المناسبات الدينية والقدوة الرسالية
الحياة بالنسبة لكل إنسان تعتبر تجربة جديدة، فهو يأتي إليها لسفرة واحدة فقط، غير قابلة للتكرار، ويواجهها دون سابق خبرة أو معرفة، لذا فإن الفشل في تجربة الحياة لا يمكن تداركه أو تعويضه، وكما يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾[1] .
ولكن كيف يُنجح الإنسان تجربته الواحدة والوحيدة في هذه الحياة، وهو يواجهها كمتاهة واسعة، مزروعة بالألغام، مليئة بالشهوات والمغريات، تتشعب فيها الطرق، وتتعدد الخيارات؟
إنه بأمس الحاجة إلى خريطة واضحة، تدله على طرق النجاة، وتنبهه على مناطق الخطر.. وذلك هو الدور الذي تؤديه الرسالات السماوية، التي تفضّل الله تعالى بها على الإنسان لهدايته، وإنجاح تجربته في هذه الحياة.
لكن وجود الخريطة والبرنامج قد لا يكون كافياً وحده، بل هو بحاجة إلى تعزيز وتفعيل، يجعل الإنسان أكثر ثقة وأقوى إرادة، على إنتهاج طريق الهدى والصواب.
وذلك عبر وجود القدوات، التي تجسّد أمام الإنسان برنامج الهداية والصلاح في هذه الحياة، وتقدم له تجربة حيّة ميدانية، في الإلتزام بالقيم، وتحقيق الإستقامة.
إن وجود قدوات صالحة ناجحة، أمام الإنسان في هذه الحياة، يحقق العديد من النتائج والأغراض، من أهمها ما يلي:
1/ إن القيم الفاضلة، والمبادىء الحقة، تحتاج إلى من يتبنى نشرها في المجتمع الإنساني، ويبشّر بها ويدعو الناس إليها، ولا يقوم بهذه المهمة على أفضل وجه، إلا من كان عارفاً بتلك القيم، مستوعباً لها، ملتزماً بها، ليكون صادقاً فيما يطرح، مخلصاً للوظيفة التي يؤديها.
2/ تطبيق القيم والالتزام بالمبادىء يستلزم حالة من الصراع والصدام مع الأهواء والشهوات في نفس الإنسان، وهي متجذرة راسخة قوية، إلى حد يتصور فيه الإنسان نفسه عاجزا عن مواجهتها، فيبرر ضعف إرادته، واستجابتة لضغوط الهوى، بمختلف التبريرات، ومن أقواها تضليلا وإغراءً لنفس الإنسان، القول بمثالية القيم والمبادىء، وأن الإلتزام بها برنامج نظري خيالي، وأن تجسيدها وتطبيقها شيء غير ممكن ما دام الإنسان هو الإنسان بشهواته وأهوائه ورغباته.
ومثل هذا التصور (مثالية القيم) يرتاح له الإنسان، لأنه يشكل تبريرا لاعتدائه على هذه القيم، وخروجه عن حدودها، فهو لا يرى نفسه حينئذ مسؤولا عن الإلتزام بها، ولا يحاسب نفسه على احترامها، ما دام يعتقد أنها مجرد نظريات مثالية غير قابلة للتطبيق والالتزام.
وواضح كم هو خطير هذا التصور على سعادة المجتمع الإنساني، ولكن كيف ندرء عنه هذا الخطر؟ لا يمكننا ذلك إلا إذا أثبتنا للإنسان خطأ هذا التصور، وأقنعناه بواقعية تلك القيم، وإمكانية تجسيدها، وهذا لا يتم إلا بوجود مجموعة من الناس، يتحملون مسؤولية الإلتزام بهذه القيم، وتجسيدها في الواقع الحياتي، في الوقت الذي يكونون فيه كسائر أفراد البشر من حيث إمتلاك الغرائز والرغبات، والعيش في نفس الظروف والاجواء.
ووجود هذه الفئة التي تطبق القيم حرفياً، وتتحمل كل الصعوبات في سبيل ذلك، يشكل دفعا قويا لسائر الأفراد للالتزام بالقيم، والإقتداء بتلك الفئة، وتقمص أدوارها ومواقفها.
3/ ومن ناحية أخرى فإن الله تعالى سيطالب الإنسان ويحاسبه يوم القيامة، على مدى تمسكه والتزامه بتلك القيم، فإذا كان الإنسان يعتقد مثالية تلك القيم، واستحالة تطبيقها، فستكون له الحجة على الله، وسوف لا يكون من حق الله تعالى، أن يحاسبه على الإلتزام بشيء لا يرى نفسه قادرا على الإلتزام به.
إذًا فلا بد وأن يقيّض الله تعالى في هذه الحياة أفراداً من البشر، يقومون بدور التطبيق و التجسيد لهذه القيم.
