احترام مشاعر الناس
لشخصية الإنسان صورتان.
الأولى: مادية تتمثل في جسمه المكوّن من لحم ودم وعظم..
الثانية: معنوية تتجلى في مكانته الإعتبارية عند الناس، وما تنطوي عليه نفسه من عواطف ومشاعر وأحاسيس.
وكما أن للجانب الأول من شخصية الإنسان حدوداً وحقوقاً تجب مراعاتها واحترامها، فلا يصح الاعتداء على جسمه بالقتل أو الضرب أو الجرح، ولا الاعتداء على أمواله وممتلكاته بالنهب أو السرقة أو الغصب.
كذلك فإن للجانب المعنوي حرمة وحصانة، فلا يجوز اسقاط الشخصية الإعتبارية للإنسان، بتشويه سمعته، ولا يجوز خدش عواطفه ومشاعره وأحاسيسه.
وإذا كان متعارفاً بين الناس رعاية الحرمات المادية، فلا يضرب أحدٌ أحداً أو يجرحه، ولا ينهب منه ماله أو يسرقه، إلا ضمن حالات الخصام أو الإجرام، وهي محدودة شاذة، فإن رعاية الحرمات المعنوية لا تحظى بالإهتمام المطلوب، وغالباً ما تنتهك وتتجاوز، حتى في أوساط المتدينين والملتزمين.
فالبعض من المتدينين يحسب ألف حساب قبل أن تمتد يده لخدش جسم إنسان آخر، أو لأخذ فلس واحد من مال الغير، ولكنه قد لا يتردد كثيراً في جرح مشاعر الآخرين، وإيذاء أحاسيسهم وعواطفهم.
إن جراحات الجسم يظهر أثرها فوراً وبشكل واضح من خروج دم، أو حدوث كسر، أو تغيّر لون. لكن جراح المشاعر تكون في أعماق النفس، وتختمر تفاعلاتها وتتأجج في قلب الإنسان، بعيداً عن المشاهدة والعيان. وهي بذلك أشد إيلاماً، وأقسى وقعاً، ونتائجها أسوأ وأخطر. وقد تتحول إلى عقد متراكمة، وأحقاد مضطرمة، تتفجر في المحيط الاجتماعي ناشرة الويل والدمار.
لذلك يقول الإمام علي : «رُبّ كلام كالحسام)، (رُبّ كلام أنفذ من سهام)، (زلة اللسان أشدّ من جرح السنان)، (طعن اللسان أمضى من طعن السنان»[1] .
وقال الشاعر:
جراحات السنان لها التئام *** ولا يلتام ما جرح اللسان
ولو خيّرت أي إنسان بين جرح جسمه أو جرح كرامته، لما أختار الثانية على الأولى إن كان مستقيماً سوّياً. ومشاعر الإنسان رقيقة شفافة تحتاج إلى دقة في المراعاة والإحترام.
من هنا ورد في الحديث عن رسول الله أنه قال في تعريف المسلم: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده»[2] .
فالمسلم الحقيقي هو من لا يعتدي على شيء من حقوق الآخرين المعنوية أو المادية، ونجد أن الحديث الشريف قدّم الحرمة المعنوية على المادية، حيث قال: «من لسانه» أولاً، واللسان هو أداة التجريح المعنوي.
(والمراد بالمسلمين هنا كل الناس، وإنما خص المسلمين بالذكر لأن الحديث صدر في بيئة إسلامية، ويدل على إرادة العموم قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ [3] هذا إلى جانب الأحاديث الكثيرة الآمرة بكف الأذى عن الناس إطلاقاً)[4] .
التخاطب هو وسيلة التواصل بين الناس، وتبادل الآراء والافكار، والتعبير عن المشاعر والأحاسيس، فبكلامك يعرف الآخرون ما يدور في عقلك، وما تنطوي عليه نفسك تجاههم. يقول الإمام علي : «صورة الرجل في منطقه»[5] .
