واقع الإنسان بين الأمل والعمل
هناك ثلاثة عوالم تحيط بشخصية الإنسان وتتفاوت من حيث التأثير على واقع حياته، وهي:
* عالم الآمال والتطلعات.
* عالم الأفكار والمعتقدات.
* عالم السلوك والأعمال.
ويهمنا في هذا البحث استقراء وتلمس مدى ارتباط كل واحد منها بواقع الإنسان وتأثيره على صنع وضعه ومجريات حياته.
الآمال والتطلعات:
من إشراقات نور العقل الذي اختص الله تعالى به الإنسان، القدرة على التخيل والتطلع، فالواقع الذي يعيشه الإنسان لا يشكل سقفاً لأشعة تفكيره، بل إن ذهنه يحلّق بعيداً متجاوزاً معطيات الواقع المعاش.
لذا يمتاز الإنسان بحالة الأمل والتمني، وهي وليدة ملكة الخيال، فحينما يتخيل شيئاً يتمناه، ويأمل الوصول إليه، ويتطلع لتحقيقه.
وأكثر منجزات الإنسان العلمية ومكاسبه الحضارية، كانت في بدايتها خيالات وأحلام، وآمال وتطلعات، حتى أصبح عندنا لون من ألوان الأدب الإبداعي، يطلق عليه قصص الخيال العلمي، حيث ينطلق الفكر لدى بعض الأدباء محلقاً في سماء الخيال والتمني، لينسج أحداثاً وأوضاعاً تتخطى الواقع المعاش، وليرسم صوراً ولوحات تتجاوز الإمكانات المتاحة، ولكنها قد تتحقق فيما بعد وتصبح ظواهر حية مألوفة.
إن ارتياد الفضاء والسفر إلى القمر، الذي أنجزه إنسان القرن العشرين، كان حلماً وخيالاً داعب عقل الإنسان من القرن الثاني للميلاد، حيث كتب (لوسيان) السوري كتاباً باللغة اليونانية بعنوان "قصة حقيقية" كما كتب فيما بعد الفرنسي (سيرانودي برجراك) في القرن السابع عشر متخيلاً رجالاً يطيرون في الفضاء في سفن وصواريخ متعددة الطوابق، وكتب الفلكي الألماني (يوهانس كيبلر) قصة "رحلة إلى القمر". ومن عجيب ما يذكر أن المخابرات الأمريكية أصيبت بالشك والحيرة حين نشر الكاتب الأمريكي (كارتميل) عام 1944م قصته "الموعد النهائي" التي تشير إلى صنع قنبلة ذرية. ومردّ هذا الشك وهذه الحيرة إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت تجدّ في ذلك الوقت في صناعة القنبلة الذرية في جوٍ من السرية التامة، وثبت من التحقيقات التي أجرتها المخابرات الأمريكية أن الكاتب لم يطّلع على هذا السر، وإنما كان ذلك من بنات أفكاره وأعمال خياله. [1]
وعن المدى الواسع لتطلعات الإنسان وآماله، يقول الإمام علي ابن أبي طالب :
«
(الأمل لا غاية له)[2] .
(الآمال لا تنتهي)[3] .
(لا تخلو النفس من الأمل حتى تدخل في الأجل)[4] .
»
إن أهمية الأمل والتطلع عند الإنسان تتحقق عندما يكون وقوداً للحركة، وطاقةً للسعي، وعندما يخلق حالة الاندفاع نحو العمل، وبنفس القدر يكون مؤثراً في حياة الإنسان وفاعلاً في واقعه.
أما إذا تحول الأمل والتطلع إلى تمنيات فارغة، وتخيلات ساذجة، يكتفي الإنسان بالتلذذ باجترار صورها في مخيلته، والأنس بتكرارها على مسرح ذهنه، فسوف لن يكون لذلك أي تأثير على واقعه، ولن يلامس شيئاً من أوضاع حياته.
فمجرد التمني لشيء دون السعي نحوه لا يعطيك ذرة من الحق في الوصول إليه، يقول تعالى: ﴿أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى﴾ [5] .
ذلك أن السعي وحده هو طريق الإنجاز، يقول تعالى: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى. وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى. ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى ﴾ [6] .
الأفكار والمعتقدات:
المعتقدات الدينية للإنسان تعني الإجابات التي يتوصل إليها عن التساؤلات التي ترتسم أمامه عن وجوده ومصيره ومساره في هذه الحياة.
وقد تكون تلك الإجابات ـ المعتقدات ـ نتيجة بحث وتفكير ذاتي من الإنسان، أو تكون نتيجة تقليد واتباع ومحاكاة.
بالطبع تتفاوت المعتقدات من حيث إصابتها للحقيقة والواقع أو مفارقتها لذلك، وفي درجة الإصابة أو المخالفة.
وإذا كان الوصول إلى العقيدة الصحيحة ضرورياً ومهما للإنسان، فإن ما يهمنا في هذا البحث، هو رصد مدى تأثير تلك العقيدة الصحيحة على واقع حياة الإنسان وأوضاعه.
