خطر العداوة
يحتاج الإنسان الى أخيه الإنسان في بعدين:
الأول- البعد المادي:
للتعاون في تسيير امور المعيشة والحياة، حيث ان الإنسان لا يستطيع بمفرده ان يهيء كل امور حياته، بل لا بد له من التعاطي مع الآخرين من ابناء جنسه، فهو يحتاج إليهم وهم يحتاجون إليه، وكذلك الحال على مستوى المجتمعات والدول، فمهما كانت إمكانات أي دولة من الدول، لا تستطيع ان تعيش في عزلة عن المجتمع الدولي، وخاصة في هذا العصر، حيث وثقّت تطورات الحياة التداخل والتشابك في المصالح بين مختلف الشعوب والدول.
وكلما اتسعت وقويت علاقة الإنسان مع الآخرين، كانت امور حياته اكثر يسراً وانتظاما، وهذا أمر واضح ملموس، فاذا كانت هناك حاجة أو قضية، لدى شخص يمتلك شبكة من العلاقات والارتباطات، ونفس القضية لدى شخص آخر منعزل اجتماعياً، فان الأول يكون اقدر على إنجاز حاجته وأسرع في معالجة قضيته من الثاني.
الثاني - البعد النفسي :
حيث يأنس الإنسان بأخيه الانسان، ولو توفرت لإنسان ما كل وسائل الحياة والرفاه، على ان يعيش منفرداً معزولاً، لما ارتاح لذلك، لذا فان السجن الانفرادي يعتبر من أقسى وسائل التعذيب والتنكيل في المعتقلات.
ويرى بعض اللغويين ان اصل اشتقاق اسم الإنسان من الأنس: (الإنسان فعلان عند البصريين لموافقته مع الأنس لفظاً ومعنى. قيل: سمي بذلك لأنه خلق خلقة لا قوام له إلا بأنس بعضهم ببعض، ولهذا قيل: الإنسان مدني بالطبع، من حيث انه لا قوام لبعضهم إلا ببعض، ولا يمكنه ان يقوم بجميع أسبابه)[1] .
لذا فان لمستوى علاقات الإنسان مع من حوله من ابناء جنسه، تأثيراً كبيراً في مدى ارتياحه النفسي، فكلما كانت في درجة افضل، كان اشد سعادة وهناءً.
من هذا المنطلق فانه يجب ان يحرص الإنسان على علاقته بأخيه الإنسان، وان يسعى لتطويرها وتفعيلها بأكبر قدر ممكن، فذلك يخدم مصالحه المادية، ويريحه ويسعده نفسيا.ً
وفطرة الانسان، وتفكيره المنطقي، يقوده إلى هذه الحقيقة، كما ان التعاليم الدينية تؤكد على أهمية حسن العلاقة بين الناس، وتعتبر نجاح الإنسان في علاقاته مع الاخرين مؤشراً على عمق تدينه ونضج عقله.
فقد روي عن رسول الله انه قال: «خياركم أحسنكم أخلاقا، الذين يألفون ويؤلفون»[2] .
وعنه : «أقربكم مني غداً أحسنكم خلقاً وأقربكم من الناس»[3] .
وعنه أيضاً :«لا خير فيمن لا يُؤلف ولا يألف»[4] .
ويقول كما روي عنه : «رأس العقل بعد الإيمان بالله التودد الى الناس»[5] .
العداوة تعني وجود خلل في العلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان، وتعني حدوث حالة معاكسة ومناقضة لما يجب ان يكون، فبدل ان يأنس كل منهما بالآخر، ويتعاونا في تسيير شؤون حياتيهما، تحصل حالة التباعد والكراهية، ثم تتطور لتصل إلى مستوى النزاع والاعتداء المتبادل .. فالبغض والكراهية يأخذ مكان المحبة والأنس، والاعتداء على المصالح يحتل موقع التعاون.
انها حالة شاذة غير طبيعية، تخالف الفطرة والوجدان، وتصادم المنطق والعقل، وتشكل تهديداً وخطراً على بناء حياة الإنسان، وحماية مصالحة.
والنصوص الدينية تحذر الإنسان من خطر العداوة، وتنبهه حتى لا يتورط في مزالقها.
عن رسول الله : «ماكان جبرئيل يأتيني إلا قال: يا محمد اتق شحناء الرجال وعداوتهم»[6] .
وفي حديث آخر عنه : «ما عهد الي جبرئيل في شيء ما عهد الي في معاداة الرجال»[7] .