والخطاب هو المرآة التي تكشف نظرتك للناس، وموقفك نحوهم، وهو أداة التعامل مع المشاعر والعواطف. فاحترامك للناس ينعكس على تخاطبك معهم، وكلامك إياهم. لأن الكلمة الطيبة تشرح النفوس، وتسر القلوب، يقول الإمام علي : «ما من شيء أجلب لقلب الإنسان من لسان»[6] .
وعلى العكس من ذلك: الكلمة السيئة فإنها تجرح المشاعر، وتمزق العواطف.
لذلك تؤكد التعاليم الدينية على ضرورة الحرص على انتقاء أفضل الكلمات، وأجمل التعبيرات، وأحسن الألفاظ، عند التخاطب مع الناس. ففي القرآن الكريم آيات عديدة تحدد المواصفات التي يجب أن يتسم بها الخطاب مع الناس، نستعرض بعضاً منها:
1- القول المعروف: عليك أن تتحدث مع الآخرين بما ترتاح له نفوسهم، وأن تبتعد عن كل كلمة تسبب الازعاج والنفور. وحتى بالنسبة لمن يعانون نقصاً أو ضعفاً في شخصيتهم لصغر سنهم أو خفة عقلهم، فإن الإسلام يسلبهم حق التصرف في أموالهم، حفاظاً على مصلحتهم، لأنهم سيهدرون ثرواتهم وإمكانياتهم في غير مصارفها الصحيحة، لكن الولي عليهم، والمسؤول عن حفظ وإدارة أموالهم، يجب أن يتخاطب معهم بلطف واحترام، وبالكلام المقبول. يقول تعالى: ﴿ وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفًا ﴾ [7] .
فكونه غير ناضج، ولا يوثق بسلامة تصرفه في ماله، لا يعني التجاهل لمشاعره وعواطفه. وكما يقول العلامة الطباطبائي: (فإن هؤلاء وإن كانوا سفهاء محجورين عن التصرف في أموالهم، غير أنهم ليسوا حيواناً أعجم، ولا من الأنعام السائمة بل بشر يجب أن يعامل معهم معاملة الإنسان، فيكلموا بما يكلم به الإنسان لا بالمنكر من القول)[8] .
وتكرر الأمر بالقول المعروف في عدة آيات أخرى: ﴿ إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفًا ﴾ [9] ﴿وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفًا ﴾ [10] .
2- القول السديد: فالإنسان الذي يخشى ربه، عليه أن يحسب حساباً لكلامه مع الناس، فالكلام السيء المسيء مخالف لتقوى الله، والمتقي لله يتكلم مع الناس برزانة واحترام. يقول تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا﴾ [11] .﴿فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا﴾ [12] والقول السديد هو الصواب المحكم الذي لا خلل فيه ونلحظ في الآيتين الكريمتين الإرتباط بين تقوى الله والقول السديد.
3- القول الميسور: والضعيف الذي يقصدك في حاجة، أو يطلب منك مساعدة أو معونة، وأنت لا تستطيع الإستجابة له، فعليك أن تقابله بالكلام الرقيق الجميل ﴿ فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُورًا﴾ [13] . و(ميسور) مشتقة من (يسر) وهي بمعنى الراحة والسهولة، ويشمل كل كلام جميل وسلوك مقرون بالاحترام والمحبة.
وحتى لو كان هذا السائل المحتاج ملحاحاً فلا تجابهه بالخشونة والغلظة ﴿وأما السائل فلا تنهر﴾ [14] .
4- القول الحسن والأحسن: أساساً ينبغي للإنسان أن لا يتلفظ للآخرين وعنهم بكلام سيء، بل يلتزم بابداء القول الجميل مع كل الناس يقول تعالى: ﴿ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ [15] . بل عليه أن يسعى لاختيار أحسن القول والكلام، وأن ينتقي أجمل العبارات أسلوباً ومحتوى ﴿ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [16] .
وحتى مع المناوئين والمخالفين في الدين، يجب الحرص على أدب التخاطب والتحادث معهم، ليكون على أفضل وجه، ومن لا يجد في نفسه القدرة على المناقشة للآخرين بأحسن أسلوب، فليترك هذه المهمة لغيره. يقول تعالى: ﴿ وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [17] .
