الهـروب من العداوات
حالة العداوة مع أي أحد من الناس ليست ممتعة ولا مريحة، فهي عبء على نفس الإنسان، واستهلاك لاهتماماته وجهوده، وهدر لطاقات المجتمع، وتمزيق لوحدته وانسجامه.
لذلك على الإنسان العاقل الواعي أن يتجنب العداوات والخصومات، فلا يبادر أحداً بخصومة، ولا يصدر منه ما يسبب نزاعاً أو عداءً من قول أو فعل.
وإذا ما حاول أحد أن يستدرجه لعداوة أو صراع، فليتحلى بالذكاء وضبط النفس كي لا يقع في الفخ، فإن العداوة نفق لا يعرف الإنسان إذا دخله كيف يخرج منه؟
إن من صفات المؤمنين الواعين، التي يشيد بها القرآن الكريم، أنهم لا يستجيبون لإثارات العداء الصادرة من الجاهلين والمخالفين، بل يعرضون عنها كأنها لم تكن، ولا يقفون عندها بل يمرون عليها مرور الكرام، ويرفعون تجاهها شعار المسالمة والموادعة.
1.إن افتعال المشاكل مع الناس حالة سلبية عبثية يقوم بها الجاهلون الفارغون، أو المنحرفون المغرضون، وإذا ما تفاعل الإنسان مع حركاتهم العدوانية، وأبدى بها اهتماماً، ورد فعل، فإنه يحقق غرضهم، ويساعد في انجاح خطتهم لإيجاد المشكلة معه، وتوريطه فيها. لذا فإن المؤمن الواعي يفوّت عليهم الفرصة، ويتجاهل محاولاتهم لإستدراجه للصراع. يقول تعالى:
﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ﴾ [1] .
واللغو هو ما لا فائدة فيه. روي عن الإمام جعفر الصادق في تفسير هذه الآية ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾ قال : «هو أن يتقول الرجل عليك بالباطل، أو يأتيك بما ليس فيك فتعرض عنه لله». وقال مقاتل: هو الشتم فإن كفار مكة كانوا يشتمون النبي وأصحابه فنهوا عن اجابتهم[2] .
ويقول تعالى: ﴿ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ﴾ [3] .
يقال: تكرم فلان عما يشينه إذا تنزه وأكرم نفسه عنه، وقيل: مرورهم كراماً هو أن يمروا بمن يسبهم فيصفحون عنه[4] .
ويعبر عن هذا الموقف المتسامي قول الشاعر:
ولقد أمر على اللئيم يسبني *** فمضيت ثمت قلت لا يعنيني
2.وإذا كانت نفس الجاهل المغرض تطفح بالمساوئ والرذائل، فيلهج لسانه بكلمات الإثارة، وعبارات الطعن والتجريح، فإن نفس المؤمن الواعي مطمئنة بالخير والهدى، فما يفيض على لسانه إلا حديث الخير والصلاح، فلا يجابه كلمات السفه والعداء، إلا بمنطق السلم والتسامي عن اللغو والجهل.
يقول تعالى: ﴿ وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ﴾[5] .
فهم يعرضون عن أصحاب الكلام السيئ التافه، على أساس الإلتزام بمنهجيتهم المستقيمة، وحتى لا ينزلقوا في طريق السوء والإنحراف ﴿ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾ كما أنهم يرفعون شعار المسالمة، ﴿سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ﴾ ولا يضمرون في أنفسهم حقداً يدفعهم للإنتقام والتشفي. وقد يكون ذلك تعبيراً عن الترك والإنصراف فهو سلام وداع، إنهم يعلنون إنهاء اللقاء ولكن بإبداء تحية الوداع ﴿سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ﴾.
يقول العلامة الطباطبائي: (أي إذا خاطبهم الجاهلون خطاباً ناشئاً عن جهلهم مما يكرهون أن يخاطبوا به أو يثقل عليهم، كما يستفاد من تعلق الفعل بالوصف، أجابوهم بما هو سالم من القول، وقالوا لهم قولاً سلاماً خالياً عن اللغو والإثم)[6] .
وتكرر آيات عديدة في القرآن هذا المعنى تأكيداً لأهمية هذا السلوك الواعي، يقول تعالى: ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا﴾ [7] .
﴿ فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾[8] .
الإنسان كائن حي زوده الله تعالى بغرائز وشهوات، منها تنطلق انفعالاته، وبها يحقق لذاته ومصالحه.
ومن الغرائز العميقة في نفس الإنسان ووجوده غريزة الغضب، والتي تتحرك وتثور حينما يتعرض للخطر والعدوان، أو تنتصب في وجهه العوائق والعقبات لتحول بينه وبين تحقيق رغباته ومتطلباته.
وبالإنفعالات الصادرة عن هذه الغريزة، يدافع الكائن الحي عن نفسه، ويصد الخطر عن وجوده ومصالحه.
إن الإساءات التي تقع على الإنسان من الآخرين، تأخذ دور المنبّه والمثير لهذه الغريزة الكامنة في النفس، وعلى أساس هذه الإثارة تحصل الإستجابة الإنفعالية، وتترجم في الواقع الخارجي ممارسة عدائية إنتقامية.
