التحاسد نتاج وتكريس للتخلف
نعرف جميعاً أهمية سلامة الجسم وعافيته، وندرك كم تسبب الإعاقة والأمراض الجسمية من متاعب وعراقيل في حياة الإنسان، لكن الأشد أهمية هو صحة النفس وسلامتها، فإعاقات الجسم وأمراضه يمكن تحملها والتكيّف معها، كما يمكن تجاوز تأثيراتها ومضاعفاتها الحياتية عبر تنمية وتفعيل سائر المواهب والقدرات المتعددة التي يمتلكها الإنسان، فكم من معاق أو مبتلى بمرض مزمن قطع أشواط النجاح في هذه الحياة، وحقق إنجازات تفوق بها على الأصحاء. وفي قائمة العلماء والعظماء أسماء لامعة كثيرة لمعلولين وفاقدين لبعض أعضائهم أو حواسهم.
لكن المعاق في نفسيته بعاهة أو مرض فتّاك تتحول حياته إلى جحيم وشقاء، فهو لا يهنأ ولا يسعد في حياته، ولا يستطيع التعايش والانسجام مع الآخرين. بالطبع هناك فارق أساس هو أن إعاقات الجسم قدر مفروض على الإنسان، خارج إرادته واختياره، بينما عاهات النفس ضمن سيطرته وفي نطاق إرادته وقدرته، وإلا لما استحق عليها الذم والتوبيخ، والتعرض للجزاء والعقاب.
ومن الأمراض النفسية الخطيرة ما يشعل نار العداوة، ويؤجج لهيبها، ويجعل الإنسان في صدام دائم مع الآخرين، فيشقى هو بذلك أولاً، ويسبب المشاكل والمتاعب لمن يقع عليه أذاه.
وفي رأس قائمة تلك الأمراض الفتاكة: الحسد، وهو موضوع حديثنا في هذه الكلمة.
حينما يرى الإنسان أشخاصاً ناجحين في الحياة، يتمتعون بنعم وإمكانات، ويحققون إنجازات ومكاسب، فان ذلك ينبغي أن يدفعه إذا كان سليم القلب معافى النفس إلى أن يتطلع هو إلى مثل تلك الحالة، ويسعى إلى تحقيقها في ذاته، عبر العمل وبذل الجهد، وبالتوجه إلى الله تعالى المالك لكل شيء والمعطي لكل خير.
فالإنسان من حبه لذاته، يريد حيازة الخير لها، ويرغب أن يكون متفوقاً على من حولـه، وذلك تطلع مشروع، واندفاع طبيعي، يساعد على إعمار الأرض، وتسخير ثروات الكون، وتفجير طاقات الإنسان، وتحقيق كماله وتقدمه.
إن التسابق نحو خير الدنيا والآخرة مطلوب، يقول تعالى: ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ﴾[1] . ويقول تعالى:﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ [2] . ويقول تعالى:﴿ وَالسَّابِقُـونَ السَّابِقُونَ. أُوْلَئِكَ الْمُقـَرَّبُون﴾[3] . والتنافـس في ميـدان العمـل مرغـوب، يقـول تعالى: ﴿ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسـُونَ﴾ [4] .
وهناك فقرات في العديد من الأدعية المأثورة توجه الإنسان إلى أن يطلب من ربه التفوق والتقدم على الآخرين، وأن ينال الأكثر من عطاء ربه ونعمه. كما ورد في الدعاء المشهور الذي يرويه كميل بن زياد عن الإمام علي ابن أبي طالب : «واجعلني من أحسن عبيدك نصيباً عندك وأقربهم منزلة منك وأخصهم زلفة لديك». وفي دعاء مكارم الأخلاق المروي عن الإمام زين العابدين علي بن الحسين نقرأ مايلي: «وبلّغ بإيماني أكمل الإيمان، واجعل يقيني أفضل اليقين، وانته بنيتي إلى أحسن النيات، وبعملي إلى أحسن الأعمال».
