الاعتذار عن الخطأ سلوك حضاري
صدور الخطأ من الإنسان أمر طبيعي ومتوقع، فما دام ليس معصوما فهو معرض للغفلة وسيطرة الشهوة وغلبة الانفعال، وتلك هي أرضية الخطأ ومنشأ حدوثه.
لكن الأمر المهم هو كيفية تعامل الإنسان مع خطئه. فهل يتعهد نفسه بالمراقبة والمحاسبة، ويراجع مواقفه وتصرفاته، ليكتشف أخطاءه وعثراته؟ أم يبقى مسترسلا سادرا تتكرر أخطاؤه وتتراكم دون اهتمام منه وانتباه؟
من ناحية أخرى هل يمتلك شجاعة التراجع والاعتذار عن الخطأ؟ أم يصر عليه؟ أو يتهرّب من تحمل المسؤولية تجاهه؟
ثم إن خطأ الإنسان قد يكون تجاه نفسه، أو تجاه ربه، أو تجاه الآخرين من أبناء جنسه. وحديثنا الآن مخصص لبحث هذا القسم الأخير.
اتهام الذات قبل الآخرين:
حينما يحصل خلل في العلاقة بين الإنسان وآخرين، فإنه غالبا ما يتنصل من المسؤولية، ويحمّل الطرف الآخر وزر ما حدث، فهو يـبرء نفسه ويصدر حكما سريعا على الآخر بإدانته وتحميله مسؤولية الخلل.
وهذا ينشأ من حب الذات، والدفاع عنها، والتعود على تبرير التصرفات والممارسات.
أما التفكير بموضوعية، والتعاطي بنضج ووعي، فهو يوجه الإنسان إلى اتهام ذاته أولا، ومحاسبتها على هذا الأساس حتى يثبت العكس.
وإذا أخذ الإنسان هذه الفرضية بعين الاعتبار، وحاسب نفسه وناقش تصرفاته وتعامله، فقد يكتشف بالفعل أنه كان مخطئا بحق الآخر، أو أنه شريك في الخطأ، ويتحمل نسبة معينة منه.
ويربينا القرآن على هذه المنهجيـة السليمـة في قـوله تعـالى: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [1] .
واكتشاف الخطأ هو الخطوة الأولى في طريق المعالجة والإصلاح، أما الخطوة الثانية والأهم، فهي إعلان تحمّل المسؤولية أمام الطرف الآخر، والاعتذار إليه من وقوع الخطأ تجاهه.
وهو موقف بطولي لا يصدر اختيارا إلا عن ثقة وشجاعة وعدالة وإنصاف.
فالإنسان الذي يحترم نفسه لا يرى الخطأ جزءا من شخصيته حتى يصعب عليه الاعتذار عنه، بل يراه غبارا ووسخا يرتاح بإزالته والتخلص منه.
وتحمّل مسؤولية الخطأ مظهر رفيع لالتزام العدل وممارسة الإنصاف، حيث يكون الإنسان في جانب الآخر مقابل ذاته. وكما يقول الإمام علي : «غاية الإنصاف أن ينصف المرء من نفسه» [2] .
ويقول : «ألا إنه من ينصف الناس من نفسه لم يزده الله إلا عزاً» [3] .
لماذا الاعتذار؟
الاعتذار يعني الإقرار بالخطأ، وطلب العفو والصفح من الطرف الآخر.
قال الجرجاني: الاعتذار: محو أثر الذنب.
وقال الكَفَويّ: الاعتذار إظهار ندم على ذنب تُقرّ بأن لك في إتيانه عذرا.
وقال المناوِيّ: الاعتذار: تحرّي الإنسان ما يمحو أثر ذنبه [4] .
والاعتذار سلوك حضاري يدل على احترام الإنسان لنفسه، وتقديره لغيره. وينطوي على فوائد وعوائد كثيرة من أهمها:
1- الاعتراف بالخطأ والاعتذار عنه يشكل رادعا للإنسان عن تكراره، لأن الاقدام على هذه الخطوة يكتنفها ضغط وعناء نفسي، فليس سهلا على الإنسان أن يقف موقف الإقرار والاعتذار من الآخرين، فهو نوع من العقوبة الاختيارية يفرضها الإنسان على نفسه، مما يخلق لديه حساسية وحذرا من الوقوع في حالة مشابهة، ويجعله يعيد النظر في الأسباب والعوامل التي أوقعته في الخطأ، وذلك سبيل لإصلاح النفس ومعالجة سلبيات السلوك.