ولهذا أوجد الله تعالى الأنبياء والأئمة، وهذا هو دورهم الرئيسي في الحياة، يقول الله تعالى: ﴿رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ﴾[2] .
ولذلك نسمي الإمام حجة الله، ونطلق على الأئمة حجج الله على خلقه.. و الحديث التالي يوضح لنا هذه الحقيقة:
عن الإمام جعفر بن محمد الصادق : «يؤتى بالمرأة الحسناء يوم القيامة التي قد افتتنت في حسنها فتقول: يا رب حسنت خلقي حتى لقيت ما لقيت.» (لاحظ كيف تعتبر الانحراف شيئاً طبيعياً لأنه لا يمكنها الإلتزام مع وجود دواعي الإغراء)، «فيجاء بمريم عليها السلام فيقال: أنت أحسن أو هذه؟ قد حسنّاها فلم تفتتن.
ويجاء بالرجل الحسن الذي قد افتتن في حسنه فيقول: يا رب حسنت خلقي حتى لقيت من النساء ما لقيت.
فيجاء بيوسف ويقال: أنت أحسن أو هذا؟ قد حسناه فلم يفتتن.
ويجاء بصاحب البلاء الذي قد أصابته الفتنة في بلائه. فيقول: يا رب شددت عليّ البلاء حتى افتتنت. فيؤتى بأيوب فيقال: أبليتك أشد أو بلية هذا؟ فقد ابتلي فلم يفتتن»[3] .
4/ وقد تكون العناوين العامة للقيم واضحة في أذهان بعض الناس، ويلتزمون بمراعاتها حينما يتوفر لهم الوضوح في المواقف والموارد، لكن هناك بعض الجوانب التفصيلية، وبعض الحالات الدقيقة، والمنعطفات الحساسة، تحتاج من الإنسان إلى شفافية كبيرة، وإرادة قوية، ونظر ثاقب، حتى لا تلتبس عليه الأمور، وتختلط الأوراق، ثم قد تتزاحم القيم والمبادىء في موقف من المواقف، فيرتبك الإنسان في الإلتزام بأيها.
وهنا يأتي دور القدوات الصالحة الناجحة القادرة على تشخيص المواقف، ومعرفة تفاصيل القضايا وتطبيقاتها، وتحديد الأولويات، ومعالجة الحالات الحساسة الخطيرة.
لكل ذلك فإن الله سبحانه وتعالى نصب الأنبياء والأئمة، إلى جانب إنزال الشرائع والكتب السماوية، ليكونوا قدوات للناس، على طريق الخير والهدى.
إنهم قدوات للبشر على امتداد التاريخ، لذلك خلّد الله تعالى ذكرهم وسيرهم، عبر وحيه وقرآنه، ففي القرآن الكريم سور باسم الأنبياء والأولياء، كسورة آل عمران، وسورة يونس، وسورة هود، وسورة يوسف، وسورة إبراهيم، وسورة مريم، وسورة الأنبياء، وسورة لقمان، وسورة محمد، وسورة نوح، كما أن الحديث عن قصص الأنبياء ومواقف الأولياء، مبثوث في مختلف سور القرآن، وفي العديد من آياته.
أنه تعالى يأمر نبيه محمد بأن يتحدث للناس عن حياة هؤلاء القدوات العظام كقولـه تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذْ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا﴾[4] . ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذْ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا﴾ [5] .﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا﴾[6] . ﴿وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ﴾[7] .
وذكر سيرهم وقصصهم إنما هو لتقديمهم كنماذج وقدوات للبشر، كما يقول تعالى: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ﴾[8] . ويقول تعالى: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾[9] . ﴿َقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾[10] .
وفي هذا العصر بالذات ما أحوج المجتمعات البشرية إلى إبراز القدوات الصالحة، حيث أن إعلام الحضارة المادية، يصنع ويقدم للناس قدوات زائفة فاسدة، تتمثل في العناصر المتاجرة بجمالها ومفاتنها، والمجاهرة بالانحراف والفساد الأخلاقي، فالمجلات والصحف تتسابق على نشر صور المغنين والمغنيات، والممثلين وعارضات الأزياء، وعلى متابعة أخبار هذه الطبقةبما فيها من مجون وخلاعة وفساد، وفي عصر العولمة، أصبحت هذه العناصر بترويج الإعلام لها شخصيات عالمية، تنتشر صورها وأخبارها في كل مكان.
ولا زال العالم يتذكر كيف شغلت " ديانا " في حياتها، مساحة واسعة من اهتمام الناس، في شتى بقاع الدنيا، وكيف كانت أخبارها تغطى بدقة ومتابعة، وكيف أصبحت وفاتها الحدث الامثل والأهم لفترة من الزمن، فبكاها الكثيرون، ورثاها الشعراء والأدباء، وتابع مراسيم تشييعها مئات الملايين، ومعروف أنها كانت ذات مغامرات عاطفية لاشرعية حتى لحظة مقتلها بصحبة عشيق، وقد اعترفت بخيانتها لزوجها ولي عهد بريطانيا على مرأى ومسمع من العالم كله.. وهي بهذه السيرة تقدم كنموذج وشخصية رائدة!!.