وعنه : «ألا إن في التباغض الحالقة، لا اعني حالقة الشعر، ولكن حالقة الدين»[8] .
وروي عنه انه قال: «لم يزل جبرئيل ينهاني عن ملاحاة الرجال كما ينهاني عن شرب الخمر وعبادة الأوثان»[9] .
وعنه : «ألا أنبئكم بشر الناس؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: من أبغض الناس وابغضوه»[10] .
وعن الإمام جعفر الصادق : «والعداوة القليل منها كثير»[11] .
ويعتبر الإمام علي ان العداوة مع الناس قمة الجهالة يقول :«رأس الجهل معاداة الناس "و" معاداة الرجال من شيم الجهّال»[12] .
وفي كلمة اخرى يقول :«من زرع العدوان حصد الخسران»[13] .
وللعداوة مضاعفات وأخطار كثيرة من أبرزها ما يلي:
أرأيت كيف يتعب الإنسان ويرهق حينما يحمل ثقلاً على جسده؟ كذلك فان العداوات والخصومات تمثل عبئاً ثقيلاً، وحملاً باهضاً على نفس الإنسان، تجلب له الأذى والإزعاج، وتسبب له الهم والغم، وتضغط على قلبه وأعصابه.
انك حينما تدخل مجلساً وترى فيه أحبابا وأصدقاء، ينشرح صدرك، وتجلس مرتاحاً مستأنساً، بينما اذا دخلت مجلساً آخر ووجدت فيه من بينك وبينه عداوة وحساسية ، تنزعج نفسياً وتتأذى، وحينما تبقى في المجلس لا تشعر بالراحة والرضا.
وهكذا يكون وجود حالة عداء سبباً للتوتر النفسي، فمجرد مرور ذكره على خاطرك، او مرور اسمه على سمعك، أو رؤيتك لشخصه، يثير في داخلك مشاعر الغضب والانزعاج.
يقول الإمام علي : «إياكم والمراء والخصومة فانهما يمرضان القلوب»[14] .
وعن الإمام جعفر الصادق : «إياكم والخصومة فانها تشغل القلب»[15] .
وعن الإمام محمد الباقر : «إياكم والخصومة فانها تفسد القلب»[16] .
وعن الإمام علي الرضا : «إياك والخصومة فانها تردي بصاحبها»[17] .
فالعداوة والخصومة عذاب للنفس، وضغط على الأعصاب، وهي تشغل القلب، وتمرضه، وتفسده، وتسبب الردى والهلاك لصاحبها، وكما قال الإمام علي : «من ساء خلقه فقد عذب نفسه).»
بدل ان يشتغل الإنسان ببناء ذاته، ويوجه طاقته وجهده لاصلاح أموره، ولتقدمه وتطور حياته، فان حالة عدائه مع الاخرين، تقتطع جزءاً من اهتمامه وتفكيره، وطاقاته وإمكاناته، وذلك بالطبع لا يتوجه لحماية الذات من الآخر المعادي فقط وانما لإيقاع الضرر به وتحطيمه، والقضاء على إمكاناته ومصالحه، كما يقوم الطرف الآخر بنفس المحاولة والدور، وبهذا تضيع الجهود وتهدر الإمكانيات من الطرفين .
والمثال الأجلى والأوضح هو الحروب التي تنشأ بين الدول المتجاورة، كالحرب العراقية الإيرانية، والتي حطمت اقتصاد البلدين، وأثرت على البنية التحتية فيهما، وعوقت التطور والتقدم في الدولتين، مع الخسائر العظيمة في النفوس والأرواح.
حينما يعادي الإنسان الآخرين، فيجب أن لا يتوقع منهم باقات الورود، ولا رسائل الحب والاحترام، بل سيكون في مرمى سهامهم، ومعرض انتقامهم، وسيستخدمون ضده الأسلحة التي بأيديهم، خاصة وأن الناس يتفاوتون في مستويات تفكيرهم، وضوابط تصرفاتهم وممارساتهم، وعلى الإنسان أن يتوقع أسوأ الاحتمالات، من جانب المعادين له. قد تتعرض حياته للتصفية، وأمواله للنهب، وسمعته للتشويه، ويعتدى على حقوقه، وتصنع له العوائق والعقبات في طريق أعماله ونشاطاته.