بعكس ما إذا مرّ الإنسان على خطئه مرور الكرام، ولم يشعر بأي مضاعفات أو نتائج مؤذية، فقد يستهين بالأخطاء حينئذ، ويستسهل ارتكابها.
2- وهو محاولة لإصلاح الخلل الذي أحدثه الخطأ، وتدارك مضاعفاته على الآخرين، كما يشكل نوعا من إعادة الاعتبار لمن وقعت عليه الإساءة، وأداء لحقه. يقول الإمام علي :«حسن الاعتراف يهدم الاقتراف»[5] .
3- والاعتذار ينـزع فتيل الغضب من نفس الطرف الآخر، ويطفئ نار العداوة، ويحتوي الأزمة والتشنج. إن أكثر النزاعات والخصومات المترتبة على تصرفات خاطئة يمكن حلها وتجاوزها عن طريق كلمة اعتذار رقيقة، تشيع في نفس الطرف الآخر الرضا، وتشعره بإعادة الاعتبار.
4- ولا يسود هذا الخلق الحضاري الرفيع إلا عبر المبادرة لممارسته من قبل الواعين الناضجين، إن التزام أي فرد به وخاصة إذا كان في موقعية مرموقة، يشجع الآخرين من حوله على التخلق به، فإذا رأى الأبناء شجاعة أبيهم في الاعتذار إليهم عن زلل صدر منه تجاههم، فإنهم سيقتدون به في تعاملهم مع الآخرين، وإذا لاحظ العاملون في أي مؤسسة ان كبار الموظفين يتحملون مسئوليتهم تجاه الأخطاء ويعتذرون عنها، فإنهم سيسيرون على نفس النهج، وهكذا بالنسبة لسائر الموقعيات والمناصب القيادية في المجتمع.
إن كل من يتمنى ويرغب أن يتعامل معه الآخرون بهذا الأسلوب المريح، عليه أن يبادر هو بانتهاجه مع الآخرين، ليترسخ كمبدأ في العلاقات الاجتماعية، وكقيمة أخلاقية سامية.
5- الفوز برضوان الله والأمن من عقابه يوم القيامة، وذلك بالتخلص من حقوق الناس وظلاماتهم، حيث تؤكد النصوص الدينية: أن الله تعالى لا يتساهل في حقوق الناس على بعضهم البعض، كما روي عن رسول الله : «أما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئا فظلم العباد بعضهم بعضا، القصاص لا محالة» [6] .
ومثله ما ورد عن الإمام علي : «وأما الظلم الذي لا يترك فظلم العباد بعضهم بعضا، القصاص هناك شديد، وليس هو جرحا بالمدى، ولا ضربا بالسياط، ولكنه ما يستصغر ذلك معه» [7] . وعن الإمام جعفر الصادق : «في قول الله عز وجل: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾ قال: قنطرة على الصراط لا يجوزها عبد بمظلمة» [8] .
وتشير عدة أحاديث مروية عن الرسول إلى أن أصحاب المظالم والحقوق يأخذون من حسنات الإنسان يوم القيامة، حتى إذا انتهت كل حسناته توضع عليه من سيئاتهم مقابل حقوقهم عليه [9] .
إن بإمكان الإنسان أن يتخلص من كثير من الظلامات عبر لحظة اعتراف، وكلمة اعتذار، فيوفر على نفسه العناء والعذاب الشديد يوم القيامة.
خلفيات الامتناع :
لماذا يصعب على الكثيرين من الناس تدارك أخطائهم بتقديم الاعتذار إلى المتضررين؟ ولماذا التردد والامتناع عن انتهاج هذا المسلك الحضاري؟
يبدو أن هناك خلفيات نفسية وثقافية واجتماعية يمكن اعتبارها عوائق وموانع من انتشار هذا الخلق الكريم.
أولا : التفكير والتصور الخاطئ بأن الاعتذار عن الخطأ تشكل حالة ضعف وهزيمة لشخصية الإنسان، وفي الحقيقة قد يكون ذلك صحيحا لأول وهلة، وفي الظاهر، لكن واقع الأمر، إنه يكشف عن ثقة بالنفس، وشجاعة في الموقف، وهو ينتشل الإنسان من موقع الضعف الذي انحدر إليه بخطئه، إلى موقع القوة الذي يرتقيه باعتذاره، وبالتالي فإنه كسب وانتصار للإنسان على المدى البعيد.