هكذا يتطلع المؤمن إلى الأكمل والأفضل والأحسن، ويرغب في التفوق والتقدم على الآخرين. وإذا رأى الإنسان ناجحين ومتمكنين ومتنعمين في الحياة المادية أو المعنوية فان ذلك يثير عنده حافز التطلع، وأن يحقق مثل ما حققوا وينال مثل ما نالوا، دون أن يعني ذلك الكراهية لهم أو الاستياء من تنعمهم، وهو ما تطلق عليه النصوص الدينية عنوان "الغبطة" كما يقول الإمام جعفر الصادق : «إن المؤمن يغبط ولا يحسد»[5] .
وذلك يعني أن يكثّف الإنسان نشاطه، ويزيد فاعليته، ليسابق الآخرين، ويحرز ما أحرزوا، فالتطلع المجرد، والتمني الفارغ لا ينتج ولا يثمر شيئاً.
إن النجاح والتفوق في أي مجال من المجالات، هو ثمرة صفات وسمات معينة، كما ينتج خبرات وتجارب نافعة، فإذا ما رأيت إنساناً ناجحاً متفوقاً في جانب يحظى باهتمامك فعليك أن تقترب منه، لتدرس تجربته، وتستفيد من خبرته، ولترى كيف يمكنك أن تكسب من خلال حالته المتقدمة.
وهذا يستلزم أن تنفتح عليه نفسياً، فتكون نظرتك له إيجابية، فهو عضو في أسرتك البشرية، ومجتمعك الإنساني، ونجاحه وتفوقه في ميادين الخير والعطاء يصب في صالح التقدم العام، وما قد يكون لديه من مواصفات طيبة وعوامل ساعدته على النجاح تستحق الإشادة والتقدير.
هذه النظرة الإيجابية تشجعك على الاقتراب منه، وما ينتج عنها من سلوك وتعامل سيدفعه هو الآخر للتعاطي معك، وتلك هي أرضية الصداقة والعلاقة النافعة المثمرة.
في الحالة السوية المستقيمة يكون وجود المتفوقين والناجحين حول الإنسان، دافعاً إلى الطموح والتطلع، وسبباً لتوثيق العلاقة والصداقة، أما في الحالة المرضية فانه يشعل نار العداوة والبغضاء، ويؤدي إلى الفتنة والخطر. حيث يزعج الإنسان ويسخطه وجود شخص متميز عليه في محيطه، فينظر إليه نظرة عدائية، ويتمنى زوال النعمة عنه، وقد يسعى لإيقاع الضرر به، ويطلق على هذه الحالة مصطلح "الحسد".
والحسد ـ كما عرّفـه اللغويون وعلماء النفس والأخـلاق ـ هو تمني زوال نعمة الغير. جاء في لسان العرب: الحسد أن يرى الرجل لأخيه نعمة فيتمنى أن تزول عنه وتكون له دونه. وجاء في (معجم علم النفس والطب النفسي) بأنه: (مشاعر غير سارة تتولد عن الرغبة في تملك ما يمتلكه شخص آخر مثل الثروة أو الجمال أو المكانة) [6] .
يصف الإمام علي الحسد بأنه: «شر الأمراض» وأنه «رأس الرذائل». فهو إساءة واعتداء غير مبرر على الغير بلا جرم اقترفه أو ذنب فعله، إلا أنه حظي بنعمة، أو نال مكانة وأحرز مكسبا، يقول الإمام علي : «الحاسد مغتاظ على من لا ذنب له»[7] .
فهابيل ابن آدم لم تصدر منه أي إساءة تجاه أخيه قابيل، إلا أن الله تعالى تقبل قربانه دون قربان أخيه قابيل، بسبب إخلاصه وتقواه، فثارت حفيظة قابيل، وامتلأت نفسه حنقاً وغيظاً، حسداً لأخيه على مكانته عند الله، واندفع ليرتكب أول جريمة قتل في تاريخ البشر،بتصفية حياة أخيه هابيل. يقول تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ … فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنْ الْخَاسِرِينَ﴾ [8] .