هكذا يحدد القرآن الكريم سمات الخطاب والحديث مع الناس، بأن يكون خطاباً معروفاً سديداً ميسوراً حسناً.
في حالات الغضب والإنفعال، وفي مواقع القدرة والقوة، على الإنسان أن يكون أكثر سيطرة على لسانه، وتحكماً في حديثه وكلامه، ولا تتأتى هذه الملكة والصفة للإنسان إلا إذا درّب نفسه وعودها على أمرين أساسيين:
الأول: التفكير قبل الكلام، فلا يتكلم اعتباطاً وارتجالاً، ولا تستدرجه الإثارات والإنفعالات، بل يتأمل ويتدبر فيما يريد قوله. روي عن رسول الله أنه قال: «إن لسان المؤمن وراء قلبه فإذا أراد أن يتكلم بشيء تدبره بقلبه ثم أمضاه بلسانه، وإن لسان المنافق أمام قلبه، فإذا همّ بشيء أمضاه بلسانه ولم يتدبره بقلبه»[18] .
وفي أكثر من آية في القرآن الكريم يصف الله تعالى عباده الصالحين بأنهم لا يستجيبون لإثارات الكفار والجاهلين، حينما يشتمونهم ويسبونهم، بل يتسامى المؤمنون عن الإنحدار والإسفاف إلى مستوى الجهل والكلام السيء. يقول تعالى: ﴿ وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِين﴾ [19] واللغو هو الساقط من القول والمقصود به هنا: الشتم والأذى من الكفار. وفي آية أخرى: ﴿ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامً ﴾[20] ﴿ وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا ﴾ [21] .
الثاني: أن يجعل الإنسان نفسه مقياساً، فيضعها مكان الطرف الآخر، فلا يقول للآخرين كلمة حتى يستفتي مشاعره وعواطفه نحوها، هل يرتضيها هو لنفسه؟ وهل يقبل أن تقال له أم لا؟.
يقول الإمام محمد الباقر : «قولوا للناس أحسن ما تحبون أن يقال لكم»[22] .
ويقول الإمام علي : «اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك، وأحبّ لغيرك ما تحب لنفسك، واكره له ما تكره لها، لا تظلم كما لا تُحب أن تُظلم، وأحسن كما تُحبّ أن يُحسن إليك، واستقبح لنفسك ما تستقبحه من غيرك، وارض من الناس ما ترضى لهم منك»[23] .
جاء في السيرة النبوية أن النبي سخط على أحد اصحابه المجاهدين لأنه تلفظ بكلام جارح لأحد المشركين رداً على استهزائه برسول الله . وذلك في الطريق إلى بدر أولى معارك الإسلام الفاصلة، لقي المسلمون رجلاً من الأعراب، فسألوه عن الناس فلم يجدوا عنده خبرا، فقال له الناس: سلم على رسول الله ، قال: أوفيكم رسول الله؟ قالوا: نعم، فسلّم عليه، ثم قال: إن كنت رسول الله فاخبرني عما في بطن ناقتي هذه. قال له سلمة بن سلامة بن وقش: لا تسأل رسول الله، وأقبل عليّ فانا أخبرك عن ذلك، نزوت عليها، ففي بطنها منك سخلة، فقال رسول الله :« مه، أفحشت على الرجل، ثم أعرض عن سلمة»[24] .
هكذا لم يرض رسول الله بصدور كلام بذيء وإن كان لمشرك مستهزئ بالرسول .
وسمع الإمام علي قوماً من أصحابه يسبّون أهل الشام أيام حربهم بصفين، فقال لهم:
«إني أكره لكم أن تكونوا سبّابين، ولكنكم لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم، كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبّكم إياهم: اللهم احقن دماءنا ودماءهم، واصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحق من جهله، ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به»[25] .
