زكاة العلم
الزكاة لغة: النمو والزيادة. يقال: زكا الزرع: إذا نما وزاد، وزكت النفقة: إذا بورك فيها. وقد تطلق بمعنى الطهارة، قال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾[1] . أي طهرها عن الأدناس. ومثله قولـه تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى﴾[2] . جاء في لسان العرب: (وأصل الزكاة في اللغة: الطهارة والنماء والبركة وفي حديث الباقر أنه قال: (زكاة الأرض يُبسها، يريد طهارتها من النجاسة كالبول وأشباهه بأن يجف ويذهب أثره)[3] .
ومن فلسفة الزكاة في التشريع الإسلامي يظهر أن المعنيين قد أخذا فيها بعين الاعتبار، فإيتاء زكاة المال يطهّر نفس الإنسان من الأنانية والبخل والحرص، لشعور الإنسان بأن المال الذي يحصل عليه ملك له وحده، وتحت سيطرته وتصرفه هو فقط، وإعطاؤه للزكاة تشذيب وتعديل لهذه المشاعـر والأحاسيس، لذلك يقـول تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾[4] .
في ذات الوقت فإن إخراج الزكاة ينمي المال ويزيده، ببركة الله وفضله، وحتى وفق المنظور الاجتماعي والاقتصادي فإن رعاية الفقراء يوفّر الأمن الاجتماعي، حيث يمنع من تشكّل حالات الإجرام والعدوان الناتجة من الفقر والحرمان، كما أن تدوير الثروة في المجتمع، يحرّك الوضع الاقتصادي، ومردوده سيكون على أصحاب رؤوس الأموال أيضاً. من هنا نرى الدول الكبرى في العالم تقدم شيئاً من الدعم والمساعدة للدول الفقيرة المتخلفة، والتي إذا تحرك اقتصادها فستستهلك من إنتاج تلك الدول المتقدمة.
والنصوص الدينية تشير إلى دور الزكاة والصدقة في تنمية المال والثروة كما ورد عن رسول الله : «إذا أردت أن يثري الله مالك فزّكه»[5] وقول الإمام محمد الباقر : «الزكاة تزيد في الرزق»[6] .
ليس امتلاك الإنسان للثروة فقط هو الذي يشعره بالأنانية والبخل، بل إن كل إمكانية يتوفر عليها الإنسان تسبب له هذا الشعور، وتشيعه في نفسه وسلوكه، لذلك فهو في حاجة لترشيد مشاعره وتصرفاته تجاه كل ما يتحصل عليه من إمكانيات ومكاسب في هذه الحياة، ليتجه لتوظيفها في خدمة المصلحة العامة.
من هنا تشير النصوص الدينية إلى أن لكل شيء زكاة، فكما يجب على الإنسان أن يعطي حصـة من ماله -حسب الضوابط الشرعية- لصالح الفقراء والخدمات العامة، فإن عليه أن يوظف شيئاً من قدراته وإمكاناته المختلفة لصالح الشأن العام وخدمة أبناء جنسه ومجتمعه. يقول الإمام علي : «لكل شيء زكاة»[7] .
والعلم والمعرفة من أكبر الإمكانيات وأهم المكاسب، وإذا ما توفّر إنسان على مستوى وقدر من العلم، فقد يأخذه الغرور والتعالي على من حولـه، وتسيطر عليه الأنانية فيحتكر العلم والمعرفة لنفسه، ويبخل بها على الآخرين، إلا في حدود خدمة ذاته ومصالحه. لذا جاءت التعاليم الدينية تؤكد على مسؤولية العالم تجاه الناس، وتوجب عليه بذل علمه للمحتاجـين إليه والمنتفعين به.
وبذل العلم هي زكاته. روي عن رسول الله أنه قال: «زكاة العلم تعليمه من لا يعلمه»[8] .
وعن الإمام علي : «زكاة العلم بذله لمستحقه»[9] .
