الكنيسة: تاريخ من الظلم باسم الدين
إنما جاءت الشرائع السماوية والأديان الإلهية، لإقرار العدل في حياة البشر، ومقاومة الظلم والجور ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾[سورة الحديد الآية25] والقسط هو العدل.
وليس هنالك شيء بعد الشرك باللَّه تعالى، أسوأ من الظلم والاعتداء على حقوق الناس. ذلك هو جوهر دعوات الأنبياء والرسل.
لكن المؤسف هو أن بعض أدعياء الأديان، يستغلون مواقعهم القيادية، ويطلقون العنان لأهوائهم التسلطية وشهواتهم المصلحية، على حساب كرامة الناس وحرياتهم وحقوقهم، فيمارسون الظلم والعدوان باسم الدين، وتحت لوائه وشعاراته، وذلك لتبرير جورهم، ولتضليل الناس وإخضاعهم.
وإذا كان الظلم قبيحاً بكل أشكاله وصوره، فإن أبشعه وأفظعه ما يكون باسم الدين، فهو تحدٍّ مزدوج لأمر اللَّه تعالى، بالافتراء عليه أولاً ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ﴾[سورة الأعراف: الآيتان28 ـ 29] وبالبغي على عباده ثانياً.
وقد عانت البشرية كثيراً من هذا اللون من الظلم، الذي يمارس بغطاء ديني، مما أحدث ردة فعل لدى بعض المجتمعات تجاه أصل الدين، وأوجد تياراً إلحادياً يتهم الدين بأنه أفيون الشعوب، وهكذا يكون استغلال الدين أرضية للإلحاد والكفر.
وتمثل الكنيسة المسيحية عبر تاريخها الطويل أبرز مثل لاستغلال الدين، وممارسة الظلم باسمه وتحت شعاراته، فهي تنتسب لنبي اللَّه العظيم عيسى بن مريم ، وتسيطر على أكبر رقعة ومساحة دينية من البشر.
هذه الكنيسة وباعتبارها مرجعية الدين المسيحي، والمؤسسة التي ترعى شؤون أتباعه الدينية، أساءت استخدام موقعيتها، فبدلاً من أن تنشر المحبة والعدل، وتدافع عن المظلومين والمستضعفين، وتكافح الجور والظلم، كما هو جوهر الرسالات والأديان السماوية، إذا بها تصبح على العكس من ذلك تماماً.
اعتذار البابا
لقد ارتفع مستوى الوعي عند الناس وسادت المعرفة، واتضحت الحقائق، فما عادت جماهير الكنيسة خانعة مضللة كالسابق، بل توالت فيها حركات الاحتجاج، وتعالت أصوات النقد والاعتراض، ومن ناحية أخرى فإن سائر الشعوب والمجتمعات طفح بها كيل الظلم والجور، واستعادت شيئاً من ثقتها بنفسها، وبدأت المطالبة بحقوقها وبرد الاعتبار لتاريخها.
كل ذلك كان من الأسباب التي دفعت البابا يوحنا بولس الثاني إلى الاعتراف ببعض الأخطاء، وتقديم الاعتذار وطلب الصفح والمغفرة، عن تاريخ الكنيسة المظلم.
هذه المبادرة من الكنيسة جاءت استجابة لضغوط داخلية وخارجية، حيث تشكلت لجنة من ثمانية قساوسة عملوا لمدة عام كامل، لإعداد دراسة لمراجعة الأخطاء الماضية لدى الكنيسة، وقدموا للبابا مذكرة تتألف من 46 صفحة، وتقرر على أثرها إقامة احتفال خاص في يوم الأحد الماضي 12 مارس 2000م الذي سمي يوم التسامح لعرض المذكرة وإعلان طلب المغفرة والصفح من قبل البابا.
وأقيم الحفل الديني الضخم (قداس)، في كنيسة القديس بطرس في حاضرة الفاتيكان، بحضور، عدد كبير من المسؤولين الإيطاليين، ورجال السلك الديبلوماسي، وجمهور غفير قدر بأكثر من عشرين ألفاً، داخل الكنيسة والميدان الرئيسي للفاتيكان.
وتعترف المذكرة بأنه على فظاعة الأخطاء التي حصلت في تاريخ الكنيسة «فإنه لم يرد خلال تاريخ الكنيسة أية دعوة للمراجعة، والتعرض للأخطاء، وطلب المسامحة، وأن أفضل المحاولات في هذا المجال، كانت تختصر في نعت القساوسة، الذين مورست في عهودهم بعض الأخطاء، بأنهم كانوا خارجين على طقوس وتعليمات الكنيسة، وربط هذه الأخطاء بأشخاصهم دون الكنيسة نفسها»[1] .