ورد عن الإمام الحسن بن علي أنه قال: «الحسد رائد السوء ومنه قتل قابيل هابيل».
ويوسف بن يعقوب لم يكن له أي ذنب يستوجب عداء أخوته له إلا ما خصه به أبوه من المحبة والودّ، لتميزه على سائر إخوانه بصفات الكمال ومؤهلات النبوة، فقادهم حسدهم إلى الكيد به والتآمر عليه بتلك الطريقة البشعة التي سجل القرآن الكريم تفاصيلها لتبقى عظـة وعبرة للأجيـال: ﴿إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ. اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوْ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ﴾ [9] .
فرص التقدم المادي والمعنوي متوفرة ومتاحة أمام كل إنسان، ونعم الله تعالى مبذولة للجميع ﴿ كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاَء وَهَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾[10] . ومن تراه متمتعاً بنعمة من النعم، فتلك حصته التي لا تؤثر على نصيبك ولا تلغي دورك، فشمّر عن ساعدك، وابذل جهدك، لتنال من فرص الحياة بمقدار ما تسعى وتتحرك. وابحث عن نقاط قوتك، وفجر مواهبك الخاصة، فقد تكون مرشحاً لدور آخر وتفوق جديد تمتاز به عن الآخرين.
لكن مرض الحسد الخبيث ينحرف بتفكير الإنسان عن هذا المنحى السليم، لينحدر به إلى منزلق المشاعر العدائية، وليخلق في نفسه حالة الإحباط، فيبقى متخلفاً يراوح مكانه، يعيش التأزم النفسي، ويتكرس لديه العجز والفشل. الآخرون يتقدمون ويواصلون زحفهم، فيحقد عليهم لأن تقدمهم يكشف تخلفه، وتكاملهم يبدي نقصه، وبدل أن يقتحم ميدان الجد والاجتهاد، وساحة التنافس والسباق، ينشغل باجترار الأحقاد، وتمني فشل الآخرين، والعمل من أجل إعاقة تحركهم وعرقلة مسيرهم.
لذلك يصف الإمام علي الحسد بأنه سجن لروح الإنسان، من أن تنطلق في الأفق الرحيب يقول : «الحسد حبس الروح» وفي عبارة أخرى يصفه بأنه «دأب السفّل»أي مهمة الفاشلين الفاقدين للهمة العالية. من هنا فان «الحسود لا يسود» كما يقول الإمام علي .
فالحاسد لا يفكر كيف يتقدم هو؟ بل يصبح همه الأول في الحياة سقوط الآخرين وزوال نعمهم. يقول الإمام علي : «الحاسد لا يشفيه إلا زوال النعمة» و «الحاسد يفرح بالشر ويغتم بالسرور» و «الحاسد يرى أن زوال النعمة عمن يحسده نعمة عليه».
وإذا كانت بعض النعم والامتيازات تصل إلى الإنسان دون كسب منه، كالصفات الخلقية،والانتماء العائلي، أو الإمكانات التي يرثها من أرحامه، أو المواقع القيادية الرسالية، فإنها تقدير إلهي، وقسمة ربانية، فلماذا ينزعج الحاسد من ذلك؟ إنه حينئذٍ يعترض على تقدير ربه وحكمته، يقول تعالى: ﴿ أَمْ يَحْســُدُونَ النَّاسَ عَلـَى مَا آتَاهُـمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلــِهِ﴾ [11] . وفي الحديث القدسي عن الله عز وجل: (فان الحاسد ساخط لنعمي، صادٌ لقسمي الذي قسمت بين عبادي) [12] . وعلى حد تعبير الإمام علي : (الحسود غضبان على القدر).