ونقل ابن أبي الحديد في شرحه لنهج البلاغة أنه: خرج حُجر بن عدي وعمرو بن الحمق يظهران البراءة من أهل الشام، فأرسل علي إليهما: أن كُفّا عما يبلغني عنكما، فأتياه فقالا: يا أمير المؤمنين ألسنا محقّين؟
قال:« بلى».
قالا: أوليسوا مبطلين؟
قال: «بلى».
قالا: فلم منعتنا من شتمهم؟
قال:« كرهت لكم أن تكونوا لعّانين شتّامين تشتمون وتتبرأون، ولكنكم لو وصفتم مساوئ أعمالهم فقلتم: من سيرتهم كذا وكذا، ومن أعمالهم كذا وكذا، كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان لعنكم إياهم، وبراءتكم منهم: اللهم أحقن دماءهم ودماءنا، واصلح ذات بينهم وبيننا، واهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحق من جهله، ويرعوي عن الغي والعدوان منهم من لهج به، لكان أحبَّ إليّ، وخيراً لكم.»
فقالا: يا أمير المؤمنين، نقبل عظتك، ونتأدب بأدبك[26] .
لاحظوا أن المسألة ليست أن هذا الطرف يستحق السب واللعن أم لا يستحق، وإنما يجب النظر في الإنعكاسات والآثار التي يخلفها ذلك على مشاعر الآخرين وعواطفهم، وإلاّ فإن أحداً لا يشك في سوء مصير أبي جهل، وكونه من أهل النار، لكن رسول الله بعد أن دخل مكة فاتحاً هرب منها عكرمة بن أبي جهل إلى اليمن، خوفاً من أن يقتله رسول الله ، وكانت امرأته أم حكيم بنت الحارث بن هشام امرأة لها عقل وكانت قد اتبعت رسول الله ، فجاءت إلى رسول الله فقالت: إن ابن عمي عكرمة قد هرب منك إلى اليمن، وخاف أن تقتله فآمنه، قال :« قد آمنته بأمان الله فمن لقيه فلا يتعرّض له»، فخرجت زوجته في طلبه، فأدركته في ساحل من سواحل تهامة، وقد ركب البحر، فجعلت تلوح إليه وتقول: يا ابن عم جئتك من عند أوصل الناس وأبرّ الناس وخير الناس، لا تهلك نفسك وقد استأمنت لك فآمنك، فقال: أنت فعلت ذلك؟ قالت: نعم أنا كلمته فآمنك.
فرجع معها فلما دنا من مكة قال رسول الله لأصحابه: «يأتيكم عكرمة مهاجراً فلا تسبّوا أباه فإن سب الميت يؤذي الحي ولا يبلغ»[27] .
وفي النصوص والتعاليم الدينية نهي وتحذير عن كل ألوان الكلام الجارح من سب أو شتم أو تعيير أو سخرية وتحقير أو غيبة وبهتان..
الإنسان كتلة من العواطف والمشاعر والأحاسيس، تعصف به التقلبات، وتعرض عليه الإنفعالات، كما تضغطه مشاكل الحياة، وعلاقته مع أبناء جنسه هي ملاذه وملجؤه، فإذا توفر له المحيط الاجتماعي الصالح، الذي يتعامل معه بالاحترام والتقدير، ويساعده على امتصاص واستيعاب تأثيرات ضغوط الحياة والتوترات النفسية، ويرفع معنوياته في مقابل المشاكل والأزمات، عندها يجد الكثير من الراحة والسعادة.
أما إذا عاش في وسط اجتماعي يفتقد أجواء المحبة والودّ، ويعاني من الجفاء والجفاف العاطفي والأخلاقي، فإن ذلك سيضاعف عليه العناء، ويملأ حياته ونفسه بالألم والشقاء.
إنك حينما ترى إنساناً عليك أن تنفذ إلى ما وراء جسمه ومظهره، وتضع في بالك حالته النفسية، وكيانه العاطفي،وتتعاطى مع أحاسيسه ومشاعره، بما يستلزم ذلك من رقة ومحبة واحترام.
والقرآن الكريم حينما يتحدث عن العلاقات الاجتماعية داخل مجتمع المؤمنين يصفهم بأنهم: ﴿ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ [28] أي يرحم بعضهم بعضاً.