عنف الصراع المذهبي
تحدثت المذكرة عن عنف الصراع المذهبي، وحدّة التفرقة التي حصلت بين أتباع الكنيسة المسيحيين: «حدثت خلافات كبيرة بين المسيحيين، وخاصة خلال القرن المنصرم، فمع بداية القرن الماضي (1054م) برزت خلافات حادة بين الكنيسة الشرقية والكنيسة الغربية، واستمرت لفترة طويلة، وتميزت بالعداء، وتبادل الاتهامات، وانعدام الثقة.. ومن الملحوظ أن من العقبات التي تقف دون وحدة المسيحيين هي العوامل الثقافية، والقضايا التاريخية، والتعصب الذي يغذي الخلاف بين المسيحيين»[2] .
إنها مجرد إشارة مقتضبة إلى ما عاناه المسيحيون من زعامات كنائسهم، حيث انقسمت الكنيسة على نفسها، وتعددت المذاهب المسيحية، من كاثوليك، وأرثوذكس، وبروتستانت..
وكان زعماء كل كنيسة ومذهب يعبِّئون أتباعهم ضد الكنيسة الأخرى وأتباع المذهب الآخر.. فحين اعتنق الإمبراطور قسطنطين النصرانية بداية القرن الرابع الميلادي وانحاز لآراء بولس، الذي كان يهودياً متعصباً ضد النصارى ومشاركاً في اضطهادهم، لكنه انقلب فجأة إلى المسيحية مدعياً أنه تلقى الوحي، وأصبح داعية للمسيحية يعرف باسم (بولس الرسول) مؤسس المسيحية الجديدة، القائمة على تأليه المسيح والتثليث، فقد قمعت الآراء المخالفة وسط المسيحيين.
فحينما عارض (آريوس 336م) القول بألوهية المسيح، انعقد المجمع الكنسي الأول الذي عرف بمجمع نيقية عام 325م، وقرر إدانة (آريوس) وإحراق كتاباته، وتحريم اقتنائها، وخلع أنصاره من وظائفهم، ونفيهم، والحكم بإعدام كل من أخفى شيئاً من كتاباته.
ولما ظهر مذهب (البروتستانت) في المسيحية، معترضاً على الآراء السائدة لدى الكنيسة الكاثوليكية، ومعنى كلمة (البروتستانت) في اللاتينية: المحتج، فقد اتجهت لهم الكنيسة بالاضطهاد العنيف، وكثرت المذابح، ومن أهمها مذبحة باريس في 24 أغسطس سنة 1572م، التي سطا فيها الكاثوليك على ضيوفهم من البروتستانت، الذين دعوا لباريس للتقريب بين وجهات النظر، ثم قتلوا خيانة وهم نيام، وجرت دماؤهم في شوارع باريس، وانهالت التهاني على (تشارلس التاسع) من البابا ومن ملوك الكاثوليك وعظمائهم على هذا العمل الدنيء!! والعجيب أن البروتستانت لما قويت شوكتهم مثلوا نفس دور القسوة مع الكاثوليك، ولم يكونوا أقل وحشية في معاملة خصومهم.
والكنيسة الكاثوليكية تمثل الأكثرية المسيحية، وهي تتحمل بشكل أساس مسؤولية اضطهاد الأقليات المذهبية المسيحية الأخرى، وقمع الرأي المخالف لتفسيرها للدين.
الإرهاب الفكري
تبنت الكنيسة في العصور الوسطى آراء أرسطو وبطليموس اليونانية في الطبيعة والفلك، وأطلقت عليها الجغرافيا المسيحية، وعملت على فرضها على الناس باعتبارها معتقدات دينية، وأن ما يخالفها كفر ومروق عن الدين، وأنشأت محاكم التفتيش عام 1183م، لمساءلة الناس عن آرائهم في أمور الطبيعة والكون، ومعاقبة المخالف منهم، ويقدر عدد من عاقبتهم هذه المحاكم 300.000 شخصٍ أحرق منهم 32.000 أحياءً، كان منهم العالم الطبيعي المعروف برونو، الذي حكم عليه بالقتل وأن لا تراق قطرة من دمه على الأرض، فأحرق حياً سنة 1600م، وكذلك حكم بالقتل على العالم الفلكي الإيطالي غاليلو غاليلي سنة 1642م لأنه قال بحركة الأرض ودورانها حول الشمس.
الاضطهاد والاستعمار
أشارت مذكرة الاعتذار إلى بعض المآسي التي أصابت العديد من الشعوب والمجتمعات المستضعفة، من القوى الأوربية والغربية، التي كانت تمارس طيغانها وسيطرتها الاستعمارية تحت نظر الكنيسة ورعايتها ومباركتها.