فالإيمان بعقيدة صحيحة لا يعني إنتاج واقع صحيح دائماً وأبداً، إلا بمقدار ما تنعكس تلك العقيدة على سلوك الإنسان وعلمه، والقرآن الكريم حينما يتحدث عن الإيمان يقرنه غالباً بالعمل الصالح، للتأكيد على مصداقية الإيمان وأثره في حياة الإنسان.
يقول تعالى:
﴿مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [7] .
﴿وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى﴾[8] .
﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُـوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ﴾ [9] .
ونجد هذا التلازم بين الإيمان والعمل مكرراً في أكثر من سبعين آية في القرآن الكريم، لكي يؤكد حقيقة هامة، هي ضرورة انعكاس الإيمان عملياً على حياة الإنسان وسلوكه، وأنه لا قيمة له إذا كان مجرد نظريات حبيسة في الذهن، أو قناعات مختزنه في النفس.
ولا يصح أبداً أن يتوقع الإنسان المؤمن أن تشفع له عقيدته الصحيحة في ترتيب شؤون حياته، وفي أخذ موقع متقدم على الآخرين، دون أن يكون مستحقاً لذلك بكفاءته وسعيه.
ففرص التقدم في الحياة متاحة للجميع، والسنن الإلهية الحاكمة لا تقبل المحاباة ولا المحسوبيات. إن القدرة على السباحة في البحر تنجي الإنسان من الغرق، مؤمناً كان أو كافراً، فإذا لم يتقن المؤمن السباحة فإنه سيغرق إنفاذاً لسنة الله، ولا يشفع له إيمانه وتدينه في النجاة، وإذا كان الكافر قادراً على السباحة فسيصل إلى ساحل البحر بسلام رغم كفره، يقول تعالى: ﴿كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاَء وَهـَؤُلاَءِ مِنْ عَطَـاءِ رَبِّكَ وَمَا كَـانَ عَطَـــاءُ رَبِّكَ مَحْظـُورًا ﴾[10] .
فعطاء الله تعالى في الدنيا ليس خاصاً بالمؤمنين، وإنما هو مبذول لهم وللكافرين على حدٍ سواء، وليس محظوراً على أحد، بسبب بطلان عقيدته أو مذهبه.
ويخاطب الإمام علي ابن أبي طالب من يراهنون على قوة الفكر والخطاب، مع ضعفهم في مجال العمل والحركة بقولـه: «إنكم إلى إعراب الأعمال أحوج منكم إلى إعراب الأقوال»[11] .
ويقول أيضاً : «الشرف عند الله سبحانه بحسن الأعمال لا بحسن الأقوال»[12] .
وفي معركة أحد نجد مصداقاً جلياً لهذه المعادلة الحياتية، والسنة الإلهية، فمع أن المسلمين هم أصحاب الدين الصحيح، والعقيدة الصادقة، وكان فيهم رسول الله وهو أشرف خلق الله، وأحبهم إليه، إلا أن ذلك لم يشفع لهم في الانتصار على العدو الكافر، ذي العقيدة الفاسدة، حينما قصروا في العمل ولم يلتزموا بخطة المعركة، حيث نزل الرماة من أعلى الجبل وأعطوا للعدو فرصة الالتفاف عليهم.
الأعمال والسلوك:
إن سعي الإنسان هو الذي يصنع واقعه في هذه الحياة، وإن عمله ونشاطه هو الذي يحدد درجة مستواه الحياتي. وإذا ما رأينا الناس تتفاوت مستوياتهم، كأفراد وكأمم ومجتمعات، فهناك من يصنف ضمن فلك العالم المتقدم، وهناك من يرزح تحت وطأة التخلف، فلا بد أن نبحث عن سبب هذا التفاوت في المجال السلوكي العملي.
فالنجاح والفشل والتقدم والتأخر، ليس نتيجة لتفاوت مستوى التطلعات والآمال، ولا هو أثر حتمي للمعتقدات والأفكار المجردة، وإنما هو إفراز طبيعي لمستوى العمل والسعي والنشاط.
ويقرر القرآن الحكيم، في آيتين كريمتين، أن عمل الإنسان هو الذي يحدد درجته ومستواه في الدنيا والآخرة.
يقول تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ﴾[13] .
ويقول تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾[14] .
إن درجة ومستوى كل إنسان، فرداً كان أو مجتمعاً، لا تتحدد من وحي تخيلاته وآماله وتطلعاته، ولا من خلال أفكاره ومعتقداته وإنما ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ﴾أي أن درجته تتحدد عبر سعيه وعمله.
وعلى الإنسان أن يثق بقيمة العمل وجدواه، فالإدارة الإلهية للكون حكيمة مهيمنة عادلة، لا تسمح بانفلات ذرة من الجهد والنشاط خارج المعادلات والسنن. ذلك أن ضياع شيء من الجهد والعمل، إنما يحدث إما خطأً بسبب الغفلة وعدم الانتباه، وهذا منفي حتماً عن الله تعالى: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ وإما عمداً وذلك ظلم وبخس يتنـزه الله تعالى عنه:﴿وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾.