ويشير الإمام جعفر الصادق إلى دفء العلاقة التي يجب أن تكون بين المؤمنين، وما يوفره كل واحد منهم للآخر من راحة نفسية فيقول: «إن المؤمن ليسكن إلى المؤمن كما يسكن الظمآن إلى الماء البارد»[29] .
وتقدم التعاليم الإسلامية توجيهات مفصلة شاملة لجميع جوانب التعاطي والتعامل بين أبناء المجتمع على أساس من الاحترام والمحبة والاهتمام. بدءاً من السلام وإلقاء التحية، أو إجابتها بأفضل منها، إلى المقابلة بالبشاشة والاستبشار، إلى الإفساح له في المجلس، والإصغاء لحديثه، ومواساته والتعاطف معه في همومه، ومساعدته وقضاء حاجته.. إلى العشرات من النقاط والتوصيات التي تصنع أفضل علاقة، وتوفّر أجمل رعاية للمشاعر والأحاسيس.
يهتم الإنسان المسلم بالتزاماته العبادية مع الله كالصلاة والصوم والحج... ويحرص على تأديتها حسب الأحكام الشرعية، متقرباً بذلك إلى الله تعالى. وما ينبغي التأكيد عليه هو أن احترام مشاعر الناس، ورعاية حقوقهم المعنوية، لا يقل أهمية عند الله تعالى من تلك العبادات والشعائر الدينية، بل يظهر من بعض النصوص والأحكام أولوية حقوق الناس. كما ورد عن الإمام علي : «جعل الله سبحانه حقوق عباده مقدمة على حقوقه، فمن قام بحقوق عباد الله كان ذلك مؤدياً إلى القيام بحقوق الله»[30] .
ونذكر بعض الموارد التي يتبين منها موقعية احترام مشاعر الناس في الإطار العبادي.
1- إن المبادرة للصلاة إذا حان وقتها أمر مطلوب من الناحية الشرعية وإذا أقيمت الصلاة للجماعة تكون أكثر تأكيداً، ورسول الله هو الأحرص على هذه الإلتزامات الشرعية، لكن الرواية الواردة عن أنس رضي الله عنه قال: أقيمت الصلاة ورجل يناجي رسول الله فما زال يناجيه حتى نام أصحابه، ثم قام فصلى[31] .
2- ويصلي رسول الله بالمسلمين جماعة، فيطيل في سجوده أكثر من المعهود فيسأله القوم بعد الصلاة: يا رسول الله لقد سجدت في صلاتك هذه سجدة ما كنت تسجدها، كأنما يوحى إليك. فقال :« لم يوح إليّ، ولكن ابني - الحسن بن علي - كان على كتفي فكرهت أن أعجله حتى نزل»[32] .
3- ويسمع رسول الله بكاء طفل وهو يصلي بأصحابه جماعة، فيخفف صلاته رحمة بذلك الطفل، ورعاية لعواطف أمه. روى أبو قتادة عن النبي قوله: «إني لأقوم في الصلاة أريد أن أطوّل فيها فأسمع بكاء الصبي فأتجوّز في صلاتي كراهية أن أشق على أمه»[33] .
وفي رواية عنه : «فأتجوّز في صلاتي مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه»[34] .
وعن أنس بن مالك: وإن كان ليسمع بكاء الصبي فيخفف مخاف أن تفتن أمه[35] .
4- عن أبان بن تغلب قال: كنت مع أبي عبد الله جعفر الصادق في الطواف، فجاء رجل من إخواني، فسألني أن أمشي معه في حاجته. ففطن بي أبو عبد الله فقال: «يا أبان من هذا الرجل؟» قلت: رجل من مواليك سألني أن أذهب معه في حاجته.
قال:« يا أبان اقطع طوافك، وانطلق معه في حاجته فاقضها له.»
فقلت: إني لم أتم طوافي.
قال: «إحص ما طفت وانطلق معه في حاجته.»
