الارتياب مدخل إلى العداوة
انطباعات الإنسان عن الآخرين، ورؤيته لهم، تؤثر على علاقته بهم، وتعامله معهم. فالإنطباع الجيد عن شخص يشكل أرضية للإقتراب منه، وصنع العلاقة معه، بينما الرؤية السلبية تجاه أي شخص تخلق حاجزاً نفسياً يحول دون الثقة به والإنفتاح عليه، وربما تتطور إلى دافع للخلاف والعداوة.
وتتشكل انطباعات الإنسان عن الآخرين من خلال ما يسمعه أو يلحظه من مواقفهم وتصرفاتهم.
بيد أن كل موقف أو ممارسة تصدر من أحد، غالباً ما تحتمل أكثر من تفسير إيجابي وسلبي، فحتى الأعمال المصنّفة ضمن قائمة الأعمال الصالحة، يمكن التشكيك في دوافع وبواعث القيام بها، فتكون مصدراً لانطباع سيئ.
ولأن الإنسان ليس له سبيل إلى القطع والجزم بنوايا الآخرين، ولا يعلم على وجه اليقين دوافع وملابسات كل مواقفهم وتصرفاتهم، فإن التفسيرات والإنطباعات التي تنقدح في ذهنه عنهم تبقى مجرد ظنون واحتمالات.
فالتفسير الإيجابي ينتج ظناً حسناً بينما التفسير السلبي يعني ظناً سيئاً. وهكذا تتراوح انطباعات الإنسان عن الآخرين بين حسن الظن وسوء الظن.
إن حسن الظن يمنح الإنسان رغبة واندفاعاً نحو الآخرين، ويجعله أكثر قدرة على صنع العلاقة معهم، وعلى العكس من ذلك فإن سوء الظن يخلق نفوراً من الآخرين وتحفظاً تجاههم، وقد يكون مدخلاً إلى العداوة والخصام.
يقول الإمام علي :«
(من لم يحسن ظنه استوحش من كل أحد)[1] .
(سوء الظن يفسد الأمور ويبعث على الشرور)[2] .
(من حسن ظنه بالناس حاز المحبة منهم»[3] .
الإرتياب من الريب، وهو بمعنى الشك مع التهمة[4] بأن يشك الإنسان في نوايا الطرف الآخر، ويتهمه بسوء في مقاصد أعماله وتصرفاته. وهذا الشك والإتهام إنما يحصل في نفس الإنسان، لأنه يعلم بوجود النزعات الشريرة، ويدرك أن بعض المظاهر البراقة قد تخفي وراءها أهدافاً خبيثة، وبالتالي فهو لا يستطيع أن يخدع نفسه وينظر إلى جميع الأمور والتصرفات ببراءة وثقة.
وحتى لو قرر إنسان أن يكون بسيطاً ساذجاً يتعامل مع الجميع بثقة واطمئنان، ودون أي حذر أو شك، فإنه سيتعرض لصفعات ونكبات من بعض من منحهم ثقته، تجعله يعيد النظر في ثقته المطلقة بالناس.
إذاً فليس المطلوب من الإنسان أن يكون ساذجاً لا يأخذ الإحتمالات الأخرى بعين الاعتبار، وحتى لو طُلب منه ذلك فهو غير ممكن، لأن ورود الخواطر والظنون على ذهن الإنسان ليس أمراً اختيارياً.
لذلك ذهب أكثر العلماء المفسـرين في تفسير قوله تعالى ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ ﴾[5] إلى أنّ (المراد بالإجتناب عن الظن: الإجتناب عن ترتيب الأثر عليه كأن يظن بأخيه المؤمن سوءاً فيرميه به، ويذكره لغيره، ويرتب عليه سائر آثاره، وأما نفس الظن بما هو نوع من الإدراك النفساني فهو أمر يفاجئ النفس لا عن اختيار، فلا يتعلق به النهي، اللهم إلا إذا كان بعض مقدماته اختيارياً)[6] .
لكن الخطر الحقيقي يكمن في أن يصبح الإرتياب وسوء الظن مسلكاً عاماً للإنسان، بحيث ينظر إلى كل الناس بنظّارة سوداء، ويشكك في كل أحد وكل شيء.
وهي حالة مرضية يصاب بها البعض، فيفقد الثقة فيمن حـوله، وقد تتفاقم هذه الحالة فيسيء الظن حتى في ربه وخالقه كما يحـدثنا القرآن الكريم عن بعض المشركين والمنافقين: ﴿ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ ﴾ [7] .