إن بذل العلم للناس يزكي نفس العالم ويطهرها من الأنانية والبخل، ويؤكد لديه الشعور بالمسؤولية، فالعلم ليس تشريفاً فقط وإنما هو مسؤولية وتكليف.
من ناحية أخرى فإن بذل العلم يزيده وينميه، كما يقول الإمام علي : «والعلم يزكو على الإنفاق»[10] أي يزيد وينمو.
ذلك أن إبداء المعلومات يرسخّها في ذاكرة الإنسان، فالفكرة أو المعلومة التي تطرحها عدة مرات مثلاً تصبح أكثر حضوراً في ذهنك، وأبعد عن الغفلة والنسيان.
وطرح الأفكار والآراء أمام الآخرين يعطي الفرصة والمجال لتمحيصها ونقدها ومناقشتها، فقد ينطوي الإنسان على نظرية ما معتقداً صحتها وصوابها، فإذا ما طرحها للتداول العلمي والفكري بين الناس، فإنها قد تثير شيئاً من التساؤل والأخذ والرد، يدعو صاحبها لإعادة النظر فيها، بمعالجة الثغرات ونقاط الضعف في النظرية، مما يعمقها ويقوّيها، أو بالتراجع عنها إذا انكشف له بطلانها، وذلك مكسب هام وفائدة كبيرة، لا تحصل بانطواء العالم على علمه، وإنما ببذل العلم ونشره.
من ناحية أخرى فإن بذل العلم ينشّط الحركة الفكرية والعلمية في المجتمع، وذلك من صالح العالم نفسه، حيث أن انتماءه لمجتمع حيوي له حركة معرفية، يزيد في نشاطه العلمي، ويدفعه أكثر للتفاعل والتقدم.
لكل ذلك يكون بذل العلم زكاة له أي سبباً لنمائه وبركته.
إنما يتوجه الإنسان لدراسة العلوم الدينية، والمعارف الشرعية، من أجل أن يمتلك هو البصيرة في دينه أولاً، ويعرف التكاليف الموجهة إليه، ولكي يقوم بهداية الآخرين وإرشادهم ثانياً، يقول تعالى: ﴿ فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ ﴾[11] .
والمهمة الثانية تترتب بشكل طبيعي وقهري على إنجاز المهمة الأولى، فإذا ما علم الإنسان وفقه، فإنه يتحمل مسؤولية تعليم الآخرين وتفقيههم، وإن لم يكن يستهدف ذلك منذ البداية.
بالطبع هنالك نصوص تتحدث عن المسؤولية تجاه العلم بشكل مطلق، أي كل علم يحتاج إليه الناس، ويستفيدون منه، في أمور دينهم أو دنياهم. روي عن الإمام موسى الكاظم : «من أوجب حق أخيك أن لا تكتمه شيئاً ينفعه لا من دنياه ولا من آخرته»[12] .
وجاء في حديث عن رسول الله : «ثلاث من حقائق الإيمان... وبذل العلم للمتعلم»[13] .
وبذل العلم له عدة قنوات ووسائل من أبرزها: التدريس والتأليف والخطابة. ونسلط الأضواء بشكل سريع على هذه المجالات الثلاث، التي سلكها العلماء، لنشر علمهم وبثه وبذله في المجتمعات البشرية.
هو الطريق لتوارث العلم بين الأجيال، وانتقال الخبرات والمعارف، حيث يلتزم العالم مجموعة من الراغبين في العلم، ويواظب على تدريسهم وتعليمهم، ضمن منهج وبرنامج محدد، يختلف من عصر إلى آخر.
والتدريس التزام يأخذ من جهد العالم ووقته، وهو من أبرز مصاديق بذل العلم، وأظهر تجليات القيام بمسئوليته. لذلك يحذر الإمام جعفر الصادق من التهاون في أداء هذا الواجب حيث يقول فيما روي عنه: «إن من العلماء من يحب أن يخزن علمه ولا يؤخذ عنه فذاك في الدرك الأول من النار»[14] .