فهناك إذن جوانب ثلاثة:
1.كائن حي - إنسان- يمتلك قوة غريزية غاضبة.
2.حدث أو تصرف يكون منبهاً مثيراً لتلك الغريزة.
3.استجابة إنفعالية تجاه تلك الإثارة.
وإذا كان وجود غريزة الغضب أمراً طبيعياً وضرورياً لحياة الإنسان، فإن الناس يتفاوتون في مدى الإستجابة للمنبهات والمثيرات التي تتجه صوب هذه الغريزة.
فالبعض من الناس تكون استجاباتهم الإنفعالية خفيفة سريعة، فأقل كلمة تشعل نار الغضب في نفوسهم، وأبسط تصرف تقوم من أجله قيامتهم، ويندفعون للإنقضاض على الطرف الآخر بأي وسيلة انتقامية متاحة لديهم.
وهذا الصنف من الناس يصعب عليهم الإنسجام مع الآخرين، ويعجزون عن كسب الأصدقاء والمحبين، ويعيشون حياة شقية قاسية مليئة بالعداوات والخصومات.
إنهم يطلقون العنان لغريزة الغضب، فتضعف الإرادة ويتراجع العقل أمامها.
وقد يندفع الإنسان الغاضب لأعمال وممارسات يندم فيما بعد على ارتكابها، حيث لا يفيد الندم. فكم من أب ينزعج من تصرفات أطفاله الصغار، فينهال عليهم ضرباً مبرحاً يسبب لهم أضراراً وإعاقات جسمية، يتحمل هو فيما بعد عناء معالجتها إضافة إلى الإثم وسخط الرب، وعذاب الضمير؟
وكم من زوج يتفجّر بركان غضبه لخطاءٍ ما صدر من زوجته تجاهه، فتضطرب حياته العائلية، وينهدم كيان أسرته، أو يصاب بشرخ عميق؟ وقد يحصل مثل ذلك من قبل الزوجة تجاه زوجها.
وكم من إنسان خسر صديقاً نافعاً مخلصاً لعدم احتماله نقص أو تقصير صدر منه، فواجهه بغضب وانفعال؟
وكم من شخص أوقع نفسه في صراع غير متكافئ مع جهة قوية غاشمة، لأنه لم يفكّر في نتائج انفعالاته؟
إن العقلاء الواعين من الناس هم الذين يجعلون عقولهم حاكمة على غرائزهم، ويفسحون المجال لإرادتهم لضبط انفعالاتهم. فيتحلّون بالرزانة والوقار أمام المثيرات والمنبهات، ولا يستجيبون لشيء منها إلا بقرار عقلي سليم، وعبر أدوات وأساليب مناسبة.
هذا الضبط للإنفعالات، تطلق عليه في مدرسة الأخلاق عدة عناوين: كالحلم وكظم الغيظ والعفو والتسامح والصبر.
وبه يتجاوز الإنسان الضغوط النفسية التي تسببها الإثارات المسيئة، كما يتجنب الوقوع في فخ العداوات والخصومات، بل ويكسب القلوب والمواقف في المحيط الإجتماعي.
يقول الإمام علي :
«
(جمال الرجل حلمه)
(من حلم ساد)
(بالحلم تكثر الأنصار»[9] .
إن من تعيش معهم بشر، فيهم أمزجة مختلفة، وطباع متفاوتة، وفيهم جهال ومغرضون، فحدوث الإساءات والأخطاء من قبلهم أمر وارد ومتكرر، فعلى الإنسان أن يستوعب الآخرين، ويتحمل أخطاءهم وإساءاتهم ليكون أقدر على التعايش معهم.
وبإمكان الإنسان أن يروّض نفسه ويدرّبها على الإحتمال والتجاوز وأن لا ينفعل أمام أي إثارة، بل يتسامى ويغضّ الطرف عن الأخطاء، ليوفّر قوته وغضبه للموارد التي تتطلب ذلك وتستحقه.
إن الحساسية المرهفة عند البعض من الناس تجعله في حالة استنفار وانفعال دائم تجاه الآخرين، حيث تتضخم لديه الأمور البسيطة، ويغضب للمسائل التافهة. فينزلق إلى أوحال الأزمات والمشاكل. يقول الإمام علي : «من عاتب أخاه على كل ذنب كثر عدوه».
وتطرق أسماعنا قصص عظيمة، ومواقف رائعة، من حياة الرسول محمد وأئمة الهدى من أهل بيته عليهم السلام، في سموهم وتساميهم على إثارات الجاهلين والمغرضين، ومقابلتهم الإساءة بالإعراض والصفح، والحلم والعفو، لكننا غالباً ما نكتفي بهز رؤوسنا طرباً وإعجاباً بتلك الأخلاق الحضارية الرفيعة، بينما المطلوب استلهام الدروس والعبر من تلك القصص والمواقف، وجعلها في موضع التأسي والإقتداء.
