المعلم: أقدس مهنة وأخطر دور
إذا كانت المهن والوظائف تتفاوت في قيمتها تبعاً لتفاوت مدى تأثيرها في المجتمع الإنساني، فإنه يمكن اعتبار التعليم من أهم المهن والوظائف خطورة وقداسة، وقد سبق أن أعلنت منظمة اليونسكو عند إقرارها لليوم العالمي للمعلم - الخامس من أكتوبر كل عام - أن المعلم صاحب أهم مهنة في العالم.
وقبل ذلك قال أحمد شوقي في قصيدته الخالدة:
أعلمت اشرف أو أجل من الذي *** يبني وينشئ أنفساً وعقولا
وبمناسبة بدء السنة الدراسية الجديدة، حيث سيزحف أبناؤنا وبناتنا غداً السبت 4 / 6 / 1421هـ إنشاء الله إلى مدارسهم، مستقبلين عاماً دراسياً جديداً، نرجو لهم فيه كل خير وتوفيق ونجاح، بهذه المناسبة نخصص كلمتنا للحديث عن دور المعلم ومسئوليته.
صحيح أن قضية التعليم ترتبط بأطراف عديدة، ولها أبعاد وجوانب مختلفة، بدءاً من السياسات والخطط، والمناهج والمقررات، إلى استعداد الطالب وجدّيته، ودور العائلة واهتمامها، ومروراً بمستوى الإدارة والخدمات والأجواء المدرسية، وتأثيرات المحيط الاجتماعي. إلا أن المعلم يحتل موقع المحور الأساس والعنصر الرئيس في العملية التعليمية.
فالمعلم الجاد المخلص يمكنه المساعدة في سدّ الثغرات، ومعالجة النواقص، وتجسير الهوّة بين المستلزمات المطلوبة والإمكانيات المتاحة، بينما تعجز أفضل الوسائل وأرقى الإمكانيات عن تحقيق النجاح والتقدم على يد معلم فاشل.
قد ينظر البعض إلى التدريس باعتباره مهنة ومصدراً للرزق، حيث يتمتع المدرس براتب مناسب، ويحظى بإجازة سنوية مريحة.. لكن ما يجب التأكيد عليه هو خطورة المسؤولية التي يتحملها المدرس.
فهو المؤتمن على مستقبل أبناء المجتمع، وهو الجهة التي يوكل إليها تشكيل عقل الجيل الصاعد، وصياغة نفسيته، وتفجير قدراته وكفاءاته.
إن المهمة الملقاة على عاتق المعلم هي تأهيل هؤلاء الطلاب ليكونوا أعضاء فاعلين وصالحين في مجتمعهم، ومساعدتهم للنجاح في حياتهم. وإن تقصير المعلم في أداء هذه المسؤولية، يهدد بظهور جيل ناقص الأهلية، ضعيف القدرات، قاصر عن مواكبة تطورات الحياة.
وأفراد هذا الجيل الذين سيمثلون غداً على مقاعد الدراسة أمام المعلمين، هم مجتمع الغد، وسيصبحون بعد فترة من الزمن جزءاً من المحيط الاجتماعي الذي ينتمي إليه المعلم، ويتعاطى ويتفاعل معه.
فأحد هؤلاء الطلاب سيكون مسؤولاً في إدارة يرتبط بها شأن من شؤونك أيها المعلم، وأحدهم قد يصبح صهراً لك بزواجه من ابنتك أو أختك أو إحدى قريباتك، وأحدهم سيكون مدرساً ومعلماً لابنك، وأحدهم قد يصبح زميلاً لولدك ورفيقاً له. ففي أي مستوى تريد أن يكون مسؤولوا الأجهزة والإدارات الحكومية في بلدك؟ وما هو السلوك والسيرة التي ترجوها من صهرك وزوج ابنتك؟ وماذا تتوقع من المعلّم الذي يدرس ابنك؟ وما نمط الشخصية التي تحبّذ صداقتها لولدك؟
ضع هذه الصورة أمامك وتعامل مع طلابك على هذا الأساس، وأعلم أن منهجية تعاطيك معهم الآن ستؤثر إلى حد كبير في تشكيل شخصياتهم، وصنع مستوياتهم المستقبلية.