إن البعض من الناس، بسبب الجهل، أو بدافع الكسل، يتوانى عن العمل والحركة، تشكيكاً منه في جدوى العمل وتأثيره، حيث يصاب بحالة من الإحباط والعزوف عن الفاعلية. لهؤلاء يتوجه القرآن الكريم مؤكداً خطأ تصوراتهم، ومقرراً حتمية تأثير أي ذرة من العمل يقوم به الإنسان في هذه الحياة خيراً كان أو شراً.
يقول تعالى: ﴿لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ﴾[15] .
ويقول تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه ﴾ [16] .
أعداؤنا عبرة لنا:
شراذم من اليهود اجتمعوا من أنحاء مختلفة من العالم، ليغتصبوا أرضاً ليست لهم، وطردوا منها أهلها بقسوة وبشاعة، ثم أشادوا لهم كياناً عدوانياً سموه "إسرائيل"، واستخدموا كل أساليب المكر، لجلب أشباههم من شتى البلاد، وبالكاد وصل عددهم إلى حوالي 5 مليون نسمة، يعيشون في محيط عربي وإسلامي كبير يناهز عمقه الإسلامي أكثر من مليار وربع المليار من البشر، كلهم ينظرون إلى شراذم اليهود المحتلين الغاصبين نظرة الرفض والكراهية والعداء، وليس في الأرض التي احتلوها "فلسطين" إمكانيات وثروات مادية متميزة..
لكن هؤلاء اليهود، رغم حداثة دولتهم المصطنعة، والتي لا يزيد تاريخها على نصف قرن من الزمن، ورغم أنهم خليط غير متجانس، وأن الظروف المحيطة بهم قلقة غير مستقرة، إلا أنهم استطاعوا أن يجعلوا من كيانهم قوة ترهب دول المنطقة، وتسعى للهيمنة عليها، وحققوا تقدماً وتطوراً علمياً وصناعياً وإنتاجياً مدهشاً.
صحيح أنهم مدعومون من الشرق والغرب وخاصة أمريكا، ولكن الأصح أن هذا الدعم لم يأت لسواد عيون اليهود، وإنما لأنهم فرضوا أنفسهم بفاعليتهم ونشاطهم، ومن يقرأ عن دور اللوبي الصهيوني في أمريكا وروسيا وأوربا يدرك هذه الحقيقة، كما أنهم بفاعليتهم استوعبوا هذا الدعم، وترجموه إلى بناء قوي، ووظفوه بأقصى حد ممكن في تثبيت وجودهم العدواني.
لقد سرقوا وغصبوا قطعة أرض صغيرة ولكنها مقدسة غالية وعزيزة، من أرض الإسلام الكبيرة الواسعة المترامية الأطراف، ثم أشادوا عليها بناءً قوياً متقدما بالعلم والحركة والنشاط، بينما تعاني الكثير من أراضي المسلمين وبلدانهم من التأخر والضعف والتخلف.
فكيف يعمل الغاصبون الدخلاء بفاعلية ونشاط في أرض ليست لهم؟! وكيف يتقاعس المسلمون في أوطانهم؟.
تقول إحدى الإحصائيات المؤلمة: إن دخل إسرائيل القومي عام 1994م (78.1) بليون دولار، وعدد سكانها (5.4) مليون نسمة، بينما يصل عدد سكان مصر وسورية والأردن وفلسطين إلى (83.3) مليون نسمة، لكن دخلهم جميعاً يقل عن دخل إسرائيل!!.
وبعد أن كانت إسرائيل ولعدة عقود تعد دولة نامية، تتلقى مساعدات مالية دولية، أصبحت ومنذ العام 1976م ـ أي بعد حوالي 28 سنة من تأسيسها ـ تعتبر دولة متقدمة غير مستحقة لقروض البنك الدولي.
وقد وصل معدل الناتج الإجمالي للفرد الإسرائيلي عام 1995م إلى (16.000) دولار أمريكي، وهو رقم مقارب لبريطانيا البالغ (18.700) دولار.
وفي عام 1997م وحسب تصريحات وزير المالية الإسرائيلي، فقد وصل الناتج المحلي الإجمالي للفرد في السنة إلى (17.000) دولار، بعد فترة نمو كبيرة خلال الفترة 1990ـ1996، وصل إلى 6% بسبب التوسع في المجالات ذات القيمة المضافة العالية التقنية إجمالاً والإلكترونيات بشكل خاص.
وهناك حالياً أكثر من (100) شركة إسرائيلية مدرجة في بورصة (ناسداك) في نيويورك في أمريكا، المشهورة بشركات التقنية العالية، مما يجعلها الدولة الأولى في عدد الشركات المدرجة في الولايات المتحدة الأمريكية[17] .
إن المسلمين هم الأولى والأجدر بحالة الحركة والنشاط، استجابةً لتعاليم دينهم، وليكونوا في موقع الريادة والتأثير، كما يريدهم الله سبحانه ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾[18] وليصبحوا في المستوى الأفضل، إذا التزموا بمقتضيات إيمانهم ﴿وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾[19] .