الإمامة بين النص والشورى
يتفق المسلمون سنة وشيعة على الإيمان باللَّه تعالى إلها واحداً لا شريك له، وعلى التسليم بنبوة النبي محمد وأنه خاتم الأنبياء والمرسلين، والاعتقاد بالبعث والمعاد يوم القيامة، ويؤمنون جميعاً بقرآن واحد منزل من قبل اللَّه تعالى، هو هذا المصحف الكريم المتداول بين المسلمين، دون زيادة أو نقصان، وأن القرآن والسنة هما مصدر الدين والتشريع. كما يتجهون إلى قبلة واحدة في أداء الصلوات الخمس، ويحجون إليها، ويؤدون الزكاة ويصومون شهر رمضان.. فهم متفقون في أصول الدين وأركانه.
ونقطة الاختلاف الرئيسة، بين الطائفتين المسلمتين السنة والشيعة، تكمن في موضوع الإمامة والخلافة، حيث يرى أهل السنة أنها أمر متروك للأمة، فهي تختار الإمام والخليفة بالشورى والانتخاب، بينما يرى الشيعة، أن الإمامة تكون بالنص والتعيين من قبل الرسول .
لماذا الحديث عن الإمامة؟
أولاً: الحديث عن الإمامة ليس له تأثير على مجرى التاريخ، وعلى ما حصل وتحقق بالفعل في حياة المسلمين، فقد كان الخليفة الأول هو أبو بكر بن أبي قحافة، وبعده كان الخليفة عمر بن الخطاب، وبعده الخليفة عثمان بن عفان، وبعده الإمام علي بن أبي طالب، وبعده ابنه الحسن، لبضعة أشهر، ثم تولى معاوية بن أبي سفيان، وتوارث الأمويون بعده الخلافة، إلى أن زالت دولتهم، وجاءت دولة بني العباس، وهكذا تسلسل الحكم في التاريخ الإسلامي كما هو معروف.
ثانياً: الحديث عن الإمامة لا ينبغي أن يكون ضمن مسار إثارة الخلافات والضغائن، ولا أن يتم بطريقة متشنجة منفعلة، تشغل المسلمين عن قضايا واقعهم المعاصر، وهم أحوج ما يكونون إلى الوحدة والوئام.
ثالثاً: من الضروري جداً أن يتعرف المسلمون إلى بعضهم البعض، وأن تتضح وجهة نظر كل طرف للآخر، بشكل موضوعي هادئ، ليس بقصد التبشير المذهبي، وأن يقتنع السني بوجهة نظر الشيعي أو العكس، وإنما لأن المعرفة والوضوح، توفر أجواء الفهم المتبادل، وتقطع الطريق على المغرضين، الذين يشوهون صورة كل جهة أمام الأخرى، ليصطادوا في الماء العكر.
إن الدول المتقدمة تعتمد الآن منهج التعارف الموضوعي حتى للجماعات الوافدة على بلدانها، من أجل دمجهم في المجتمع، وصنع أرضية لتقبلهم ومشاركتهم في الحياة العامة، وللوقوف أمام الاتجاهات العنصرية المتطرفة ضد الآخرين.
وتخوض الحكومة الإسرائيلية الغاصبة حالياً معركة في الكنيست الإسرائيلي، لأن وزير التربية والتعليم يريد إقرار بعض المناهج التي تتضمن نصوصاً أدبية لأدباء فلسطينيين، على أساس ضرورة تعرّف الإسرائيليين إلى الفلسطينيين المجاورين لهم.
وديننا الإسلامي الحنيف يربينا على الاستماع للرأي الآخر: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾[سورة الزمر الآية18] ويأمرنا أن نتأكد من معلوماتنا عن الآخرين، فلا نتهمهم بشيء عن جهل، وقبل أن نتثبّت ونتبين ﴿فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾[سورة الحجرات الآية6].
من هذا المنطلق نتحدث عن موضوع الإمامة بين النص الذي يعتقد الشيعة ضرورته فيها، والشورى التي يرى السنة تحقق الخلافة بها.