فالهنود الحمر، وهم السكان الأصليون للأمريكتين الذين نزحوا إليها من آسيا، قبل أكثر من 20.000 عام حسب تقديرات العلماء، لكن الأوربيين البيض حينما اكتشفوا أمريكا وثرواتها، جاؤوا لاستيطانها، وخاضوا مع الهنود الحمر حروباً طويلة وعنيفة، انتهت عام 1900م بإبادتهم واغتصاب أراضيهم وتشريدهم، واضطهاد من بقي منهم، فقد كان عدد الهنود الحمر في أمريكا أكثر من مليون نسمة، وفي نهاية حروب الإبادة تقلص عددهم إلى 237.000 ألفاً!!
والأفارقة السود كانت تغزوهم سفن الأوربيين العسكرية والتجارية، وتصطادهم كالحيوانات دون رحمة أو شفقة، تنتزع الولد من حضن أبيه، والبنت من حجر أمها، وتختطف الأخ من بين إخوته، وتصدرهم كرقيق إلى أوربا، يباعون ويشترون، يزرعون ويعملون في خدمة الأوربي الأبيض بإهانة وإذلال، وبحلول القرن التاسع عشر كان الأوربيون قد جلبوا إلى الأمريكتين نحو عشرة ملايين رقيق من أفريقيا!!
كما تفرجت الكنيسة على اضطهاد اليهود وإبادتهم على أيدي النازيين، واستجابة للضغط اليهودي العالمي فقد جاء الحديث عن قضيتهم في مذكرة الاعتذار أوضح من أي قضية أخرى.
أما معاناة الشعوب الإسلامية من الطغيان الأوربي خلال الحروب الصليبية بمباركة الكنيسة، فلم يأتِ الحديث عنها واضحاً، رغم أنها كانت معاناة قاسية طويلة حيث نظم الغزاة الأوربيون ثماني حملات عسكرية رئيسة، استمرت لأكثر من 200سنة من عام 1096م إلى 1270م، للاستيلاء على فلسطين وما حولها من البلاد الإسلامية، وقد طلب الإمبراطور البيزنطي (الكسيوس كومنينوس) عام 1095م المساعدة من البابا أوربان الثاني بابا الكنيسة الكاثوليكية في قتاله ضد الأتراك، ووافق البابا على ذلك، وعقد البابا في خريف 1095م مجلساً لقادة الكنيسة في (كليرمونت) الفرنسية، حث فيه الأوربيين على وقف القتال فيما بينهم، والاستيلاء على الأراضي المقدسة في فلسطين، ووعدهم بمكافآت روحية ومادية مقابل أعمالهم، وأثارت الرغبة في القتال أوربا الغربية، وانضم الآلاف إلى جيوش الغزاة!!
وما حصل من استعمار الدول الغربية لأكثر البلدان الإسلامية في أعقاب سقوط الخلافة العثمانية، وما تخلل ذلك من اضطهاد وجور لم يكن خافياً على الكنيسة ولا بعيداً عن مباركتها.
وقيام الكيان الصهيوني الغاصب في قلب المنطقة العربية والإسلامية، وحمايته ودعمه للاستمرار في وجوده وعدوانه، ليس إلا مظهراً من مظاهر التآمر والحقد الغربي على الإسلام والمسلمين..
الدرس والعبرة
لقد علمنا القرآن الكريم أن الحديث عن مظالم ومفاسد الأمم الأخرى، يجب أن يكون مبعثاً للتفكير والاعتبار، ولاستفادة الدروس والتجارب من التحولات التي حصلت لسائر الأمم، حتى نتلافى ما وقعوا فيه من أخطاء.
لذا تحدث القرآن كثيراً عن أهل الكتاب، لاشتراكهم مع المسلمين في الانتماء لرسالة سماوية، والإيمان بنبي مبعوث من قبل اللَّه تعالى، فقد جاء الحديث عن أهل الكتاب بهذا الاسم، في أكثر من 32 آية في القرآن، كما جاء الحديث عن اليهود، ما يقرب 18 مرة، وعن النصارى ما يقرب 15 مرة. ليحذر القرآن المسلمين مما فعل اليهود والنصارى بدينهم، إذ حرفوه وتلاعبوا به وأساؤوا استخدام عنوانه وشعاراته.
وحينما يعترف زعيم الكنيسة المسيحية بأخطاء الماضي بشيء من الإجمال والاقتضاب، ويطلب الصفح والمغفرة عن ذلك التاريخ المظلم، فإن ذلك يجب أن يحفّز كل مؤسساتنا وجهاتنا الدينية للحذر والوعي واليقظة، حتى لا تصاب سمعة الإسلام من خلال تصرفاتها وممارساتها.
فالظلم مدعاة لغضب الربّ وسخط الناس، بأي شكل حصل، ومن أي جهة صدر، والإسلام دين العدالة والحق، فيجب أن تكون صفحته بيضاء مشرقة ناصعة.