ثانيا : التعصب للذات بتبرير أخطائها والدفاع عنها حتى في الزلات والعثرات، وذلك ما يعبر عنه القرآن الكريم بقوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَاد﴾ [10] .
إنه لا يعترف على نفسه بالخطأ، ولا يقبل لذاته أن يكون في موضع الإقرار و الاعتذار، إنه المحق دائما و أبدا، والمصيب في كل مواقفه و تصرفاته، و إن كان في أعماق نفسه مدركا لباطله و انحرافه، لكن العزة الآثمة ، والعصبية الجاهلية لا تسمح له بالتراجع و التدارك.
ثالثا: التعالي والشعور بالرفعة والتفوق: وخاصة إذا ما أخطأ الإنسان تجاه من يعتقد أنهم أقل منه شأنا ومكانة، فإنه يأنف ويستثقل طلب المعذرة منهم.
وفي الواقع فإن جوهر الأخلاق الفاضلة، وحقيقة النبل والسمو، إنما تتجلى في مثل هذه المواقف، إذ ليس فخرا كبيرا أن يعتذر الإنسان لمن هم أقوى منه، وأرفع شأنا ومنزلة، فقد تكون الظروف تفرض عليه ذلك، أو تدفعه بهذا الاتجاه، لكن الفضل والمجد هو في حسن التعامل مع الضعفاء، وأداء حقوقهم، والتزام مكارم الأخلاق تجاههم.
رابعا: الثقافة العامة والأجواء الاجتماعية: حيث قد تسود المجتمع ثقافة التفاخر والتباهي، وأجواء العصبية والمزايدات، مما يجعل الأفراد منساقين ضمن هذا التيار العام.
تماما كما نقرأ في تاريخ العرب قبل الإسلام، وكيف كانت تحكمهم العصبيات القبلية، ومشاعر الاعتزاز والفخر تجاه بعضهم البعض، وكانوا يمارسون مبدأ (انصر أخاك ظالما أو مظلوما) بمعناه الحرفي، ويستجيبون لمبالغات شعرائهم التي كانت تملأ نفوسهم بالزهو، وتزين لهم مواقف التصلب والتعالي على الآخرين.
فهذا أحدهم يقول عن قبيلته:
وننكر إن شئنا على الناس قولهم *** ولا ينكرون القول حين نقول
ويقول آخر:
وإنا أناس لا توسـط بيننـــا *** لنا الصدر دون العالمين أو القبر
ويقول ثالث:
ألا لا يجهلن أحــد علينـــا *** فنجهل فوق جهل الجاهلينـا
إذا بلغ الفطام لنــا صـــبي *** تخر له الجبابـر ساجدينــا
ولا تزال رواسب هذه الثقافة الجاهلية، وروح التعالي والتعصب، تلعب دورها في نفوس أبناء الأمة العربية إلى اليوم.
وإلا فكيف تفسر خطابات رئيس النظام العراقي صدام، ومقولات وسائل إعلامه؟
إنه يتحدث عن تفوق العراق، وعن سحق قوى الاستكبار، وعن أم المعارك، وأعظم الانتصارات التاريخية، بينما يعيش نظامه في أسوأ عزلة، ويرزح شعبه تحت أبشع حصار.
ومع كل المآسي التي أوقعها بالعراق والأمة العربية والإسلامية، عبر حربيه الظالمتين ضد إيران واحتلال الكويت، فإنه يرفض الاعتذار عن خطئه، ويكرر مقولاته الشريرة!!
كما تتمظهر رواسب الثقافة الجاهلية في مجتمعاتنا بأشكال متعددة ومختلفة، على مستوى الأفراد والتجمعات والمجتمعات.
قبول الاعتذار :
أن يقدم المخطئ اعتذاره، تلك خطوة رئيسية هامة لتجاوز الخصام و تحقيق الوئام، لكنها يجب أن تقابل بخطوة إيجابية من الطرف الآخر، وهي قبول الاعتذار والصفح عن الإساءة، لتكون ثمرة الإصلاح والود يانعة ناضجة.