فقلت: وإن كان طواف فريضة؟
فقال:« نعم وإن كان طواف فريضة.»
إلى أن قال :« لقضاء حاجة مؤمن خير من طواف وطواف، حتى عدّ عشر. »
فقلت له: جعلت فداك فريضة أم نافلة؟
فقال:« يا أبان إنما يسأل الله العباد عن الفرائض لا عن النوافل»[36] .
5- وللصوم المستحب فضل عظيم وأجر كبير، لكنك إذا دعيت للطعام من قبل أحد اخوانك المسلمين، فإن استجابتك له أرجح عند الله تعالى من اكمال الصيام.
ورد عن الإمام محمد الباقر : «من نوى الصوم ثم دخل على أخيه فسأله أن يفطر عنده فليفطر، فليدخل عليه السرور، فإنه يحتسب له بذلك اليوم عشرة أيام»[37] .
وفي حديث آخر: «من دخل على أخيه وهو صائم تطوعاً فأفطر كان له أجران: أجر لنيته لصيامه، وأجر لإدخال السرور عليه»[38] .
إن هذه الأحكام والتوجيهات الدينية تريد تربية الإنسان المسلم على احترام مشاعر الآخرين، وحفظ كرامتهم ومكانتهم، وأن ذلك مورد لرضى الله سبحانه، ومخالفته توجب سخطه، والمتدين الذي يهتم بضبط أحكام وضوئه وصلاته، عليه أن يكون أكثر اهتماماً بضبط أسلوب تعامله وعلاقته مع الناس. فقد قيل لرسول الله : إن فلانة تصوم النهار وتقوم الليل وتؤذي جيرانها. فقال : «هي في النار»[39] .
إن سيرة الرسول وأخلاقه العظيمة في تعامله مع الناس، يجب أن تكون مدرسة يستلهم منها المسلمون أروع المناهج والبرامج في تشكيل وصياغة علاقاتهم الاجتماعية، فمع عظيم قدره ومكانته، ومع موقعيته القيادية في مجتمعه، كان يتعامل مع جميع الفئات والأصناف بمنتهى الرقة والعطف، وغاية التقدير والإحترام.
كان من صفاته أنه لا يقطب وجهه، وإذا قال إنسان شيئاً يكرهه لم يجابهه بذلك، بل كان يقول: ما بال أقوام يصنعون كذا ويقولون كذا؟ فينهى بدون أن يسمي فاعل الأمر.
وكان يتفقد أصحابه، ويعطي كل واحد من جلسائه نصيبه، لا يحسب جليسه أن أحداً أكرم عليه منه.
ومن جالسه لحاجة صبر له حتى يكون هو المنصرف عنه.
ومن سأله حاجة لم يرده إلا بها، أو بميسور من القول. وكان يقول: «ردوا السائل بشيء قليل، أو بقول جميل».
وقد روى بعض خدمه أنه قال: خدمت رسول الله عشر سنين فما قال لي: أف قط، وما قال لشيء صنعته، لمَ صنعته؟ ولا لشيء تركته، لمَ تركته؟
وكان من عادته أنه يجيب الناس الذين ينادونه بأحسن جواب، فكان إذا ناداه أحد قال له: «لبيك».
وعن جرير بن عبد الله قال: ما حجبني رسول الله قط منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسّم، وكان يمازح أصحابه، ويخالطهم، ويحادثهم، ويداعب صبيانهم، ويجلسهم في حجره، ويجيب دعوة من دعاه، ويعود المرضى حتى في أقصى المدينة، ويقبل عذر المعتذر، ولا يرتفع على أحد حتى عبيده وإمائه في مأكل ولا ملبس.
وروى بعض أصحابه أنه إذا فقد الرجل من أصحابه ثلاثة أيام سأل عنه، فإن كان غائباً دعا له، وإن كان شاهداً زاره، وإن كان مريضاً عاده، وكان لا يدع أحداً يمشي معه إذا كان راكباً حتى يحمله معه، فإن أبى قال: تقدم أمامي وأدركني في المكان الذي تريد.