1.روي أن الإمام علي كان جالساً في أصحابه، فمرت بهم امرأة جميلة، فرمقها القوم بأبصارهم، فقال :« إن ابصار هذه الفحول طوامح، وإن ذلك سبب هَبَابِها، فإذا نظر أحدكم إلى امرأة تعجبه فليلامس أهله، فإنما هي امرأة كامرأته.»
فقال رجل من الخوارج: (قاتله الله كافراً ما أفقهه). فوثب القوم ليقتلوه، فقال :« رويداً إنما هو سب بسب، أو عفو عن ذنب»[10] .
وسمع أمير المؤمنين رجلاً يشتم قنبراً - خادمه - وقد رام قنبر أن يردّ عليه، فناداه أمير المؤمنين :« مهلاً يا قنبر! دع شاتمك مهاناً ترضي الرحمن، وتسخط الشيطان، وتعاقب عدوك، فوالذي فلق الحبّة، وبرأ النسمة، ما أرضى المؤمن ربه بمثل الحلم، ولا أسخط الشيطان بمثل الصمت، ولا عوقب الأحمق بمثل السكوت عنه»[11] .
2.وكان الإمام الحسن بن علي راكباً فاستقبله رجل من أهل الشام، صار يسب الإمام ويشتمه، والحسن لا يرد عليه بشيء، فلما فرغ أقبل عليه الإمام مسلماً عليه وقائلاً:« أيها الشيخ أظنك غريباً، ولعلك شبّهت، فلو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا ارشدناك، وإن كنت جائعاً أشبعناك، وإن كنت محتاجاً أغنيناك، ولو حركت رحلك إلينا وكنت ضيفاً إلى وقت ارتحالك كان أعود عليك».
فخجل الرجل من نفسه وتغيّر موقفه من الإمام.
3.خرج الإمام زين العابدين علي ابن الحسين إلى المسجد يوماً فسبّه رجل، فأسرع الناس للإنتقام منه، فنهاهم الإمام عن ذلك، وأقبل عليه قائلاً:« ما ستره الله عنك أكثر ألك حاجة نعينك عليها؟ »
واستقبله يوماً رجل آخر يكيل له السب والشتم، فأجابه الإمام:« يا فتى إن بين أيدينا عقبة كؤودا، فإن جزت منها فلا أبالي بما تقول، وإن أتحيّر فيها فأنا شر مما تقول.»
ومرة أخرى كان الإمام زين العابدين ماشياً فاعترضه شخص معتدياً عليه بالسب والشتم، لكن الإمام أشاح بوجهه عنه، فصرخ الرجل في وجه الإمام: إياك أعني!
فأجابه الإمام فوراً: «وعنك أغضي.»
وفي موقف آخر: افترى عليه رجل وبالغ في الإسائة والشتم، فقال : «إن كنا كما قلت فنستغفر الله، وإن لم نكن كما قلت فغفر الله لك»[12] .
4.قال الإمام محمد الباقر لأحد أصحابه ومحبيه علقمة الحضرمي: «إني أراك لو سمعت إنساناً يشتم علياً فاستطعت أن تقطع أنفه فعلت.»
قلت: نعم
قال:« فلا تفعل»، ثم قال:« إني لأسمع الرجل يسبّ علياً واستتر منه بالسارية، وإذا فرغ أتيته فصافحته»[13] .
إن مثل هذه المواقف دروس نستوحي منها القدرة على التحكم في انفعالاتنا، وأن لا تستدرجنا الإستفزازات والإثارات للدخول في معارك جانبية، وصراعات طفولية.
يتصور البعض من الناس بأن غض الطرف عن الإساءة، والتجاوز عن الخطأ، يجعله في موقع الضعف والمذلة تجاه الآخرين.
وتلك وسوسة شيطانية، وعزة آثمة، تحرّض انفعالات الإنسان، وتدفعه للإسترسال مع غريزة الغضب الجامحة، وماذا ستكون النتيجة. إلا التورط أكثر في الخصومات والوقوع في مأزق العداوات؟ ويصبح الإنسان بعدها في موقع ضعف حقيقي. بينما لو اعتصم بالحلم وكظم الغيظ للحظات لوفّر على نفسه عناءً طويلاً، واكتسب عزاً حقيقياً.
لذلك يقول الرسول فيما روي عنه:« إن العفو يزيد صاحبه عزاً فاعفو يعزكم الله»[14] .
ويعتبر الرسول ضبط الإنسان لإنفعالاته علامة على القوة والشجاعة، يقول فيما يروى عنه:« ليس الشديد بالصّرعه إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب».
وخرج يوماً وقوم يدحرون حجراً فقال :« أشدكم من ملك نفسه عند الغضب، وأحلمكم من عفا بعد المقدرة»[15] .
إن خلافات وصراعات كثيرة تحدث في المجتمع بسبب الحساسية المفرطة تجاه بعض الكلمات أو التصرفات، وإن عداوات ضارة يتورط فيها الإنسان لإستجابته لبعض الإثارات والإستفزازات.
فلنحذر هذه المزالق، ولنتسلح بشجاعة الحلم للهروب من عناء وأخطار العداوات التي لا تستحق أن ينشغل بها الإنسان.