ولماذا لا يقبل الإنسان عذر الآخرين، و هو معرض لأن يصدر منه ما صدر منهم؟
وأي عقوبة يريد إيقاعها بالطرف الآخر أشد من هذه العقوبة المعنوية، حيث أقر له بالذنب، و اعترف تجاهه بالحق، وتقدم إليه بطلب المعذرة والصفح؟
ثم أي كسب يسعى لنيله أكبر من هذا الكسب الاجتماعي، إذ أصبح في موقع المرتجى والملتمس منه، واتضحت أحقيته أمام الناس؟
يقول الشاعر:
ولعمري لقد أجـلك من جـاء *** مقرا بذلــة الاعــــتراف
إنه إذا تنكر لكل ذلك و أصر على رفض الاعتذار، فقد تتأثر موقعيته عند الله وفي أعين الناس، ويتحول من مركز القوة إلى موقع الضعف، ويتوجه إليه اللوم والإدانة لتصلبه وشدته.
روي عن رسول الله أنه قال: «من اعتذر إليه أخوه المسلم من ذنب قد أتاه فلم يقبل منه لم يرد عليّ الحوض غداً»[11] .
وفي حديث آخر عنه : «من لم يقبل العذر من متنصّل صادقاً كان أو كاذباً لم ينل شفاعتي»[12] .
ويقول الإمام علي :«أعقل الناس أعذرهم للناس»[13] .
ويقول : «اقبل اعتذار الناس تستمتع بإخائهم» [14] .
وورد عن الإمام علي ابن الحسين زين العابدين أنه قال: «ان شتمك رجل عن يمينك ثم تحوّل إلى يسارك واعتذر إليك فاقبل عذره»[15] .
ويقول الشاعر:
إذا اعتذر الجاني محا العذر ذنبه *** وكان الذي لا يقبل العذر جانيا
أخلاقيات التحضر
في الأمم المتحضرة و العالم المتقدم، يسود هذا الخلق الحضاري، و على أعلى المستويات، لأن الأجواء العامة لديهم من سياسية وإعلامية وثقافية تدفع بهذا الاتجاه.
فإذا ما حصل خلل أو خطأ في أداء أي مؤسسة أو جهاز فإن صاحب القرار فيها يعلن تحمله للمسؤولية، ويقدم اعتذاره، و قد يستقيل من منصبه.
ففي كوريا الجنوبية مثلا أدى تصادم قطار مع حافلة إلى وفاة عدد من الركاب، قبل فترة، فأعلن وزير المواصلات اعتذاره عن الحادث، وقدم استقالته.
وقبل أيام حينما فشلت القوات الإسرائيلية في اعتقال المجاهد محمود أبو هنود أحد القادة العسكريين لحركة حماس، وتسبب ذلك في مقتل ثلاثة جنود إسرائيليين، فإن رئيس القوة البرية الإسرائيلية أعلن تحمله لكامل المسؤولية واستقال من منصبه. بالطبع إن اليهود يلتزمون بهذه الأخلاقيات مع بعضهم البعض، أما في تعاملهم مع الآخرين، فمحكوم بعنصريتهم وعدوانيتهم البشعة.
وعلى مستوى الدول والأمم فقد أعلنت اليابان في العام الماضي اعتذارها عن الفظائع التي ارتكبها جنودها ضد كوريا وتايلاند والصين إبان الحرب.
كما قدمت ألمانيا الاتحادية عدة مرات اعتذارات رسمية للعديد من الدول الأوروبية ولليهود عن جرائم النازيين. وقدم الرئيس الأندونيسي عبدالرحمن وحيد اعتذاره عن العنف الذي مارسته القوات الأندونيسية ضد سكان تيمور الشرقية طيلة 24 عاماً من الاحتلال.
وحتى رأس الكنيسة الكاثوليكية البابا بولس الثاني أعلن اعتذاره في العام المنصرم عن الكنيسة والتجاوزات التي ارتكبها المسيحيون تجاه الأمم الأخرى، و في خلافاتهم الداخلية.
صور ونماذج:
ونجد في تاريخنا الإسلامي وسير العلماء والأولياء صورا مضيئة، ونماذج مشرقة للالتزام بهذا الخلق الكريم، فقد بعث رسول الله احد القادة العسكريين من أصحابه، وهو خالد بن الوليد، في السنة الثامنة للهجرة بعد فتح مكة على رأس فرقة من الجيش صوب احدى القبائل للدعوة إلى الإسلام، ولم يأمره بقتالهم، بعثه داعيا ولم يبعثه مقاتلا لكنه أساء التصرف، وارتكب خطأً كبيراً بقتلهم وسلبهم.