وكان يتعاون مع أصحابه، كأنه احدهم لا يترفع عليهم في قليل ولا كثير. فقد كان في سفر فأمر باصلاح شاة، فقال رجل: يا رسول الله عليّ ذبحها، وقال آخر: عليّ سلخها، وقال آخر: عليّ طبخها، فقال : «وعليّ جمع الحطب». فقالوا: يا رسول الله نحن نكفيك، فقال :« قد علمت أنكم تكفوني، ولكني أكره أن أتميّز عليكم، فإن الله يكره من عبده أن يراه متميزاً بين أصحابه». ثم قام فجمع الحطب.
وكان إذا استمع إلى أحد لا ينحي رأسه حتى يكون الرجل هو الذي ينحي رأسه.
وكان إذا أخذ بيده أحد، لا يرسل يده حتى يرسل ذلك الإنسان يده.
وما قعد إلى رجل قط فقام حتى يقوم ذلك الرجل، ولم ير مقدماً ركبتيه بين يدي جليس له، وكان يبدأ من لقيه بالسلام حتى الأطفال والنساء، ويبدأ أصحابه بالمصافحة.
ويكرم من دخل عليه، وربما بسط إليه ثوبه، ويؤثره بفراشه الذي تحته، ويكنّي أصحابه، ويدعوهم بأحب أسمائهم، تكرمة لهم، ولا يقطع على أحد حديثه.
وقد روى سلمان الفارسي رضي الله عنه: دخلت على رسول الله وهو متكئ على وسادة، فألقاها إلي. ثم قال:« يا سلمان ما من مسلم دخل على أخيه المسلم فيلقي له الوسادة إكراماً له إلا غفر الله له».
وإذا كان يصلي وجاء إليه أحد خفف صلاته حتى يفرغ منها مسرعاً ليسأله عن حاجته، ثم يعود إلى صلاته.
وكان يؤتى بالصبي الصغير فيدعو له بالبركة، أو يسميه، أو يؤذن في أذنه، فيأخذه فيضعه في حجره تكرمة لأهله، وربما بال الصبي عليه فيصيح عليه بعض من رآه حين بال، فيقول :« لا تزرموا بالصبي فيدعه حتى يقضي بوله، ثم يفرغ له من دعائه أو تسميته أو أذانه. فيبلغ بذلك سرور أهله إلى ما شاء الله، حيث يرون أنه لا يتأذى ببول صبيهم، فإذا انصرفوا غسل ثوبه.»
وكان إذا جلس إليه أحد تزحزح له شيئاً، وذات مرة قال له رجل: يا رسول الله في المكان سعة، فقال:« نعم، لكن من حق المسلم على المسلم إذا رآه يريد الجلوس أن يتزحزح له»[40] .
وخرج رسول الله من المدينة متوجهاً إلى الحج في السنة العاشرة، ومعه خلق كثير، فلما انتهى إلى ذي الحليفة أدرك أسماء بنت عميس زوجة أبي بكر المخاض، فعطل رسول الله سفره وأقام تلك الليلة ومعه كل المسلمين من أجلها، وولدت محمد بن أبي بكر[41] .
وجاء إعرابي فبال في جانب من المسجد فزجره الناس فنهاهم النبي فلما قضى بوله أمر النبي بذنوب من ماء فأهريق عليه[42] .
وفي رواية قام إعرابي فبال في المسجد فتناوله الناس فقال لهم النبي : «دعوه وهريقوا على بوله سَجْلاً من ماء أو ذنوباً من ماء فإنما بعثتم ميسِّرين ولم تبعثوا معسِّرين»[43] .
ومرّ ذات يوم بصبي فرآه حزيناً ولما سأله عن السبب قال: إن بلبله قد مات فعزاه وخفف عنه[44] .
واستقصاء أخلاقيات رسول الله وروائع سيرته العطرة تحتاج إلى مجلدات، وإنما أردنا تقديم بعض الصور والنماذج، لتأكيد أهمية حسن التعامل والعلاقة مع الناس، وضرورة احترام مشاعر الآخرين وأحاسيسهم وعواطفهم.