وما نودّ الإشارة إليه ضرورة اتساع نطاق تدريس العلوم الدينية، لغير طلاب العلم المتفرغين، ففي مجتمعاتنا شريحة من المثقفين والمهتمين بالقضايا الفكرية والاجتماعية، لكن معرفتهم بالعلوم الدينية محدودة، وكأنها حكر على أبناء الحوزات العلمية، وهذا من أسباب الانفصال بين المثقفين وعلماء الدين، فينبغي أن يفتح المجال، وأن يتصدى العلماء والفضلاء، لتشكيل الدروس في التفسير والعقائد والفقه والأصول وغيرها، لهذه المجاميع من الشباب ولو في بعض أيام الأسبوع، لتصبح لدينا طبقة مثقفة مستوعبة لمبادئ الإسلام ومفاهيمه وتشريعاته.
لأن الإسلام مشروع حضارة، ودين علم ومعرفة، فقد أولى وسائل العلم وأدوات الثقافة، كل اهتمام ورعاية، لذا أشاد القرآن الكريم بالقلم والكتابة، وجعله عنواناً لسورة من سوره، وهي سورة (القلم)، والتي أقسم الله تعالى في مطلعها بالقلم والكتابة ﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ﴾ .كما أن أول آيات القرآن نزولاً على رسول الله كانت دعوة إلى القراءة، وتذكيراً بنعمة القلم ودوره في تعليم الإنسان، كأعظم نعمة على الإنسان بعد نعمة خلقه وإيجاده. يقول تعالى: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَم﴾ [15] .
والقلم كأي نعمة أخرى تحتاج إلى استثمار وتوظيف، إن الكثيرين ممن يمتلكون القابلية والاستعداد للكتابة والتأليف، قد لا يترجمون تلك القوة فعلاً في حياتهم، فلا يشهرون القلم سلاحاً في الدفاع عن مبادئهم، ووسيلة لحفظ أفكارهم وتجاربهم، ونقلها إلى الآخرين.
مع أن الإسلام في تعاليمه يؤكد على كل من أُوتي نصيباً من العلم، أن يحفظه بالكتابة لنفسه وللأجيال القادمة. فقد ورد في الحديث عن رسول الله أنه قال: «قيّدوا العلم بالكتاب»[16] .
ولا أكثر من أن يعتبر رسول الله دور الكتابة والتأليف أهم وأرجح من دور القتال في سبيل الله حتى الشهادة، حيث ورد عنه أنه قال:«يوزن يوم القيامة مداد العلماء ودم الشهداء فيرجح مداد العلماء على دم الشهداء»[17] .
انطلاقاً من هذه التوجيهات الإسلامية العظيمة، وإدراكاً لأهمية دور القلم في بث العلم ونشر المعرفة، بادر علماؤنا الأخيار لتحمل مسؤولياتهم المبدئية في هذا المجال، وأثروا حركة الفكر البشري بإنتاجهم العلمي الغزير، في مختلف مجالات المعرفة والحياة.
ورغم أن بعضهم كان يعيش ظروفاً بالغة القسوة، وكانت تواجهه الصعوبات والعقبات، إلا أن الهمة العالية، وروح التضحية والعطاء، وأخلاقية المثابرة والاجتهاد، كل ذلك كان حافزاً لتجاوز التحديات والمعوقات.
فالكتابة والتأليف يجب أن تكون جزءاً من برنامج حياة العالم إلى جانب سائر مهامه والتزاماته، ولا ينبغي الاعتذار بالإنشغالات المختلفة عن هذه المهمة الحساسة.
وفي هذا العصر والبشرية تعيش ثورة المعلومات والمواصلات، والعولمة الثقافية والإعلامية، فإن الأمة الإسلامية تواجه تحديات كبيرة في الحفاظ على هويتها، والتمسك بأصالتها، ومواكبة تطورات الحياة، ومعرفة الرؤية الدينية تجاه المشاكل الاجتماعية المعقدة، مما يستلزم حركة علمية وثقافية جادة واسعة.