الإمامة وشمولية الإسلام
الإسلام كنظام شامل لجميع أبعاد الحياة، هل يمكن أن يهمل موضوع القيادة والإمامة في الأمة؟
إنها الموضوع الأكثر خطورة وحساسية، فلا بدّ أن يكون للإسلام فيه رأي ومنهج، ونرى أن أي نظام اجتماعي يعطي الأولوية لتحديد قضية القيادة وتداول السلطة، حتى على مستوى المؤسسة المحدودة، أو الجمعية الخيرية، فكيف يمكن إذاً أن يهمل الإسلام موضوع الإمامة؟ ولا يبين رؤيته حولها؟ ولا طريقة تداولها في المجتمع الإسلامي؟ علماً بأن هذا المجتمع جديد التكوّن والنشأة، على هدي الإسلام.
إن الفقهاء في تناولهم لصلاة الجماعة، يتناولون موضوع الإمامة في الصلاة، ويذكرون تعاليم الإسلام في تحديد الأحق أو الأولى بإمامة الجماعة، طبقاً لأحاديث مروية عن رسول اللَّه في هذا المجال، فهناك من تصح إمامته، وهناك الأحق والأولى، وهناك من تكره إمامته.. وفي الكتب الفقهية تفصيل لهذه المسألة واختلاف بين المذاهب والفقهاء على بعض تفاصيلها، فإذا كانت الإمامة في صلاة الجماعة، لها نصيب من الطرح والتحديد في الشريعة الإسلامية، فهل يمكن القول بتجاهل قضية إمامة الأمة وخلافة رسول اللَّه ؟ وأن الإسلام لم يحدد معالمها وضوابطها؟
النبي ومستقبل الدعوة
وفاة رسول اللَّه وارتحاله عن دار الدنيا، لم يكن أمرا مفاجئاً له، فهو يعلم أن شأنه كبقية الناس ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾[سورة الزمر الآية30] بل كان يشير إلى قرب أجله في الفترة الأخيرة من حياته، فهل كان يفكّر في مستقبل الدعوة والأمة بعد وفاته؟ أم أنه لم يكن مبالياً ولا مهتماً بذلك؟ إن الموقف السلبي من مستقبل الدعوة، أمر مستبعد عن رسول اللَّه ، وهو الحريص على حماية الدين ومصلحة الأمة.
كما أن الاطمئنان والثقة بالمستقبل، وأن لا خطر على الدين والأمة من الفراغ القيادي، الذي سيحدث بسبب وفاته ، هو الآخر أمر مخالف لطبيعة الحالات البشرية، وخاصة في مجتمع جديد، وحديث عهد بالإسلام، وقد يحتفظ بعض أبنائه بشيء من رواسب تاريخهم الماضي، حيث الانتماءات القبلية، والخلافات والنزاعات المصلحية، مع وجود أخطار خارجية تحيط بالإسلام، وعناصر منافقة مندسة في المجتمع الإسلامي.
وهناك شواهد كثيرة تدل على أن النبي تحدث عن بعض الفتن والمشاكل التي ستصيب أمته، وحذر منها، فهو إذاً مهتم بمستقبل الدعوة، وعارف بالأخطار والتحديات التي تواجهها، ويتوقع حصول مختلف الاحتمالات والأحداث، كيف لا، وقد صرح القرآن الكريم فيما نزل حول واقعة أحد، وتداعيات النكسة التي أصابت المسلمين فيها، وظهور إشاعة قتل رسول اللَّه بأن جماعة قد اهتز موقفهم بسبب تلك الإشاعة يقول تعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾[سورة آل عمران الآية144].
وحرص الرسول على الدعوة، واهتمامه بمستقبل الأمة، يستدعي أن يعالج موضوع الفراغ القيادي الذي سيحدث بوفاته.