وتحدثنا الروايات عمن ساورتهم الظنون السيئة تجاه رسول الله وهو أقدس وأطهر إنسان من البشر، أخرج البخاري عن عروة بن الزبير: أن الزبير كان يحدّث: أنّه خاصم رجلاً من الأنصار قد شهد بدرا، إلى رسول الله في شِرَاج من الحرَّة - أي مسايل الماء في المدينة - كانا يسقيان به كلاهما، فقال رسول الله للزبير: «إسقِ يا زبير ثم أرسل إلى جارك» فغضب الأنصاري، فقال: يا رسول الله، أن كان ابن عمتـك؟ فتلوّن وجه رسـول الله [8] .
وذات يوم وقف أحد الأشخاص أمام مرجع ديني وعالم جليل محقق هو الشيخ مرتضى الأنصاري رحمه الله وكان يزور الإمام علياً في الروضة الحيدرية، ويقرأ زيارة الجامعة الكبيرة بصوت يسمع، فجابهه ذلك الشخص قائلاً: إلى متى ترائي في عملك؟ فأجابه الشيخ برحابة وابتسام: وأنت أيضاً إئت بمثل هذا الرياء[9] .
إذا كان قلب الإنسان مفتوحاً أمام مختلف الخواطر والظنون، فترد عليه دون اختيار منه، إلا أن للحالة الفكرية والنفسية وللمحيط الاجتماعي، أثراً في تحديد نوعية تلك الخواطر والظنون، أو لا أقل في تعزيز نوعية معينة منها.
فهناك عوامل عديدة تدفع الإنسان للاستغراق في الإرتياب تجاه الآخرين، وتفقده توازنه في النظر إليهم وتفسير أعمالهم وتصرفاتهم، ومن أبرزها:
1- ضعف الوازع الديني: فالقلب المتصل بالله تعالى، والذي يستشعر حضوره ورقابته، لا يختزن الظنون السيئة ولا يحتفظ بها أو ينميها في جوانحه، حتى وإن خطرت على صفحته، بل يطردها ويكنس آثارها في نفسه بذكر الله تعالى وبالوعي السليم.
يقول تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ﴾ [10] .
والطائف هو الذي يطوف حول الشيء، فكأنّ وساوس الشيطان تدور حول فكر الإنسان وقلبه، لتأخذ موقعها فيه، لكن الإنسان المتقي يتذكر ربه والقيم والمبادئ الصحيحة، ويحاكم تلك الوساوس على أساسها، فيمتلك البصيرة والرؤية السليمة، التي يتجاوز بها الأوهام والظنون. روي عن رسول الله أنه قال: «حسن الظن من حسن العبادة»[11] .
ويقول الإمام علي :«
(أفضل الورع حسن الظن)[12] .
(لا إيمان مع سوء الظن»[13] .
2- مرآت الذات: غالباً ما ينظر الإنسان للآخرين من خلال ذاته، فإذا ما وجد نفسه يقوم ببعض الأعمال الصالحة بباعث مصلحي نفعي، فإنه قد يفترض نفس الحالة في الآخرين، وإذا كان يمارس بعض التصرفات الخاطئة، ضمن ظرف معين، ثم رأى آخرين في نفس الظرف، فسيعتقد أنهم يفعلون ما فعل. وعلى العكس من ذلك صاحب الذات الطيبة، والنوايا السليمة، فإن أول ما يتبادر إلى ذهنه حسن الظن بالآخرين.
يـقول الإمام علي :«الرجل السوء لا يظن بأحد خيراً لأنه لا يراه إلا بوصف نفسه»[14] .
ويقول في كلمة أخرى: «الشرير لا يظن بأحد خيراً لأنه لا يراه إلا بطبع نفسه»[15] .
وينقل عن أحد العلماء الصالحين أنه إستغرب حينما أخبر عن سارق سطا على أحد المنازل قرب الفجر متسائلاً: متى أنهى صلاة الليل حتى وسعه الوقت للسرقة؟
ويقول مثل شعبي: كلٌ يرى الناس بعين ذاته.
3- أجواء السوء: العناصر المنحرفة السيئة تجد نفسها معنية بتتبع العثرات والأخطاء التي تصدر من هذا وذاك، لتبرر لذاتها الإنحراف، وحتى تتوجه الأنظار إلى أخطاء غيرهم، بدل التركيز عليهم، وأيضاً للتخفيف من وقع انحرافاتهم في الوسط الإجتماعي، ما دام غيرهم يشاركهم فيها.