ولا يخلو الإنسان من نقاط ضعف، وثغرات خلل، عادة ما تكون مستورة خافية، فإذا ابتلي بأعداء وخصوم، فإنهم سينقبون عن أخطائه، ويفتشون عن ثغراته، وينفذون من خلال نقاط ضعفه، لإيقاع الضرر به، وتوجيه الأذى إليه.
لذلك يقول الإمام جعفر الصادق : «إياك وعداوة الرجال فانها تورث المعرّة، تبدي العورة»[18] .
فالعداوة تسبب المعرّة أي الأذى، وتكشف العورة، أي نقاط الضعف والخلل.
وأوصى الإمام علي بن أبى طالب أبناءه يوماً فقال لهم: «يابني إياكم ومعاداة الرجال، فانهم لا يخلون من ضربين: من عاقل يمكر بكم، أو جاهل يعجل عليكم… ». ثم أنشأ يقول:«
سليم العرض من حذرالجوابا
ومن دارى الرجال فقد أصاب
ومن هاب الرجال تهيبـوه
ومن حقر الرجال فلن يــهابا»[19]
وقال في كلمة أخرى:« ان للخصومة قحما. »وفسرها الشريف الرضي بقوله: يريد بالقحم المهالك، لانها تقحم أصحابها في المهالك و المتالف في الأكثر[20] .
بغض النظر عن مبررات العداء، فان حالة العداء غالباً ما تدفع الإنسان، لارتكاب مختلف المعاصي والذنوب، من أجل تحقيق الانتصار على عدوه، وإيقاع أكبر قدر من الضرر به، فالكذب والغيبة والنميمة، والسب والشتم، والاعتداء والظلم والتآمر، وما شاكل من المحرمات، كلها وسائل يجد الإنسان نفسه مدفوعاً لاستخدامها في معارك خصوماته وعداواته.
وفي كلمة رائعة يصور الإمام علي موقف من تورط في عداء أو خصومة، بأنه بين أحد خيارين كلاهما مر، فإما أن يتنازل ويقصّر في المواجهة، فيعطي الفرصة لعدوه ان يتمكن منه ويتغلب عليه ويظلمه، واما أن يدخل المعركة بكل ما أوتي من قوة، ويستخدم كل أسلحة المواجهة، مشروعة وغير مشروعة، وذلك يعرّضه لارتكاب المعاصي والذنوب، ويبعده عن تقوى الله، فيناله الإثم والسخط الإلهي. يقول : «من بالغ في الخصومة أثم، ومن قصر فيها ظلم، ولا يستطيع ان يتقي الله من خاصم»[21] .
وعلّق على هذه الكلمة أحد شرّاح نهج البلاغة بقولـه: أشار في هذا الكلام الى ان الخصومة داء لا دواء له، ولا يحصل منها الاّ الضرر و الخسار، فان الداخل فيها اذا بالغ يأثم ويبتلى بالخسار الأخروي، وان قصّر ظلم ويبتلى بالخسار الدنيوي، ويصعب الوقوف بين هذين الحدين، ورعاية أصل التقوى في البين، فمن اراد النجاح فلا بد له من عدم الدخول في الخصومة، والوقوف دائما على الصلح والإصلاح[22] .
وفي وصيته لمؤمن الطاق محمد بن النعمان يقول الإمام جعفر الصادق : «وإياك وكثرة الخصومات فانها تبعدك عن الله»[23] .
وضمن هذا السياق ما روي عن الإمام الرضا : (وإياك والخصومة فانها تورث الشك، وتحبط العمل، وتردي بصاحبها، وعسى أن يتكلم بشيء لا يغفر له)[24] .
المجتمع الذي تسوده أجواء المحبة والوئام، وينشغل أبناؤه بالعمل الإيجابي، والنشاط البنّاء، ويتعاونون فيما بينهم على خدمة مصالحهم، وتسيير أمورهم، هذا المجتمع تكون بنيته قوية، وكيانه متماسك ثابت، بينما المجتمع الذي تدبّ في أوساطه الخصومات، وتنتشر النزاعات والعداوات، فانه يصاب بالضعف والهزال، ويبتلى بالتفكك والانهيار.
لذلك يحذر الله تعالى عباده المؤمنين من خطر التنازع والتعادي، وينذرهم بأن النتيجة الحتمية لذلك هو هدر إمكانات المجتمع، وذهاب قوته، وبالتالي فشل المجتمع في تحقيق مصالحه وأهدافه، يقول تعالى:﴿وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ [25] .