الشورى
هناك أحد احتمالين لموضوع الإمامة بعد رسول اللَّه ، الأول منهما: أنه ترك الأمر ليكون شورى بين المسلمين، فهناك جيل من الصحابة تربى على يد الرسول ، ونهل من توجيهات الوحي، وعلى عاتقهم تقع مسؤولية اختيار الإمام والخليفة، على أساس الشورى والانتخاب من قبلهم. والاحتمال الآخر هو أنه قد نص على شخص معين ليكون الإمام والخليفة من بعده.
لكن الملاحظ هنا: أن الشورى، إذا كان معولاً عليها كمنهج ونظام، فهي بحاجة إلى طرح وتأكيد في أوساط الأمة، وتبيين لمعالمها وضوابطها، فمن هم أهل الشورى؟ كل المسلمين؟ أم أهل المدينة خاصة؟ أم أهل الحل والعقد؟ ومن هم بالتحديد؟ وهل هي بالإجماع أو الأكثرية؟ كل ذلك ليس واضحاً من خلال حديث الرسول أو سيرته.
من ناحية أخرى: فإن الرسول لم يهيئ أصحابه، ولم يدرب أمته على ممارسة الشورى في هذه المسائل القيادية، فهو حينما كان يغادر المدينة كان يستخلف عبد اللَّه ابن أم مكتوم، لإمامة الصلاة وغيرها من الشؤون، ولم يكن يترك الأمر للناس أن يختاروا لأنفسهم إماماً وأميراً، وكذلك الحال حين يبعث سرية أو فرقة من الجيش، يعيّن عليها الأمير من قبله، وفي بعض الأحيان كما حصل في غزوة مؤتة، عيّن ثلاثة أمراء على التعاقب، جعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة وعبد اللَّه بن رواحة.
لكل ذلك لم تكن فكرة الشورى في أمر الإمامة والخلافة راسخة ولا واضحة في أذهان الصحابة، ومن يقرأ المداولات التي حدثت في سقيفة بني ساعدة، قبيل بيعة الخليفة الأول أبي بكر، وحسب الصورة التي نقلها الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، يتضح له أن آراء الصحابة ومواقفهم آنذاك لم تنطلق من هذه الفكرة، لذا كان الباب مفتوحاً على مخلتف الاحتمالات، وطبقاً لقول الخليفة عمر: أن بيعة أبي بكر كانت فلتة إلا أن اللَّه وقى شرها[1] .
وامتناع علي بن أبي طالب، وعدد من الصحابة معه، عن قبول نتائج ما حصل في السقيفة، إلى فترة من الزمن، ثم اعتماد الخليفة أبي بكر لطريقة الاستخلاف، حيث عهد بالخلافة إلى عمر بن الخطاب، وتقنين الخليفة عمر لموضوع الشورى عند وفاته، حيث اختار ستة من الصحابة، ليجتمعوا ويتداولوا الرأي، ويختاروا واحداً منهم خليفة على الأمة، وإصرار جماهير الأمة بعد مقتل الخليفة عثمان، على علي بن أبي طالب لتولي الخلافة، وما آل إليه أمر الخلافة فيما بعد حيث توارثها الأمويون والعباسيون بالقوة والغلبة، هذه الطرق المختلفة والمتعددة في معالجة موضوع الإمامة والخلافة، تدل على عدم وضوح معالم الشورى، كمنهج معتمد من قبل الرسول أو في ذهنية المسلمين.
النص والتعيين
لذلك يرى الشيعة أن الإمامة تكون بالنص والاختيار من قبل رسول اللَّه ، منعاً لاحتمالات الخلاف والنزاع، ولأن اختيار اللَّه ورسوله أصوب وأفضل، ولورود نصوص ثبتت صحتها عند الشيعة وغيرهم، يفهم منها الشيعة دلالتها على التعيين والنص بإمامة علي بن أبي طالب.
ويأتي في طليعة تلك النصوص حديث غدير خم، الذي روته مصادر الحديث الموثوقة والمعتمدة عند السنة والشيعة، بطرق كثيرة صحيحة.