إن أول وأبرز ما يطلب من المعلم ويتوقع منه: أداء مهمته التعليمية بشكل متقن صحيح، فهناك منهج مقرر، ومادة دراسية، يجب شرحها وتبيينها للطلاب حتى يفهموها ويستوعبوها، ولأن مواد التعليم حلقات متسلسلة متواصلة، فإن ضعف استيعاب الطالب في أي نقطة منها، ينعكس على فهمه للفقرات المترتبة عليها.
ومع ملاحظة تفاوت مستوى الذكاء والاستيعاب عند الطلاب، وكون بعض المواد الدراسية فيها شيء من الدقة والصعوبة بطبيعتها، ومع ما يثار من إشكاليات ونقود على العديد من المناهج والمقررات، فإن كل ذلك يضاعف مسؤولية المعلم لكي يبذل أقصى ما لديه من جهد وطاقة، في توضيح المادة للطلاب، وتقريبها لأذهانهم وأفهامهم.
وذلك يستلزم من المدرس ما يلي:
1. الإعداد والتحضير الجيد للدرس، فلا يصح للمدرس أن يعتمد على معرفته المسبقة بالمادة، وأن يقدم درسه بشكل روتيني، وكدور مهني يؤديه، غير مهتم بعد ذلك بمدى فهم الطلاب واستيعابهم للدرس.
بل على المدرس أن يعتصر ذهنه، ويصرف جزءاً من وقته قبل الدرس للتفكير في أفضل طريقة لطرح المادة المقررة.
2. الاجتهاد في الشرح والتبيين ومراعاة متوسطي المستوى، والتأكد من وضوح الفكرة لجميع الطلاب، بالاستعانة بمختلف وسائل الإيضاح من كتابة ورسوم وصور وحركات وما أشبه.
3. استثارة فكر وعقل الطالب، بتحريضه على المناقشة، ودفعه للتساؤل، وإدارة الحوار بين الطلاب أنفسهم حول الموضوع، وتدريبهم على النقد والتفكير العلمي، لأن الاعتماد على الحفظ والتلقين طريقة كسولة خاطئة، تخلق حالة من التبلّد الذهني، وتئد قدرات الإبداع والابتكار.
4. تشويق الطلاب وترغيبهم في المادة الدراسية، بأن يكون الطرح حيوياً، فيه تجديد وطراوة، وأن يتحدث لهم عن الموضوع بأسلوب يثير رغبتهم وشوقهم لمعرفته ومتابعة تفاصيله.
إن كثيراً من العلماء والنابغين في مختلف حقول المعرفة، يتحدثون عن دور معلميهم في انشدادهم وانجذابهم نحو المادة التي نبغوا وتفوقوا فيها. وسمعت من بعض الطلاب كراهيتهم لبعض المواد الدراسية، بسبب طريقة مدرسيهم في عرضها وطرحها.
5. الاهتمام بحالات الضعف والنقص عند أي طالب، والتعرف على أسبابها وجذورها، وتلّمس طرق المعالجة والإصلاح، لمساعدة الطالب على تجاوز تلك الحالة.
إلى جانب الأسرة فإن المدرسة هي المؤسسة التي تحتضن أبناء المجتمع منذ السنوات الأولى لتفتق وعيهم وإدراكهم، وتحتويهم في فترة مراهقتهم.
ويقضي الطالب في المدرسة نصف نهاره كل يوم، وهو في حالة تلقي واستقبال نفسي وذهني، وينظر إلى المعلم باعتباره جهة مؤثرة عليه يرتبط به تدريسه وعلاماته ونجاحه.
وذلك يعني إمكانية القيام بدور تربوي أساس من قبل المعلم تجاه طلابه، فإلى جانب مهمته التعليمية يقع على عاتقه دور تربوي إرشادي، من هنا تطلق أكثر الدول عنوان وزارة التربية والتعليم على المؤسسة التعليمية، فالتربية أولاً والتعليم ثانياً.
وهذا ما سلكه القرآن الكريم عند الحديث عن وظائف النبي محمد يقول تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ [1] فالتزكية قبل التعليم وأهم من التعليم.