يقول الإمام علي : «ذوو العيوب يحبّون إشاعة معائب الناس ليتسع لهم العذر في معائبهم»[16] .
كما تجد هذه الفئة نفسها في مواجهة مع المؤمنين الصالحين، فتسعى لتشويه سمعتهم، والتشكيك في نواياهم.
لذلك فإن من يقترب من هذه الأجواء السيئة، يتأثر بالإشاعات التي تدور فيها، وتتسرب إليه الظنون السيئة تجاه الآخرين الأبرياء، يقول الإمام علي : «مجالسة الأشرار تورث سوء الظن بالأخيار»[17] .
وقد نجد مثل هذه الحالة بين الإتجاهات المختلفة، فإذا كانت هناك فئة متدينة ذات نشاط وفاعلية إجتماعية، فإن الفئة الأخرى التي ليس لها دور ولا نشاط، قد تشعر بنوع من الحرج داخل نفسها وأمام الآخرين، ولدفع هذا الحرج فإنها تبحث عن أخطاء العاملين المصلحين، وتضخّم الهفوات، وتشكك في سلامة طويتهم، واستقامة مسيرتهم، وذلك يخلّف أثراً على نفوس المحيطين بهذه الفئة، والقريبين من أجوائها، فيصبح لديهم شيء من التحفظ والارتياب تجاه الفئة العاملة التي تخدم قضايا الدين والمجتمع.
4- الميل للمشاكسة: الإنسان المهتم بكسب محبة الآخرين، يحرص على توفير فرص الانفتاح عليهم والاقتراب منهم، لذلك يربي نفسه على التعاطي الإيجابي مع الآخرين، بدءاً من النظر إليهم، والتفسير لأعمالهم ومواقفهم، عدا الحالات التي يتأكد من عدم صلاحها.
أما الإنسان المعقد، والذي يميل إلى المشاكسة والمنازعة، فإنه يرمق الآخرين دائماً بنظرات الشك والريب، ليبرر بذلك مشاكسته لهم، وإبداء الإساءة تجاههم.
أسوأ ما في الإرتياب أنه يصبح مدخلاً ومعبراً إلى التجاوزات العدوانية على الآخرين، فهو قد ينتج فتوراً في العلاقة أو قطيعة تامة، كما قد يتحول من مجرد ظن وارتياب داخل نفس الإنسان، إلى افتراء على الجهة التي تعلق بها، حيث يشيع الإنسان ظنونه وشكوكه لدى آخرين، وبالتالي فإنه ينال من سمعة ذلك الطرف، ويشوّه شخصيته، ويصنع عليه جواً من الدعاية المضادة، كل ذلك اعتماداً على ظن مجرد ودون إثبات أو دليل، فيجد الطرف الآخر نفسه في قفص الإتِّهام، ومحاطاً بالشكوك والتساؤلات، وكما قال الشاعر:
قد قيل ما قيل إن صدقاً وإن كذباً **** فما اعتذارك من قول إذا قيلا[18]
وقد تتطور الأمور إلى أكثر من ذلك اعتداءً وإساءة، ونزاعاً وفتنة. يقول الإمام زين العابدين علي ابن الحسين : «فإن الشكوك والظنون لواقح الفتن، ومكدرة لصفو المنائح والمنن»[19] .
لذلك تؤكد التعاليم الإسلامية على اجتناب سوء الظن، وعدم جواز ترتيب أي أثر عليه في التعامل مع الآخرين.
فالفقهاء يذكرون في فتاواهم أن أي شك ينتابك فيمن كنت واثقاً من عدالته، فإن ذلك الشك لا قيمة له بل تستصحب الحالة السابقة، ولست مكلفاً بالفحص، فإذا قلدت مرجعاً دينياً لعلمك باجتماع شرائط التقليد فيه، ثم شككت في زوال شيء من المواصفات، فإن عليك أن تبقى على تقليده حتى يتوفر لك العلم، وليس الظن أو الشك.
و كذلك لو كنت تصلي جماعة خلف إمام تثق بعدالته، ثم طرأ لك ظن أو شك في بقائه على العدالة، فإنك لا تبالي بذلك الظن و الشك، و تستمر في البناء على عدالته و الصلاة خلفه.
هناك قاعدة تعتبر من أشهر القواعد الفقهية المتداولة بين الفقهاء، ويتمسك بها في معظم أبواب الفقه أو كلها، وقد عنونها كثير منهم بعنوان (أصالة الصحة في فعل الغير).