وقديماً قال أحد العرفاء:
ألا قل لمن كان لي حاسداً
أتدري على من أسأت الأدب
أسأت علـى الله في فعلـه
إذا أنت لم ترض لي ما وهـب
الحسد مرض خطير فتّاك تبدأ مضاعفاته المدمرة على نفس حامله أولاً، حيث يعيش مأزوماً محبطاً قلقاً، يرى الأمور والأحداث من خلف نظارة سوداء، وفي الوقت الذي ينعم فيه الآخرون بإنجازاتهم ومكاسبهم، يبقى هو يجتر الهموم والحسرات، فلا يرتاح ولا يهنأ بدنياه، وهو في آخرته أخسر وأشقى. يقول الإمام علي :«لله در الحسد فما أعدلـه بدأ بصاحبه فقتله» و « الحسد مطية التعب» و « ثمرة الحسد شقاء الدنيا والآخرة» و «ما رأيت ظالماً أشبـه بمظلومٍ من الحاسـد» و «الحسد لا يجلب إلا مضرة وغيظاً يوهن قلبك ويمرض جسمك».
قد يكون الحسد مرضاً فردياً محدوداً يبتلى به بعض الأفراد من المجتمع، فيصطلون بنار أضراره وشقائه، وقد يكون ظاهرة سائدة في بعض المجتمعات، تبرز أعراضه ومضاعفاته على مستوى العلاقات بين أفراد المجتمع وفئاته.
ولعل من أبرز أعراض الحسد كظاهرة مرضية اجتماعية، هو ما يتجلى في طريقة التعاطي والتعامل مع الكفاءات والقدرات من أبناء المجتمع، ففي الوضع الصحي السليم تلقى الكفاءة والطاقة، في أي مجال من المجالات العلمية أو الأدبية أو الاجتماعية أو الاقتصادية، ترحيباً من أوساط المجتمع، وتشجيعاً واشادةً، ومساعدةً ودعماً، يدفعها إلى المزيد من التقدم والعطاء، والنمو والظهور. أما في الحالة المرضية، فان نظرات التنكر والتجاهل، وإثارة الشكوك والارتياب، وتطلب العثرات والأخطاء، هذه النظرات تلاحق أي كفاءة تبرز، وأي قدرة تظهر، من أبناء المجتمع. وهذا عرض وأثر يدل على انتشار مرض الحسد في النفوس.
وغالباً ما تعشش هذه الحالة المرضية في المجتمعات المتخلفة والمقهورة، فبروز الكفاءة يذكر الآخرين بنقصهم، وذلك أمر يزعجهم، فيتمنون عدم ظهور أي كفاءة (لأن البلية إذا عمت طابت). كما أن التخلف والقهر يكرس الأنانية الجوفاء الملتوية في نفس الإنسان، فينظر إلى المتميزين والمتفوقين وكأن تقدمهم جاء على حسابه، وأنه الأولى والأحق منهم بتلك المكاسب والإنجازات التي أحرزوها، نتيجة لتضخم الذات، وانتفاخ الأنا، دون سعي أو حركة.
وتلك هي الأرضية التي تنبت منها العداوات، وتفرخ فيها الأحقاد، وتجد كفاءات المجتمع نفسها محاطة بأجواء العداء والصراع، مشغولة بتخطي العراقيل والعقبات المصطنعة في طريقها.
وما يواجه هذه الحالة هو الوعي الحضاري والتربية الأخلاقية، ليدرك أبناء المجتمع دور وأهمية أي كفاءة تبرز في تعزيز مكانتهم جميعاً، وشق طريق التقدم أمامهم، وأن ظهور أي طاقة عالماً أو خطيباً أو أديباً أو مهندساً أو تاجراً أو موظفاً كبيراً أو رجل أعمال .. هو مكسب لكل المجتمع.
وساحة التنافس والاجتهاد مفتوحة للجميع، ونعم الله واسعة وخيراته كثيرة، فلماذا التحاسد؟ ولماذا التباغض؟