وإذا كان العلماء السابقون قد كتبوا عن القضايا والمسائل المطروحة والمثارة في عصورهم، فإن علماءنا اليوم مطالبون بالتوجه لمعالجة مشاكل الحياة المعاصرة.
ولا شك أن أجواء البحث والكتابة، وظروف التأليف والنشر، أصبحت الآن أكثر تهيئاً وتوفراً من الأزمان الماضية، مما يعني أن يكون العطاء الفكري، والإنتاج العلمي، أغزر وأوسع لعلماء ومفكري هذه العصور.
وإذا كان التدريس والتأليف متوجهاً للنخبة ولفئة محدودة من المجتمع، فإن الخطابة هي جسر تواصل العالم مع الجمهور وعامة الناس، وكما كان الأنبياء والرسل يبلغون دعوة الله تعالى للناس كافة، فإن علماء الدين وهم ورثة الأنبياء وحملة رسالتهم، لا بد وأن يتخاطبوا مع جميع الناس، ولقد فرض الإسلام خطاب الجمهور كجزء من الصلاة في صلاة الجمعة والعيدين.
وخطاب الجمهور يقتضي البساطة والوضوح، فهو ليس كالدرس أو الكتابة، ضمن مستوى معين، وبمصطلحات علمية خاصة. لقد كان رسول الله وهو أعلم البشر يخاطب العرب على اختلاف شعوبهم و قبائلهم وتباين بطونهم وأفخاذهم وفصائلهم، يخاطب كلاً منهم بما يفهمون، ويحادثهم بما يعلمـون، ولذلك قال : «أمرت أن أخاطب الناس على قدر عقولهم»[18] .
وروى أبو داود في سننه حديث رقم 4839 أن كلام رسول الله كان فصلاً يفهمه كل من سمعه[19] .
ومن الخطأ ما يشيع في بعض الأوساط العلمية من تنافي دور الخطابة الجماهيرية مع المقام العلمي الرفيع، وأن الخطابة عمل احترافي تقوم به فئة متفرغة له من ذوي المستوى العلمي المحدود، أما كبار العلماء فلا يناسب ذلك مقامهم وشأنهم!! وقد تحدث الشهيد السيد مهدي الحكيم في مذكراته أنه لما بدأ إلقاء المحاضرات الجماهيرية، جاء بعض العلماء إلى والده المرجع السيد الحكيم لينصحه بترك ذلك، لأنه لا يليق بشأنه ومكانته!!
إن في تاريخنا علماء فطاحل مارسوا الوعظ والإرشاد الجماهيري فكان لذلك أعظم الأثر في مجتمعاتهم كالمحقق الشيخ جعفر الشوشتري (توفي 1303هـ) الذي يقول عنه السيد الأمين: كان عالماً من أعلام العلماء فقيهاً واعظاً، له شهرة واسعة، واشتهر بالوعظ والخطابة، وكانت تجتمع الألوف تحت منبره لسماع مواعظه.. رجع إلى بلده تستر في إيران رئيساً مطاعاً مرجعاً في التقليد والأحكام، وأخذ في الوعظ في شهر رمضان وغيره، ونبغ في ذلك بحيث لم يعهد له نظير، وترتب على وجوده آثار جليلة.. وحصل من وعظه هداية كثير من الناس[20] .
هكذا وعبر هذه الوسائل والقنوات، من تدريس وتأليف وخطابة، يمارس العالم دوره في خدمة الدين والأمة، ويعمل لنشر العلم والمعرفة، وبذلك يؤدّي زكاة علمه، وفي هذا العصر وحيث تعصف بالأمة التحديات، وتحدق بها المشاكل والأخطار، فإنه ينبغي إعلان حالة الطوارئ في حياة علماء الدين، بمضاعفة جهودهم، وتكثيف نشاطهم العلمي والثقافي والاجتماعي، حتى تتجاوز الأمة حالة الخطر الداهم.