حول هذه القاعدة يقول الفقيه الشيخ ناصر مكارم:
(إن حمل فعل الغير على الصحة يتصور له معان ثلاث:
أولها: الاعتقاد الجميل في حقه، وترك سوء الظن به، بأن لا يضمر المسلم لأخيه ما يزري به ويشينه، ويعتقد أنه لم يفعل سوءاً عن علم وعمد وإن صدر منه ذلك خطأً أو نسياناً… إن الشارع الحكيم يأمر بتحصيل الإعتقاد الحسن في حق المسلمين ونفي اعتقاد السوء عنهم، لما فيه من المصالح التي لا تحصى، كجلب اعتماد المسلمين بعضهم ببعض، ورفع الضغائن عنهم، ودفعاً لما في سوء الظن والإعتقاد من التفرقة والتباعد واختلال النظام وإثارة الفتن بينهم، كما هو ظاهر لمن تدبر.
ثانيها: ترتيب آثار الحسن الفاعلي عليها، أي المعاملة مع فاعله معاملة من أتى بفعل حسن، وعدم المعاملة معه معاملة من ركب أمراً قبيحاً، من حسن العشرة معه، والركون إليه فيما يركن على من لم يُر منه قبيح.
ثالثها: ترتيب آثار الفعل الصحيح الواقعي على فعله، بمعنى فرض عمله صحيحاً واقعاً، و في نفس الأمر)[20] .
أما النصوص الدينية التي تحذر الإنسان المسلم من الإنزلاق في مزالق الإرتياب، وتوجهه إلى التفكير والتعامل الإيجابي مع الآخرين، والبحث عن أفضل الإحتمالات والتفاسير لتصرفاتهم وممارساتهم، هذه النصوص كثيرة جداً، وعلى بعضها اعتمد الفقهاء في تأصيل قاعدة أصالة الصحة.
جاء عن أم المؤمنين عائشة عن رسول الله : «من أساء بأخيه الظن فقد أساء بربه»[21] .
وعنه : «اطلب لأخيك عذراً فإن لم تجد له عذراً فالتمس له عذراً»[22] .
وعن أبي عبد الله الصادق قال: قال أمير المؤمنين علي : «ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يغلبك منه، ولا تظنّنّ بكلمة خرجت من أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملاً»[23] .
ماذا يفعل الإنسان إذا ألحّ على قلبه ظن سلبي تجاه إنسان آخر؟ وكيف يستطيع أن يواجه ذلك الخاطر السيء؟
قد يصعب عليه تجاهل شك سيطر على ذهنه، وهو في ذات الوقت لا يرغب في الإستمرار مع مفاعيل الظن السوء.
إن الوعي السليم والتفكير الموضوعي يفرض على الإنسان هنا الانفتاح على الشخص المعني ومصارحته بما يدور في نفسه حولـه، لإعطائه الفرصة لتوضيح موقفه، إن كان له مبرر أو مسوّغ وتشجيعه على التراجع عن خطئه إن كان مخطئاً.
يقول المفكر الفرنسي روجيه ميل:
إنني لا أستطيع اجتناب الشك، ما دام كل إنسان يتميز، أول ما يتميز، بواقع أنه حامل سر لولاه لما تحلى بوجود صميمي إطلاقاً. وينجم عن أنني أنا نفسي مما يمكن أن يطاله الشك، ولذا فإنني لا أستطيع ألا أشك في الآخرين. فما السبيل إلى الخلاص من هذا الدرب المسدود؟ ليس ثمة غير سبيل واحد: سبيل الاعتراف للآخر بالشك الذي ينتابني بصدد قوله وعمله. وهذا الاعتراف بالشك يستطيع وحده إعادة الحوار ومنحه صحة وصدقاً. ولا شيء ينم عن احترام الشخص الإنساني مثل أن يقال له: أحسب أنك… ذلك أنني أسلم نفسي على هذا المنوال إلى الآخر، واعترف بدوري بأنني موضع ارتياب ممكن أيضا. وهذا يكفي حتى نبلغ كلانا درجة صدق أسمى[24] .
ما أحوجنا إلى الشفافية والوضوح، وأن يكون الانفتاح والمصارحة هو السبيل لمعالجة تحفظاتنا وإشكالاتنا على بعضنا بعضاً، بدل أن نعيش في ظل أجواء ملبّدة بغيوم الشكوك والظنون، وأن تتضرر علاقاتنا الاجتماعية بتأثير حالات الارتياب والافتراء.