لعل من أهم فوائد المناسبات الدينية، التي تهتم مجتمعاتنا بإحيائها، كذكريات مواليد النبي والأئمة من اهل بيته عليهم السلام وذكريات وفياتهم، أنها تشكل فرصة جيدة لتعريف أجيال المجتمع بالقدوات الصالحة، ولتقديم سيرة النبي والطاهرين من أهل بيته، كنماذج للتأسي والإقتداء.
فاحياء هذه المناسبات، تذكير للأمة بالقدوات والنماذج الصالحة، وتوثيق للتواصل بين أبناء الأمة وتاريخهم الإسلامي المجيد، وهي إطلالة على الصفحات المشرقة من سير الأولياء والسلف الطاهر.
وكم هو رائع ومفيد ان تجتمع هذه الحشود الضخمة من الناس، رجالاً ونساءً كباراً وصغاراً، للاحتفاء بذكرى استشهاد الامام الحسين في عاشوراء، او في المناسبات المشابهة، وان يتفاعلوا مع احداث نهضته المباركة، ويصغوا الى تفاصيل سيرته العطرة، ويظهروا تعاطفهم وتفاعلهم مع مواقفه المبدئية؟
ان ذلك يوفّر في نفوسهم زخماً روحياً، واصالة ايمانية، ويجعلهم اقرب الى خط وسلوك اولئك الرجال الالهيين الصالحين، وابعد عن طريق مناويئهم من الظالمين والمنحرفين.
لذلك ينبغي أن توظف هذه المناسبات من أجل إنجاز هذا الهدف، بحيث يتعرف أبناؤنا على حياة أئمتهم الهداة، ويتحفزون للاقتداء بهم في التزامهم المبدئي، واستقامتهم الأخلاقية، وتمسكهم بالقيم الفاضلة.
وحتى ذكر مصائب أهل البيت عليهم السلام ينبغي أن يكون ضمن هذا السياق، وليس مجرد إثارة لعواطف الحزن والأسى.
في الماضي كانت الوسيلة المتاحة لتخليد ذكريات وسير الأنبياء والأئمة عليهم السلام هي التحدث الشفهي عنهم، بالخطابة أو إنشاد الشعر، وتلاوة كتب السير، أما الأن فقد توفرت وسائل أكثر تطورا وتأثيرا في النفوس، وينبغي أن يستفاد منها في عرض حياة الأولياء، وإبراز مواقفهم المشرقة، ليملاؤا نفوس ومشاعر الجيل المعاصر كقدوات رائدة، ونماذج للتأسي والإتباع.
ومن أبرز تلك الوسائل: المسرح والفيلم والرواية، واقتحام وسائل الإعلام الحديثة، كالقنوات الفضائية، وشبكات الإنترنت، والصحافة اليومية.
والجميع يعرف مدى الإقبال والتأثير الذي حققه فيلم (الرسالة) عن حياة النبي محمد . فلماذا لا يكون هناك توجه دائم، واهتمام مستمر، بإنتاج مادة إعلامية ثقافية متطورة عن حياة القادة الهداة؟
لقد كانت هناك محاولة رائدة لإنتاج مسرحية عن ثورة الإمام الحسين وشهادته، في القاهرة مطلع السبعينات، لكنها اجهضت مع شديد الأسف، ولم تبذل جهود لإحيائها، وقد أشار إلى الموضوع السيد (فارس واكيم) ضمن مقال له في جريدة الحياة قائلا:
"بعد شهر من التمرينات منعت الرقابة في مصر في مطلع السبعينات عرض مسرحية " الحسين ثائرا والحسين شهيدا" للشاعر (عبد الرحمن الشرقاوي) على رغم سماحها بنشر النص في كتاب صادر عن هيئة نشر رسمية.
ومرد المنع إلى رفض الأزهر السماح بظهور شخصية الحسين على المسرح، ولما كان النص مقبولا من الناحية الدينية، اقترح الشرقاوي إبقاء المسرحية كما هي على أن يسبق الكلام الذي تقولـه شخصية الحسين تنبيه من شخصية أخرى تعلن: قال الحسين.. لكن هذا الإقتراح قوبل بالرفض أيضا.
كنت في القاهرة في طريق العودة إلى بيروت طلب مني الشرقاوي عرض الأمر على الإمام موسى الصدر، قابلت الإمام وسلمته النص، قرأه وقال انه يرحب بعرض المسرحية في بيروت، لكن الحرب الأهلية نشبت في العاصمة اللبنانية، ثم غيب الصدر، ثم توفي عبدالرحمن الشرقاوي.. وطويت المسألة"[11] .