وفي هذا العصر نعرف جميعاً مدى الحاجة الملّحة لتربية الأبناء وتهذيب نفوسهم وتشذيب سلوكهم، حيث تتعرض القيم الدينية والاجتماعية للاهتزاز، ويعاني المجتمع من خطر انفلات أبنائه الناشئين، بسبب حالة الانفتاح الإعلامي والثقافي، الذي يبث ويروّج لأنماط من الحياة والسلوك تخالف النظام القيمي في مجتمعاتنا، ويحرّض على التسيب والميوعة والانحلال، وحيث تعصف بجيل الشباب شتى الأزمات والمشاكل الواقعية والمفتعلة.
فأين هو دور المعلم في خضم هذه الظروف والأجواء الحساسة الخطيرة؟
إن الشعور بالمسؤولية الدينية والاجتماعية يجب أن يدفع المعلم لاستنفار كل طاقاته وقدراته، واستغلال موقعيته للإسهام في تربية هذا الجيل، الذي تحدق به الأخطار من كل جهة وجانب.
وإذا كان الإسلام يوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإرشاد الجاهل، وهداية الآخرين، فإن المعلم هو في أفضل موقعية تتيح له ممارسة هذا الدور، وأداء هذا الواجب العظيم.
1. فهو بشخصيته وسلوكه يجب أن يكون نموذجاً وقدوة طيبة لتلامذته. فإذا ما ظهر عليه الالتزام بالدين، وحسن الخلق والسلوك، وطيب التعامل والاحترام، فإن ذلك يغرس في نفوسهم هذه المواصفات، ويدفعهم إلى تقمصها بداعي المحاكاة والاقتراب.
ومما يثير القلق حقاً كون بعض المعلمين يعانون من نواقص في شخصياتهم وسلوكياتهم، ومؤهلهم للتعليم لا يعدو شهادة التخرج، دون خبرة أو نضج، وهذه الشريحة من المدرسين تشكل مصدر خطر على شخصيات وسلوك الطلاب. لكنها شريحة محدودة ويمكن تلافي تأثيراتها السيئة بوعي الإدارة وسائر المدرسين.
2. أن يغتنم الفرص لتوجيه الطلاب وإرشادهم عبر مادة الدرس، أو بالتعليق على حدث ما أو مناسبة ما، وباستخدام أفضل الأساليب المؤثرة كالقصص والامثلة والنكت الهادفة.
ولدينا مقررات المواد الدينية والأدبية يمكن أن تستثمر في التربية والإرشاد، شرط اجتهاد المدرس في طرحها بشكل حيوي جذاب، يلامس هموم الطلاب وتطلعاتهم ويقترب من أجواء حياتهم وقضاياهم.
وكل المواد الأخرى أيضاً تعطي للأستاذ أكثر من فرصة ومجال لتأكيد القيم الصالحة، والنزعات الخيّرة في نفوس طلابه.
3. تشجيع الطلاب ودفعهم نحو الأجواء النافعة والبرامج المفيدة، فتشويقهم للمطالعة والقراءة، والذهاب إلى المساجد ومجالس العلماء والأدباء، والانخراط في سلك الجمعيات الخيرية والأندية واللجان الاجتماعية، بالنسبة للطلاب في المراحل الدراسية المتقدمة، كل ذلك يساعد في تحقيق الأهداف التربوية المرجوة.
ما أحوج الطالب في سنوات دراسته الأولى، وفي فترة مراهقته، إلى رعاية الأستاذ، إنه في هاتين المرحلتين يعيش رهافة في مشاعره، وتحفزاً في أحاسيسه وعوطفه، فإذا ما لقي رعاية وعناية من الأجواء المحيطة به، والجهات التي ترتبط بها شؤونه وقضاياه، وفي طليعتها بعد الوالدين المعلم، فإنه سينعم بالاطمئنان والاستقرار النفسي، مما يمكنه من تجاوز هذه الفترة الحساسة بنجاح، وأن يشق طريقه إلى النضج وتكامل الشخصية بسلامة وأمان، وتنطبع نفسه بالثقة والمحبة والانسجام مع الآخرين.
