والأخذ بالحق والصواب.

لكن منطق الرجعيين أمام أنبيائهم كان: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ[سورة الزخرف الآية22].

فما سار عليه الآباء، وما اعتاد عليه المجتمع، يجب أن يبقى ويستمر، وأي طرح جديد، يواجه بتحفظ ورفض، تحت شعار: ﴿مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ[سورة المؤمنون الآية24].

والإسلام كرسالة خاتمة للرسالات السماوية، يدعو البشرية للانفكاك من القيود التي تعيق وتمنع حركتها نحو الحق والتقدم، يقول تعالى عن نبيه محمد : ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ[سورة الأعراف الآية157].

ويهيب بالإنسان أن ينفتح على الآراء والأفكار المختلفة، ليكتشف الأفضل منها ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ[سورة الزمر الآية18].

ويذم عقلية الركود وحالة الجمود، لأنها تنتهي بالإنسان إلى التخلف عن ركب الحياة، وتجعله في عداد الأموات، ورد في رواية عن الإمام جعفر الصادق : «من اعتدل يوماه فهو مغبون، ومن كان في غده شرًّا من يومه فهو مفتون، ومن لم يتفقّد النقصان في نفسه دام نقصه، ومن دام نقصه فالموت خير له»[7] .

وبالمضمون نفسه هناك رواية عن الإمام موسى الكاظم [8]  وأخرى عن الإمام علي [9] .

تلك هي أهم المنطلقات التي تنبثق منها حركة التطوير والتجديد في حياة الإنسان المسلم، وللتجديد مناهجه وضوابطه، ومجالاته وآلياته، ليكون في مصلحة الإنسان ومنسجماً مع المبادئ والقيم.

 

 

 

* كلمة الجمعة بتاريخ 19 ذو القعدة 1420هـ
[1]  الموسوعة العربية العالمية ج25 ص268 ـ 278، الطبعة الثانية 1999م، الرياض.
[2]  قافلة الزيت ص16 عدد محرم1416هـ.
[3]  الآلوسي البغدادي: السيد محمود، روح المعاني في تفسير القرآن ج27 ص110 الطبعة الرابعة1985م دار إحياء التراث العربي ـ بيروت.
[4]  الحويزي: تفسير نور الثقلين ج5 ص193 الطبعة الرابعة 1412هـ مؤسسة إسماعيليان، قم.
[5]  الموسوعة العربية العالمية ج10 ص147 الطبعة الثانية 1999م الرياض.
[6]  الشيرازي:الشيخ ناصر مكارم، الأمثل ج17 ص347 الطبعة الأولى 1992م مؤسسة البعثة، بيروت.
[7]  المجلسي: محمد باقر، بحار الأنوار ج75 ص277.
[8]  المصدر السابق ص327.
[9]  المصدر السابق ج74 ص377.