ونذكر هنا ما أورده حول هذا الحديث المحدث السلفي المعاصر الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في كتابه سلسلة الأحاديث الصحيحة، المجلد الرابع، حديث رقم (1750) حيث أثبت روايته عن عشرة من الصحابة، بثلاثة وعشرين طريقاً، واستغرق تعداده لتلك الطرق أربع عشرة صفحة، من 330 إلى 344.
والصحابة العشرة الذين ذكر الألباني روايتهم لحديث الغدير هم:
1 ـ زيد بن أرقم، وله عنه طرق خمسة.
2 ـ سعد بن أبي وقاص، وله عنه ثلاثة طرق.
3 ـ بريدة بن الحصيب، وله عنه ثلاثة طرق.
4 ـ علي بن أبي طالب، وله عنه تسعة طرق.
5 ـ أبو أيوب الأنصاري، وله عنه طريق واحد.
6 ـ البراء بن عازب، وله عنه طريق واحد.
7 ـ عبد اللَّه بن عباس، وله عنه طريق واحد.
8 ـ 9 ـ 10 / أنس بن مالك، أبو سعيد الخدري، أبو هريرة، له عنهم طريق واحد.
ونص حديث الغدير بالطريق الأول من حديث زيد بن أرقم كما أورده الألباني: «عن أبي الطفيل عنه قال: لما دفع النبي من حجة الوداع، ونزل غدير (خم)، أمر بدوحات فقممن، ثم قال: كأني دعيت فأجبت، وإني تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر: كتاب اللَّه، وعترتي أهل بيتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنهما لن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض، ثم قال: «إن اللَّه مولاي وأنا ولي كل مؤمن». ثم أخذ بيد علي رضي اللَّه عنه فقال: «من كنت مولاه، فهذا وليه، اللَّهم والِ من والاه وعاد من عاداه».
ثم يضيف المحدّث الألباني: وللحديث طرق أخرى كثيرة، جمع طائفة كبيرة منها الهيثمي في (المجمع) (9/103 ـ 108) وقد ذكرت وخرجت ما تيسر لي منها، مما يقطع الواقف عليها، بعد تحقيق الكلام على أسانيدها بصحة الحديث يقيناً، وإلا فهي كثيرة جداً، وقد استوعبها ابن عقدة في كتاب مفرد، قال الحافظ بن حجر: منها صحاح ومنها حسان[2] .
ومن علماء أهل السنة الذين أوردوا الحديث وأثبتوه ودافعوا عن صحته، المحدث أحمد بن حجر الهيتمي المكي (توفي 974هـ) في كتابه (الصواعق المحرقة) ذكر «قوله يوم غدير خم ـ موضع بالجحفة ـ مرجعه من حجة الوداع، بعد أن جمع الصحابة، وكرر عليهم: ألست أولى بكم من أنفسكم؟ ثلاثاً، وهم يجيبون بالتصديق والاعتراف، ثم رفع يد علي، وقال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللَّهم والِ من والاه، وعاد من عاداه، وأحبّ من أحبه، وأبغض من أبغضه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدِر الحق معه حيث دار» وأكد ابن حجر: «أنه حديث صحيح لا مرية فيه، وقد أخرجه جماعة كالترمذي والنسائي وأحمد، وطرقه كثيرة جداً، ومن ثم رواه ستة عشر صحابياً، وفي رواية لأحمد أنه سمعه من النبي ثلاثون صحابياً، وشهدوا به لعلي، لمّا نوزع أيام خلافته، كما مر وسيأتي، وكثير من أسانيدها صحاح حسان، ولا التفات لمن قدح في صحته، ولا لمن ردّه»[3] .
وحديث الغدير هذا واحد من أحاديث كثيرة، يرى الشيعة أنها تعني النص على إمامة علي بن أبي طالب، ولا مانع أن يختلف معهم الآخرون، في فهم هذه النصوص ودلالاتها، لكن الفرصة يجب أن تتاح للجميع لممارسة حق الاجتهاد، وإبداء الرأي والنظر، على أساس من الموضوعية والاحترام المتبادل، ومع حفظ أجواء الأخوة والوحدة الإسلامية.