أما إذا واجه الجفاء والجفاف والقسوة والتحدي، فسيكون رد فعله النفسي والسلوكي في أحد اتجاهين خطيرين: أما الانكسار وفقدان الثقة بالذات ونمو عقدة الحقارة، وأما الاندفاع نحو التمرد والانفلات.
إن بروز الأخطاء والهفوات من الطالب أمر طبيعي ومتوقع، في وظائفه الدراسية أو تصرفاته السلوكية، وهو يحتاج إلى الاحتواء والاستيعاب من قبل المدرس، بالتغاضي عن خطئه تارة، وبالموعظة الحسنة والتوجيه الرقيق تارة أخرى.
أما الانفعال الحاد، والغضب العارم، ومواجهة الطالب بروح التشفي والانتقام، فتلك طريقة محرمة خاطئة، تكشف عن نوازع سيئة ونفسية مريضة معقدة.
وقد ينزعج الأستاذ من تقصير الطالب أو سوء تصرفاته، لكنه لا يصح أن يستخدم قوته وموقعيته في خوض صراع ومعركة مع تلميذه الضعيف في مقابله، كما يحصل من بعض الأساتذة حينما يبالغون في رد فعلهم تجاه المسيء من طلابهم، ويؤلبّون ويحرّضون المدرسين الآخرين عليه، فإن تبادل الانطباعات والمواقف السلبية تجاه الطلاب منهج سيئ خاطئ.
والأفضل لكل مدرس أن يخوض تجربته الخاصة في التعاطي مع التلامذة،دون التأثر بمواقف الآخرين.
وننبّه بشكل خاص على التعامل مع الطالبات من قبل مدرساتهن، فهذه الصبايا ذات المشاعر الحساسة المرهفة، تقع في بعض الأحيان في قبضة مدرسات عنيفات قاسيات، تنهال عليهن تجريحاً وإذلالاً لأتفه المبررات والأسباب.
إن ضمير الإنسان ووجدانه، وخوفه من الله تعالى يجب أن يردعه عن إسائة التعامل مع من أؤتمن عليهم، وأصبح مسؤولاً عنهم، وهو في موقع القوة والقدرة تجاههم.
صحيح أن هذا الطالب الضعيف أو تلك الطالبة المسكينة، لا يمتلكان قدرة على الردع أو المواجهة، لكن الله تعالى ينتصر لهما، كما ورد في الحديث عن رسول الله : «اشتد غضب الله على من ظلم من لا يجد ناصراً غير الله»[2] .
ويقول الإمام علي : «ظلم الضعيف أفحش الظلم»[3] .
فالمأمول من المعلمين الأعزاء أن يضبطوا انفعالاتهم أمام تصرفات الطلاب، ويتحلوا بالرفق والرحمة والعطف، ولا يستخدمون الحزم والصرامة إلا في المواقع الضرورية والمطلوبة. فقد روي عن رسول الله أنه قال: «ليّنوا لمن تعلّمون»[4] .
وعن حفيده الإمام جعفر الصادق : «تواضعوا لمن تعلّمونه العلم»[5] .
إن رحابة الصدر وإبداء مشاعر الرعاية والرفق، قد يكون أفضل طريق لإصلاح أخطاء الطالب، ودفعه لتحسين أدائه الدراسي، وسلوكه الأخلاقي، مع أخذ الظروف النفسية والأجواء العائلية والاجتماعية التي يعيشها الطالب بعين الاعتبار.
وأخيراً: ليكن واضحاً أمام المعلم ضخامة المسؤولية الملقاة على عاتقه، وليعلم أنه بإخلاصه وأدائه لواجبه ينال عند الله سبحانه جزيل الأجر وعظيم الثواب، إنه في عمله الدراسي لا يمارس مهنة يكافئ عليها براتب شهري فقط، بل يقوم بعمل عبادي يقرّبه إلى الله تعالى ويؤهله لنيل مرضاته، ويقدم أجل وأعظم خدمة لمجتمعه ووطنه.
لذلك ليس غريباً أن يروى عن رسول الله قوله:
«إن معلّم الخير يستغفر له دوابّ الأرض، وحيتان البحر، وكل ذي روح في الهواء، وجميع أهل الأرض والسماء»[6] .