قال ابن الأثير: فلما انتهى الخبر إلى النبي ، رفع يديه إلى السماء ثم قال: «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد!».
ثم أرسل عليا ومعه مال وأمره أن ينظر في أمرهم، فودى لهم الدماء والأموال حتى إنه ليدي ميلغة الكلب، وبقي معه من المال فضلة، فقال لهم علي: «هل بقي لكم مال أو دم لم يودّ؟» قالوا: لا، قال: «فإني أعطيكم هذه البقيّة احتياطا لرسول الله (ص»، ففعل. ثم رجع إلى رسول الله فأخبره، فقال:« أصبت وأحسنت». [16] .وفي رواية قال لعلي :« أعطيتهم ليرضوا عني رضي الله عنك»[17] .
وجاء في سيرة الإمام السيد محمد حسن الشيرازي المعروف بالمجدد (1230هـ- 1312هـ) والذي كان المرجع الديني والزعيم البارز أنه في درسه العلمي، طرح مسألة ذات يوم فأشكل عليه تلميذه الشيخ محمد كاظم الخرساني صاحب كفاية الأصول، ودار بينهما نقاش سكت التلميذ في نهايته، وفي اليوم التالي بدأ الميرزا الشيرازي درسه بالاعتذار من تلميذه والاقرار بأن الحق في المسألة كان معه.
ودار نقاش مرة بين عالمين أحدهما يدعى الملا خليل القزويني والآخر الفيض محسن الكاشاني المعروف، واحتدم بينهما الجدال، وكان القزويني حادا في نقاشه وردوده، وانتهى الجدال دون نتيجة، وذهب الشيخ القزويني إلى بلده قزوين، وبحث المسألة أكثر وراجع نفسه، وتبين له أنه كان مخطئا في رأيه وموقفه، فبادر للسفر إلى كاشان منتصف الليل وطرق باب الشيخ محسن الكاشاني عند الفجر، وحينما سأل الشيخ محسن من الطارق؟ قال الملا خليل: يا محسن قد أتاك المسيء، ثم اعتذر إليه واعترف له بالحق فيما دار بينهما من نقاش. فقال له الفيض: ولماذا كلّفت نفسك عناء السفر في هذا الوقت؟ فأجاب: ما دمت اكتشفت خطأي فإن ضميري لا يرتاح ونفسي لا تستقر قبل أن أقر لك بالخطأ وأتقدم إليك بالاعتذار.
وكان عندنا في القطيف عالم فاضل هو الشيخ فرج العمران (1321هـ- 1398هـ) رحمه الله، والذي كان من سجاياه الطيبة أنه حينما يختلف مع أحد في مسأله علمية دينية، ثم يتبين له خطأ رأيه وصواب رأي الطرف الآخر، فإنه يبادر إلى إعلان اعترافه واقراره، أمام الطرف الآخر، بل ويسجل ذلك في مذكراته التي كان يطبع أجزاءها في حياته تحت عنوان )الازهار الأرجية في الآثار الفرجية(.ومن شواهد ذلك رسالة كتبها للشيخ علي بن يحيى رحمه الله على أثر نقاش بينهما في مسألة علمية ثم ظهر له صحة رأي الشيخ بن يحيى، وأثبت الرسالة في الجزء الحادي عشر من (الأزهار الأرجية) ص247.
كما ذكر في الجزء العاشر ص190 نقاشا بينه وين الشيخ الميرزا محسن الفضلي رحمه الله حول مسألة فقهية، وأن الصواب كان مع الشيخ الفضلي، كما تبين له فيما بعد.
إننا بحاجة إلى ممارسة هذا الخلق الحضاري في تعاملنا مع أبنائنا وعوائلنا، وفي تعاطينا مع المحيطين بنا، من زملاء عمل وأصدقاء، وأشخاص يعملون تحت إدارتنا ومسئوليتنا.
وكبار المجتمع وزعاماته وشخصياته أولى وأجدر بالتحلي بهذا الخلق الرفيع، ليكونوا قدوات لبقية الناس وسائر المواطنين.